بعد قطيعة دامت لسنوات طويلة، تحديدا إثر عزل جماعة “الإخوان” من حكم مصر، بينما قامت تركيا بشن حرب إعلامية ضد القاهرة ثم توفير ملاذات آمنة لقيادات جماعة “الإخوان” المصنفة إرهابية في مصر كما في عدة دول عربية، بالإضافة إلى عدد من الشخصيات المنتمية لتيار الإسلام السياسي وبعضهم متورط في حوادث عنف واغتيالات، يبدو أن العلاقات بين البلدين تتجه صوب المصالحة والتقارب من جديد وربما طي صفحة الخلافات.

ربما تبدو تهدئة أو محاولة لإيجاد مقاربة سياسية جديدة ومغايرة، من خلال فتح قنوات دبلوماسية لإدارة العلاقات التي شهدت درجة قصوى من التأزم بين القاهرة وأنقرة، فخلال شهر شباط/فبراير الماضي أجرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي اتصالا هاتفيا بنظيره التركي رجب طيب أردوغان، للتضامن مع أنقرة عقب الزلزال المدمّر الذي ضرب مناطق بسوريا وتركيا. الاتصال المصري جاء بعد المصافحة التي جرت بين الرئيسين على هامش المباراة الافتتاحية لكأس العالم لكرة القدم بقطر.

كما وانخرطت القاهرة وتركيا في محادثات، منتصف العام الماضي، بينما عاود الجمود يفرض نفسه على العلاقات. ورغم أن القنوات المحسوبة على جماعة “الإخوان” قد استجابت لتعليمات بتخفيض حدة الانتقادات الموجهة للحكومة والنظام في مصر، بل إن إحدى هذه القنوات قد أنهت البث تماما من على الأراضي التركية، إلا أن القاهرة لديها مطالب مباشرة بضرورة تسليم العناصر المتورطة في حوادث اغتيالات.

تنافس لن يحل بسهولة؟

اللافت أن وزير الخارجية المصري سامح شكري قد أجرى زيارة إلى تركيا بعد أعوام طويلة من توتر العلاقات، إثر الزلزال المدمر في شباط/فبراير الماضي، وذلك في ما وصف بدبلوماسية الكوارث، وهي الزيارة التي اعتبرها مراقبون انعطافة جديدة ومؤشر على تبدل المواقف.

فيما سادت تصريحات تعبّر عن الآمال بعودة العلاقات إلى طبيعتها بين الدولتين. وقبل نحو أيام قام وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بزيارة رسمية للقاهرة، في أول زيارة لمسؤول تركي رفيع المستوى لمصر، بعد عقد من العلاقات المتأزمة بين البلدين منذ عام 2013. وفيما يبدو أن الموقف المصري ثابتا عند نقطة رفضه أي تنازلات بخصوص الملف الذي سبب هذا التأزم، ممثلا في الموقف من جماعة “الإخوان”. وكان لافتا غياب صورة محمد مرسي من جدارية وزارة الخارجية والتي ضمت رؤساء مصر في حقب مختلفة.

بغض النظر عن بقية الجوانب التي دارت ونوقشت بين الجانبين، فإن هذا التقارب المصري التركي قد يشكل أزمة إضافية، ويبعث بضغوط جمّة على جماعة “الإخوان”، سواء من الناحية التنظيمية والحركة أو السياسية والأيدولوجية. فالجماعة تقع تحت وطأة أزمات عنيفة تجعل دورها الوظيفي يتلاشى وتضعها في أسوأ فترات تاريخها، حيث لم يعد لها ثمة وجود أو تأثير، حتى أن القواعد تفككت تنظيميا من نطاقات سيطرة القادة، للمرة الأولى تاريخيا. وبنفس درجة تباعد القاعدة الإخوانية عن قمة الهرم التنظيمي، انقسم رأس التنظيم وتشظى لمحورين أحدهما في إسطنبول والآخر في لندن.

هذه الأزمة التي يشهدها “الإخوان” على خلفية التقارب بين القاهرة وأنقرة تكّمن في احتمالية قيام أنقرة بتسليم بعض الشخصيات للقاهرة، أو قد تقوم بترحيل عدد كبير منهم للخارج وإيقاف دعمها لهم، مما سيحد بشكل كبير من أنشطتهم، ولا سيما الإعلامية، حسب التقديرات.

بحسب مراقبين، فإن التنافس والمواجهات المحتدمة في أكثر من ملف إقليمي بين البلدين لن يحل بسهولة، بل يحتاج إلى مزيد من الوقت، واستدراكا على ذلك فإن وزيرا البلدين لم يتطرقا أبدا إلى قضية “الإخوان” أثناء تصريحاتها الرسمية والعلنية عقب الزيارات المتبادلة خلال الآونة الأخيرة.

وعليه، فالتساؤلات عديدة حول تداعيات التقارب المصري التركي على جماعة “الإخوان”، وآثار ذلك في حال حدوث تقارب مصري تركي تام. مع العلم أن هناك مراحل سبقت زيارة وزير الخارجية التركي للقاهرة والتي تزامن معها الإعلان عن زيارة مرتقبة لأردوغان أيضا، وخلال هذه الفترة قبل أقل من عام تقريبا شهدت صفوف “الإخوان” ومنصاتهم تضييقات واضحة، وكذا تغيير مباشر في خطابها السياسي والإعلامي، لذا فهل سيتقلص نفوذ “الإخوان” في تركيا وتتخلى الأخيرة عن توفير الحاضنة والملاذات الآمنة لهم، وكيف ستكون المرحلة المقبلة بين البلدين وتداعياتها على هذه الملفات الخلافية ومنها “الإخوان”.

التبعات ونظرة “الإخوان” لهذا التقارب

وزيرا البلدين التقيا في القاهرة صباح يوم السبت الفائت، في أول زيارة لمسؤول تركي رفيع المستوى لمصر بعد عقدٍ من العلاقات المتوترة بين البلدين. وقال وزير الخارجية التركي، جاويش أوغلو، إنه يجري حاليا التنسيق لعقد لقاء بين الرئيسين السيسي وأردوغان، وذلك في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره المصري، شكري.

جاويش أوغلو أكد أن العمل جارٍ لإعادة تبادل السفراء مع مصر خلال الفترة المقبلة، مضيفا أن مصر دولة مهمة في حوض المتوسط، وتعهد بتعاون أكبر بين أنقرة والقاهرة خلال الفترة المقبلة على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي. ودعا نظيره المصري لزيارة أنقرة، مشددا على أن الزيارات بين الطرفين ستكون متواصلة، مضيفا أنه سيتم العمل على رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية مع مصر إلى مستوى السفراء في أقرب وقت ممكن، وفق تقارير صحفية.

شكري من جانبه وصف المباحثات الثنائية هذه بالمهمة والشفافة، مشددا على ثقته باستعادة العلاقات مع تركيا بشكل قوي، مضيفا أن بلاده تسعى لتطبيع العلاقات مع تركيا في كافة المجالات، وأكد على وجود إرادة سياسية لإطلاق مسار التطبيع الكامل مع أنقرة.

هذا التقارب يأتي في ظل جملة من الأزمات والأوضاع المرتبكة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتزامن الأزمة الاقتصادية في مصر مع أزمات أخرى في الداخل التركي، يحاول نظام أردوغان التعاطي معها عبر العودة إلى انتهاج استراتيجية صفر مشكلات، لكن هناك عقبات متعددة أمام الوصول إلى تطبيع كامل في العلاقات، لعل أبرزها رغبة مصر في قيام تركيا بتسليمها عدد من قيادات “الإخوان المسلمين” الهاربين، وهو ما تحاول أنقرة التملص منه، بداعي أنها قامت بالفعل بتحجيم تحركات “الإخوان” داخل أراضيها، وأن الجماعة التي تعيش أسوأ فترات تاريخها، لم يعد لها وجود فعلي على الأرض، لكن الأزمة الأكبر تظل في ليبيا، وتضارب المصالح بين البلدين، وكذلك حول غاز شرق المتوسط، حسبما يوضح الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية والمحاضر في العلوم السياسية، الدكتور سامح إسماعيل لموقع “الحل نت”.

تركيا بالفعل اتخذت مجموعة من الإجراءات القاسية ضد “الإخوان المسلمين”، لعل آخرها كان ترحيل الإعلامي الإخواني حسام الغمري من أراضيها، بعد أن تم توقيفه لفترة، كما أن “جبهة إسطنبول” الإخوانية شرعت بالفعل في تحويل مسارات الأوعية المالية الخاصة بها من تركيا إلى أماكن أخرى، بعد قيام السلطات التركية بمتابعة حركة هذه الأموال، كما تقلص نشاط هذه الجبهة في تركيا إلى حد كبير؛ ما يعني أن الملاذ الآمن بات مجرد مكان للإيواء ليس إلا، وهو ما دفع منابر التنظيم الإعلامية إلى ترك تركيا، والتوجه إلى لندن ومناطق أخرى، وفق ما يقوله إسماعيل.

قد يهمك: السعودية وإيران تنهيان عقودًا من العداء.. إلى أين تتجه علاقات القاهرة وطهران؟ – الحل نت 

إلا أن تغيير سياسة تركيا تجاه التعامل مع ملف دعم جماعة “الإخوان”، والذي يعد من أبرز النقاط الخلافية بينها والقاهرة، لا يمكن التعويل عليها كثيرا. فربما أنقرة تمارس سياسة مصالحات براغماتية مؤقتة تخضع للظروف المباشرة ولغة الأرقام، ولا سيما مع قرب الانتخابات الرئاسية التركية، الأمر الذي دفعها خلال الفترة الماضية اتباع سياسة “صفر مشاكل” مع دول المنطقة، وفق وجهة نظر بعض المصادر المقربة من جماعة “الإخوان”.

مع ذلك، لا يخفى على أحد أن الجماعة محاطة بمخاوف كثيرة نتيجة هذا التقارب، حيث ثمة هواجس من إبعادهم من الأراضي التركية أو حتى اعتقال بعض شخصياتهم النشطة وتسليمهم لمصر، بحسب الرأي نفسه.

خيارات تركيا محدودة

الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الجهادية، إسماعيل، يرى أن تركيا لا خيار أمامها في الوقت الراهن، سوى التوقف عن تحمّل تكلفة اللعب بورقة “الإخوان” المحترقة، لا سيما وأنها تسعى إلى تطبيع مماثل مع الإمارات والسعودية، وبالتالي سوف تحاول اختزال دعمها للتنظيم إلى أقصى حد ممكن، لكن لا يعتقد إسماعيل أنها سوف تسلّم قيادات الجماعة إلى مصر، ربما تدفع من صدر بحقهم أحكام قضائية إلى مغادرة أراضيها، لأنها في النهاية لا تريد أن تفقد ورقة ضغط في يدها، حتى وإن أصبحت ضعيفة.

هذا وقد رحَّلت السلطات التركية الإعلامي الموالي لجماعة “الإخوان” حسام الغمري خارج أراضيها، خلال شباط/فبراير الماضي، ذلك لأنه خالف التهدئة مع القاهرة وتعليمات السلطات التركية بهذا الشأن، ولم يراعِ تعليمات وضوابط الأمن القومي التركي في أمور أخرى.

بالتالي، فإن التقارب بين مصر وتركيا سيحمل نتائج وآثار سلبية جمّة على التنظيم، ولا سيما بعد تصريحات جاويش أوغلو، أن بلاده عازمة على تجاوز أي خلافات لتسريع التفاهمات مع مصر. وربما أنقرة تقوم بتقليص أنشطة الجماعة التي لا تنفك عن انتقاد مصر وسياستها وقياديها، وتلميع صورة “الإخوان” والتمجيد بالرئيس المصري الإخواني المعزول في 2013 محمد مرسي.

ما يزيد من احتمالية هذه التكهنات، هو قيام السلطات التركية مؤخرا بإيقاف برنامج “رؤية”، الذي كان يقدمه الغمري على فضائية “الشرق” الموالية لـ”الإخوان” في إسطنبول، بسبب ما عدَّته أنقرة إساءة للقاهرة. وهذا حتما مؤشر يدلل على أن أنقرة لن تقف عند هذا الحد، بل قد تقوم بتوقيف شخصيات إعلامية إخوانية أخرى وعناصر محكوم عليها في قضايا عنف وقتل بمصر.

خلال عام 2019، ظهر أول خلاف بين “شباب تنظيم الإخوان” وقيادات الخارج، خاصة المقيمة في تركيا، عقب ترحيل الشاب محمد عبد الحفيظ المحكوم عليه بالإعدام في قضية استهداف النائب العام المصري الأسبق إلى مصر. وفي عام 2021 عقب بداية الحديث عن التقارب المصري التركي، أبدى بعض شباب التنظيم الصادرة بحقهم أحكام قضائية بمصر تخوفا من الترحيل للقاهرة، خاصة مَن ليس لديهم دعم من قيادات “جبهة إسطنبول”، وفق “الشرق الأوسط”.

تركيا اتخذت خلال الأشهر الماضية، خطوات وصفتها مصر بالإيجابية، ورأت أن الخطوة التركية هذه يمكن أن تخلق مناخا مشجعا للحوار بين البلدين وحلّ المشاكل العالقة بينهما منذ سنوات. وتعلقَّت بوقف أنشطة “الإخوان” الإعلامية والسياسية التحريضية في أراضيها، ومنعت إعلاميين تابعين للتنظيم من انتقاد مصر. وفي عام 2021 أعلنت فضائية “مكملين”، وهي واحدة من ثلاث قنوات تابعة لـ”الإخوان” تُبثُّ من إسطنبول، وقف بثّها نهائيا من تركيا.

قد يهمك: السجون السريّة.. ذراع غامضة للقوة الإيرانية في سوريا؟ – الحل نت

كذلك، كانت السلطات التركية قد طالبت في آذار/مارس عام 2021، القنوات الموالية للتنظيم “مكملين، وطن، والشرق” بوقف برامجها التحريضية ضد مصر، أو التوقف نهائيا عن البث من الأراضي التركية، حال عدم الالتزام بميثاق الشرف الإعلامي المطبَّق في تركيا.

ملفات أهم من “الإخوان”

أثناء اللقاء المصري التركي الأخير، تم التطرق إلى عددٍ من القضايا الإقليمية المتصلة بالقضية الفلسطينية وسوريا وليبيا والعراق والاتفاق الإيراني السعودي، وفق ما قاله شكري.

بالنظر إلى ميزان التبادل التجاري والعلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا، فإن التبادل التجاري في زيادة مستمرة، وأصبح يمثل بالنسبة للبلدين ضرورة اقتصادية هامة، في ظل أوضاع صعبة، ما يعني أن الخيارات باتت محدودة، والمضي قدما نحو تحسين العلاقات أمر لا مناص منه، وفق تقدير إسماعيل.

في رأي إسماعيل فإن تقدم التسوية السياسية في ليبيا من شأنها أن تضخ المزيد من المياه في مجرى العلاقات المصرية التركية، وأن التطبيع سوف يتحقق ولو بشكل تدريجي وبطيء، ذلك لأن ضرورات وأولويات الوضع الإقليمي تفرض عليهما ذلك بقوة.

هذا وتوترت العلاقات المصرية التركية بشدة بعد إزاحة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، عن الحكم بعد أحداث 30 حزيران/يونيو 2013 حيث التظاهرات الشعبية الحاشدة، ووصف أردوغان ما فعله الرئيس المصري ووزير الدفاع آنذاك بـ”الانقلاب”، بينما اتهمت مصر تركيا بـ”تمويل الإرهابيين”، وتبادل البلدان طرد السفراء.

رغم فتور العلاقات الدبلوماسية حينها، إلا أن الأعمال التجارية لم تتوقف أبدا بين البلدين  في عام 2022، حيث كانت تركيا أكبر مستورد للمنتجات المصرية بإجمالي 4 مليارات دولار.

في العموم، أصبحت الخطوة القادمة في العلاقات المصرية التركية، والتغيرات التي قد تطرأ على وضع جماعة “الإخوان المسلمين” في إسطنبول بعد مؤشرات التقارب الصادرة عن البلدين خلال الأيام القليلة الماضية، موضع ترقب وتساؤل لدى العديد من المراقبين، لكن لا شك أن ثمة العديد من العوامل الخارجية التي ستجبر البلدين تاليا على إعادة تقييم العلاقة بينهما في المستقبل القريب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.