لم يعد الراتب يكفي، ما كنت أشتريه وأؤمنه من حاجات المنزل والتزامات شهرية بمعاشي لم يعد كذلك اليوم رغم زيادة أجري، الأساسيات اليوم أصبح بعضها مؤجل، هذا ما قالته سيدة سورية تقيم في تركيا لـ “الحل نت”، الحال الذي يعتبر نتيجة لمجموعة من العوامل الاقتصادية المترابطة، على المستوى الدولي والداخلي للبلاد.

 خبراء اقتصاديون يشيرون إلى أن زيادة الأجور في بلد ما، لا يعني بالضرورة زيادة حقيقية وفعلية بالقوة الشرائية، فقد تكون الزيادة أسمية، وهو ما يحصل في تركيا مثلا.

الخاسر الأكبر

العديد من الدول تحاول أن تجهّز نفسها لتفادي أي كوارث قد تحدث على المستوى الاقتصادي للبلاد، خصوصا أن لذلك تبعات سياسية واجتماعية وإنسانية، وإذا تحدثنا عن الدول ذات الاقتصادات المتقدمة ربما يكون الأمر أكثر أمانا، لكن إذا أدرنا العدسة إلى الدول ذات الاقتصادات النامية او الناشئة، فسيكون المشهد قلقا.

عن ذلك، حذر البنك الدولي من أن انكماش قيمة العملات في معظم الاقتصادات النامية، قد تسبب بارتفاع أسعار الغذاء والوقود على نحو قد يفاقم من أزمات الغذاء والطاقة التي تشهدها بالفعل كثير من هذه البلدان.

في تقرير “آفاق أسواق السلع الأولية”، أشار البنك الدولي إلى أن “أسعار معظم السلع الأولية المحسوبة بقيمة الدولار، تراجعت عن مستويات ذروتها، بفعل المخاوف من ركود عالمي وشيك”.

رغم انخفاض سعر نفط “برنت” الخام مقوما بالدولار الأميركي نحو 6 بالمئة، إلا أنه وبسبب انخفاض قيمة العملات، شهد قرابة 60 بالمئة من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية المستوردة للنفط، ارتفاع أسعار النفط بالعملة المحلية خلال الأشهر الفائتة، وشهد نحو   90 بالمئة من هذه الاقتصادات أيضا، زيادة أكبر في أسعار القمح بالعملات المحلية بالمقارنة بزيادة الأسعار بالدولار الأميركي، وفقا لبيانات البنك الدولي.

 ارتفاع أسعار سلع الطاقة التي تعد من مستلزمات الإنتاج الزراعي، أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية كذلك، وفق لما أوضحه التقرير، وعن معدلات تضخم الأسعار، قال إنه “خلال الفصول الثلاثة الأولى من عام 2022، بلغ معدل تضخم أسعار المواد الغذائية في منطقة جنوب آسيا في المتوسط أكثر من 20 بالمئة، أما معدل تضخم أسعار الأغذية في المناطق الأخرى، ومنها أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إضافة لإفريقيا وشرق أوروبا وآسيا الوسطى، فقد تراوح في المتوسط بين 12 و15 بالمئة”.

مسؤولون في البنك الدولي رجحوا في حال حدوث قفزة أخرى للأسعار العالمية للمواد الغذائية، فإن ذلك قد يطيل أمد تحديات انعدام الأمن الغذائي في مختلف البلدان النامية.

 تأثير شامل

قبل أسبوع، وافق الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي)، على رفع سعر الفائدة للمرة الرابعة على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس، لأسباب ترى الولايات المتحدة أن من شأنها الحد من التضخم الحاد الذي يعاني منه الاقتصاد الأميركي، لكن مسألة زيادة سعر الفائدة لا يقتصر بنتائجها على الولايات المتحدة فحسب، وإنما تتعدى ذلك لتؤثر حتى على السيدة السورية آنفة الذكر التي لمست تغيرات اقتصادية كبيرة محلّ إقامتها.

قرار الفيدرالي الأميركي، من شأنه أن يؤثر على تخفيض قيمة عملات بلدان عدة، خصوصا تلك الناشئة أو النامية، وبالتالي ستتفاقم المشكلات الاقتصادية التي يعاني البلد منها، بحسب حديث أستاذ الإدارة المالية في أكاديمية “باشاك شهير” التركية، الدكتور فراس شعبو.

رفع سعر الفائدة، وفق شعبو، يزيد كذلك من قيمة العملة، ويخفض التضخم، وبالتالي انخفاض الأسعار، لكن معدلات التضخم أحيانا تؤثر في الارتفاع العام للأسعار، حتى مع ثبات أسعار صرف العملات.

رفع أسعار الفائدة الأميركية، زاد الضغوط على أسعار عملات الأسواق الناشئة، وعلى العملات بشكل عام، وفق حديث الصحفي والكاتب في الشأن الاقتصادي مرشد النايف، لـ “الحل نت”.

عملات الأسواق الناشئة تتعرض إلى أوقات صعبة، جراء انسحاب المستثمرين منها، وتوجيه تدفقاتهم النقدية إلى شراء أصول بالدولار، أو الاستثمار فيه كونه أحد الملاذات الآمنة، بحسب النايف، حيث يقول أيضا، بأن هجرة الرساميل نحو الدولار الأميركي، أفقد الأسواق الناشئة نحو 4 مليارات دولار، كانت على شكل سندات، من أيار/مايو الماضي وحتى الآن.

السندات في الأسواق الناشئة تراجع أيضا بنحو 16 بالمئة بين أيار/مايو الماضي والوقت الحالي، ومن المتوقع في المستقبل أن ترتفع هذه النسبة كثيرا، وفق النايف، والذي أسهب بالقول، إن “المشكلة حاليا أن الدولار الأميركي ارتفع إلى أعلى مستوى له خلال 20 عاما، واستنزف احتياطيات الأسواق الناشئة من الدولار الأميركي بأسرع معدل منذ عام 2008، وهذا ما أضاف ضغوطات جديدة على البنوك المركزية في الاقتصاديات الناشئة.

أسباب أخرى

لتراجع قيمة عملة بلد ما هناك أسباب عدة تتقاطع فيما بينها، إذ يقول يحيى السيد عمر الباحث في الاقتصاد السياسي لـ “الحل نت”، إن التضخم يلعب دورا واضحا وسريعا في تراجع قيمة العملات، وتراجع قوتها الشرائية، وغالبا ما يترافق بالتخلي عن العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية لا سيما الدولار الأميركي، وهو ما يعرف بـ”الدولرة”، وفق تعبيره.

“التمويل بالعجز” أيضا يساهم بتراجع قيمة العملة الوطنية، بحسب السيد عمر، ويقصد فيه طباعة المزيد منها لتمويل عجز الموازنة العامة، وهذا يعني زيادة عرض العملة الوطنية في السوق، وكلما ازداد عرضها كلما انخفضت قيمتها.

عن ذلك يوضح شعبو، أن “الدول التي تعاني من مشاكل اقتصادية، تلجأ لطباعة العملة أي زيادة المعروض منها، وهو أداة من الأدوات التي تستخدمها الدول لتأمين احتياجاتها وسداد التزاماتها من خلال طباعة العملة بدون تغطية بشكل أو بأخر”.

بعض الدول تلجأ متعمدة لتخفيض قيمة عملتها المحلية لجذب المزيد من المستثمرين، وزيادة صادراتها إلى الخارج، ما يعني زيادة النمو ودخول عملة أجنبية بشكل أكبر، لكن ذلك يؤدي أيضا إلى تضخم الأسعار في داخل البلد، على حساب التشغيل التجاري، وهو بالضبط ما تحاول تركيا فعله عندما خفضت سعر الفائدة، أسوة بكل من اليابان والصين التي تعتمدان على التجارة والتصدير خصوصا بشكل كبير، والذي يسمى بعلم الاقتصاد “الميزان التجاري” أي النسبة بين صادرات وواردات بلد ما، وفق شعبو.

عن تأثير الحروب والنزاعات إلى جانب الضغوط السياسية، يشير السيد عمر إلى أن بعض العملات الوطنية قد تتعرض لضغوط خارجية على شكل مضاربات هدفها سياسي، وبالتالي تتراجع العملات بسبب عدم الاستقرار سياسيا أو عسكريا، وتتراجع الثقة في الاقتصاد الوطني عموما، وهو ما يؤيده فيه شعبو.

أزمات ولّادة

بينما تنشأ مشكلة اقتصادية في بلد ما، هناك أزمات ومشكلات أخرى تولد معها، ووفق السيد عمر، عندما تتراجع قيمة العملة، تتراجع الثقة بالاقتصاد، وينخفض معدل الاستثمار الأجنبي، ويتراجع الإنتاج، لاسيما في حال تذبذب العملة، ويؤثر على الاستقرار السياسي، وقد يؤدي إلى سقوط حكومات بظل اضطرابات اقتصادية سياسية، بحسب تعبيره.

على مستوى المناخ الشعبي العام، يؤدي تراجع قيمة العملة إلى تراجع قيمة الدخول الحقيقية، وتآكل قيمة المدخرات، وتراجع مستوى المعيشة، إلى جانب زيادة معدلات الفقر، وربما هناك يمكن التأكيد على أن تراجع عملات البلدان النامية، يفاقم فعلا من أزماتها، كما أشار من قبل البنك الدولي.

المد التضخمي في العادة إذا لم يرافقه سياسات حماية اجتماعية، ينجم عنه تراجع للأمن الغذائي للناس، أو تراجع القوة الشرائية لديهم، وبالتالي تتراجع قدرتهم في الوصول للسلع المختلفة، من بينها السلع الغذائية بمعنى أن التضخم يؤثر على الأمن الغذائي وهناك علاقة بينهما، وفق الصحفي مرشد النايف.

لكن شعبو يرى أن تأثير تراجع قيمة العملة على الأمن الغذائي لبلد ما محدود، لأنه موضوع مؤسسي ودولي، وليس عبارة عن أفراد، وبالتالي مهما تغيرت قيمة العملة نعم قد يتأثر نوعا ما، لكن اعتقد انه استراتيجية حياة أو موت، لا يمكن المساس به بسهولة.

عند تراجع قيمة العملة سينعكس ذلك على المستوى العام للأجور والأسعار، وبالتالي على حجم الرفاهية في البلد وعلى الطبقات الموجودة في المجتمع، مثلما يبدو جليا في تركيا، ومصر، وسوريا واليمن، والعراق، وهو ما يؤدي في المحصلة إلى سخط شعبي، وفي الدول المتقدمة، يظهر تأثير ذلك على حسابات صناديق الاقتراع، لذلك تحاول كثير من الدول أن تنعش اقتصادها، لاسيما فترات ما قبل الانتخابات.

حلول ممكنة

الحل لضمان استقرار العملات الوطنية مرهون بعدة قضايا، منها وجود استقرار في السياسة النقدية والمالية للحكومات، وتشجيع الإنتاج والتصدير وتشجيع الاستثمار الأجنبي، وتعديل الميزان التجاري، بحسب السيد عمر.

من جهته، يدلّ شعبو، إلى ضرورة الاستقرار السياسي، وتوفر البيئة الداعمة للاستثمار، إضافة إلى تعزيز نقاط القوة، هل هي دولة زراعية أو صناعية أو تجارية، واستغلال هذه الميزات، لتنشيط الاقتصاد وتنمية عجلته ودوران معدلات رأس المال، وإعادة ترتيب أوضاع المصرف المركزي، والسياسة النقدية (أسعار الفائدة والنقود الاحتياطي)، والسياسة المالية (الضرائب والنفقات).

قد يهمك: ارتفاع “جنوني” لأسعار المواد الغذائية.. السَلَطة والمجدرة محرمات على السوريين؟

في الوقت الذي تحاول بعض الدول تحسين واقعها الاقتصادي والسياسي، هناك دول تحافظ على تدني مستوى اقتصاداتها، متعمدة إبقاء شعوبها في أوضاع متدهورة، لتزيد من تقييدها لحرية المواطن وحقوقه، بينما تهيمن الدولة على مفاصل الاقتصاد وإيراداته لصالح جماعاتها، وهو ما يفاقم من أزمات وهموم المواطن، ليدفع ثمن ذلك منفردا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.