حراك “17 تشرين” أو كما ينظر إليها أهلها بين “الانتفاضة والثورة”، لم يكن سوى لحظة الذروة في تمرد حواضن “حزب الله” على أوضاعهم التي باتت على الحافة. من هذه المشهدية التي توثّق على نحو واضح فقدان “حزب الله” لحاضنته الأمر الذي بات يتردد كثيرا منذ انخراطه في الحرب السورية وعودة شباب لبنان في توابيت الموت في حرب لا طائل منها، يمكن أن تكشف الغطاء السياسي والأيديولوجي عن الحزب.

قمع الحزب للحراك المدني والذي كان ضد الطبقة السياسية ثم حمايته لحكومته المستمرة حتى الآن والمتسببة في إفلاس لبنان وسرقة أموال المودّعين، فهو جزء من هذا النظام وتلك السلطة واتهامه بالتورط في مقتل لقمان سليم يشكل عبر آليات ضغط عديدة جدارا أمام تحقيقات تفجير “مرفأ بيروت” ويمكن الإشارة لموقفه الانتهازي من قضية ترسيم الحدود اللبنانية مع إسرائيل.

هذه الحوادث تفضح براغماتية الحزب المدعوم من إيران وكلها ترتبط ببنية واحدة متمثلة في تحوله لكيان مستفيد ومنتفع ضمن النظام الفئوي والمافيوي لأوليغاركية الحكم وذلك ليباعد بينه وبين حواضنه التي تعاني قمعه وتوحّشه في ظل أعباء يومية ضاغطة، فضلا عن أن قضية الترسيم تفضح بهتان دعايته المؤدلجة ضد تل أبيب.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول مراحل انكشاف الغطاء الانتهازي والبراغماتي عن “حزب الله” ولم يعد بنفس درجة الزخم التي حصل عليها باعتباره حركة مقاومة، وإذا ما كانت الحرب في سوريا لحظة الذروة التي اتضح فيها موقع الحزب باعتباره كيان غير وطني ويحقق مصالح الولي الفقيه.

بالإضافة إلى تساؤلٍ أهم، وهو إلى أي حد كشف تتابع الأحداث الاحتجاجية بلبنان من “طلعت ريحتكم” وحتى حراك “تشرين” بلبنان عن ارتباط “حزب الله” النفعي بالطبقة السياسية المتسببة في الانسداد السياسي والأزمات الاقتصادية بلبنان، الأمر الذي تفاقم مع انفجار “مرفأ بيروت” وضغوط الحزب على مسار العدالة والتحقيقات.

مراحل الانكشاف

حراك “17 تشرين” أو الاحتجاجات اللبنانية 2019-2021، شكّلت حدثا تاريخيا محوريا آنذاك، إذ إنه أتاح لأول مرة في تاريخ لبنان واللبنانيين بلورة كتلة شعبية متوازنة كاسحة اخترقت الجغرافيا والديموغرافيا. مجموعة شعبية غطت العلم اللبناني وتحدثت بلغة واحدة ورفعت شعارات موحدة من ساحات لبنان المتعددة.

هذه المظاهرات خرجت كحاجة وظرف لم يعد يحتمله الشعب اللبناني، من حيث الضرائب المخططة على البنزين والتبغ و‌المكالمات عبر تطبيقات الإنترنت،  فضلا عن مستوى الدولة للحكم الطائفي، والركود الاقتصادي، وارتفاع مستوى البطالة التي بلغت مستويات غير مسبوقة، بجاني الفساد المستشري في القطاع العام، والتشريعات التي يُنظر إليها على أنها تحمي الطبقة الحاكمة من المساءلة، مثل السرية المصرفية، وإخفاقات الحكومة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي.

الاحتجاجات خلقت أزمة سياسية في لبنان، حيث قدّم رئيس الوزراء سعد الحريري استقالته آنذاك وكرر مطالب المحتجين بتشكيل حكومة من المتخصصين المستقلين. وبحسب مجلة “ذي إيكونوميست”، فإن الخلل الوظيفي وسوء الإدارة في لبنان، كان أحد أسباب هذه التظاهرات، ترجع أصوله إلى النظام السياسي الطائفي في البلاد الذي تم تكريسه بعد “اتفاق الطائف”، الذي حدث في عام 1989، قبل ما يقرب من ثلاثين عاما من بدء الاحتجاجات في 2019.

هذا الاتفاق يكرس النظام السياسي القائم على الطائفة، حيث يتم توزيع السلطة السياسية على أساس الانتماء الديني للموظف العام. وينظر إلى هذا النظام على أنه مستغل من قبل السياسيين اللبنانيين الحاليين، وكثير منهم من أمراء الحرب الطائفيين في حقبة الحرب الأهلية اللبنانية الذين ما زالوا يشغلون مناصب في السلطة ويتمتعون بالعفو من المساءلة.

الكاتب والمحلل السياسي، ميّار شحادة، يقول إن انكشاف أي كيان سياسي أو مسلح على حقيقته يبدأ من هيكلة وكيفية تأسيسه، ولا يخفى على أحد أن تأسيس “حزب الله” جاء من نتاج مجموعة من الشباب الطائفي في لبنان نهاية الحرب الأهلية. وعلى الرغم من وجود الفصائل الشيعية في لبنان مثل “حركة أمل”، فقد تأسس “حزب الله” الشيعي، وهذا يشير إلى أنه جاء على أساس المشروع الإيراني في المنطقة وليس له علاقة بالطائفة الشيعية أو الدفاع عن حقوق أبنائها، ولا يخص لبنان سياسيا أو اجتماعيا. خاصة وأن زعيمه الثاني حسن نصر الله جاء من إيران إلى لبنان وأصبح زعيم الحزب حتى الآن.

قد يهمك: حرب عصابات داخل “حزب الله”.. فشل إدارة الدولة أثار الصدام؟ – الحل نت 

لذلك دعمت إيران هذا الحزب ليكون ذراعا لها في المنطقة. ولم يتعاون الحزب مع النظام السوري في بداياته في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حيث كان هناك وسطاء من الطائفة المسيحية، معظمهم من الموارنة، وكان لهم نفوذ في فرنسا، بسبب نفي الكثيرين منهم في باريس، مثل ميشال عون الذي عاد فيما بعد، على حد توضيح شحادة لموقع “الحل نت”.

لكن ضم الحزب فيما بعد لطوائف أخرى كانت أولى مراحل كشف الغطاء عن حقيقته. ومع انتهاء الحرب الأهلية هناك، وتوقيع “اتفاق الطائف”، وهدوء الأوضاع في لبنان، ثم حدوث الانقسام الطائفي على أساس سني وشيعي ومسيحي نوعا ما، بنى رئيس الوزراء اللبناني، الراحل رفيق الحريري السابق البنى التحتية، وكان يقود البلاد لبناء دولة حقيقية لكن هذا الحزب بدأ يستغل الأزمات لصالحه.

لذلك بدأ هذا الاتفاق الطائفي، ومن ثم التحريض من قبل الحزب لحاضنته من الشيعة، وتخويفهم من صعود الحريري كزعيم للسُنة، وأن يتم تهميشهم فيما بعد، بدأت شرارة أزمات لبنان. إذ “قام هذا الحزب وبالتعاون مع قوى خارجية مثل النظام السوري وبعض الطوائف المسيحية، بتنفيذ عدة استراتيجيات، كاغتيال الحريري عام 2005، وفق العديد من الاتهامات التي وجهت لهم”، إلى جانب الأزمات السياسية وصعود شخصيات محسوبة على الحزب في “مجلس النواب” اللبناني ومن ثم الوصول إلى أكبر منافذ ومؤسسات الدولة، حتى انقلب الوضع رأسا على عقب، ووصلت البلاد إلى أسوأ ما يمكن لبلد أن يصل إليه، مثل الوضع اللبناني الراهن، وفق شحادة.

بالنظر إلى هيمنة الحزب على مؤسسات الدولة وعدد كبير من الشخصيات العسكرية والسياسية وغيرها، فقد استخدم عدة أساليب للتهرب والتلاعب واكتساب الشعبية، فتارة يستخدم المسيحيين أو الخيار العسكري أو البراغماتية في التفاوض أو أساليب الترهيب والتخوين من خلال تنفيذ اغتيالات لشخصيات معارضة وإعلاميين وغيرهم، وفق شحادة، وبالتالي هذا تدريجيا بدأ يكشف الزيف الذي يدّعيه الحزب منذ سنوات طويلة.

بالتالي لاشك أن الاحتجاجات اللبنانية في “17 تشرين”، وبمشاركة كافة الطوائف هناك، كصوت واحد في وجه سلطة المال والسلاح، وإسقاط عدة حكومات، مثل حكومة حسان دياب السابقة، ورفع شعارات مناهضة لجميع الأطراف السياسية، مثل “كلن يعني كلن” التي باتت بمثابة آلة بيد القوى الخارجية، من جرّاء فشلهم في حلحلة أزمات البلاد الاقتصادية إلى مناهضة الفساد ومنع تحقيق استقلالية القضاء، كشفت “حزب الله” وباقي القوى المماثلة له على حقيقتهم أمام الشارع اللبناني ككل.

الأزمة السورية أحد الأسباب

منذ عام 2011، شارك “حزب الله” في الحرب السورية، حيث وقف إلى جانب الحكومة السورية بإسكات وقمع أصوات الشارع السوري، ومن ثم الانخراط في العمليات العسكرية ضد فصائل المعارضة، وضم مناطق عديدة لسيطرته بالتعاون مع قوات الجيش السوري.

شحادة يقول إنه عندما وقف “حزب الله” وقاتل إلى جانب دمشق، “جاء ذلك بناء على طلب طهران. ومن حينها ظل الحزب يوهم الشيعة بأن إنهاء وجود النظام السوري يعني إنهاء وجودهم، أي اتباع استراتيجية الترهيب والتهديد والبراغماتية في خطاباته”. ولا شك أن هذا كان أحد المسارات التي كشفت حقيقة الحزب ولا سيما شخص حسن نصر الله نفسه.

أي بعد المجازر التي ارتكبت في سوريا، ثم امتدت الأزمات إلى لبنان، بدأت شعبية الحزب تتراجع، حيث بدأ عموم اللبنانيين يدركون أن الحزب ليس سوى أداء بيد طهران، خصوصا بعد أن صدرت العديد من التهديدات والترهيب للانتقام على لسان زعيمه حسن نصرالله من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، عقب مقتل قائد “الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني.

قد يهمك: ضياع “حزب الله” وخيارته.. مصير مأساوي للبنان بعد مكاسب الحزب السياسية – الحل نت 

لكن ذروة هذا الانكشاف لم تكن بانخراط الحزب في سوريا والوقوف إلى جانب النظام السوري في قمعه للشعب وانتهاكاته ضد الشعب السوري. بل كانت ذروتها عام 2015، عندما تدخلت روسيا في سوريا، ووقع الاتفاق النووي الإيراني في ذلك الوقت، وبدأ النظام السوري يشعر وكأن ميليشيا طهران تحل محله في سوريا وتحديدا “حزب الله” بعد أن بدأ يهدد إسرائيل علنا ولكن دون فعل حقيقي، ولهذا استدعى الرئيس السوري بشار الأسد القوات الروسية للوقف إلى جانبه وحماية حكمه.

المسبب الحقيقي لأزمات لبنان

المحلل السياسي يقول إن قرار الدولة اللبنانية، عُلِّق من أيام الحرب الأهلية وليس بعد ظهور الحزب نفسه، أي أنه لم يكن هناك توافق بين مختلف الطوائف اللبنانية من مسيحيين وسنة ودروز وشيعة، ولم يتمكنوا من بناء هرمية الدولة، وبالتالي تركوا فراغات عديدة، حتى جاء الحزب وملأه بشعارات قومية، يسهل عليها اجتذاب فئات طائفية ذات ثقافات متواضعة.

ففي وقت من الأوقات، خاصة في الثمانينيات، شعر اللبنانيون أن هذا الحزب يقف إلى جانبهم، من خلال دعمهم الاقتصادي وغيره، لكن ما حدث تباعا للأزمات التي حدثت للبلاد وكيف صار في درك مظلم، كُشف الوجه الحقيقي لهذه الحزب المدّعي للمقاومة.

تاليا بدأت الأزمة الرئاسية في لبنان، على الرغم من وجود ميشال عون على كرسي الرئاسة لعدة سنوات، إلا أنه لم يلعب دور الرئيس الحقيقي، بل الحزب الذي كان يدير البلاد بنسبة كبير. والأزمة الرئاسية مستمرة حتى هذا اليوم، أي أنها ليست أزمة منذ أشهر، وفق شحادة.

كذلك، دخول البلاد في أزمات عميقة وكبيرة، خلت بعض الشخصيات الثقافية والسياسية تخرج للعلن وتتحدث من وراء انهيار لبنان، مثل لقمان سليم، وهذا ما أدى إلى اغتياله وإسكات صوته، وفق ما يتهم عائلة سليم للحزب أيضا، وفق شحادة. وبعد ذلك تم تهديد شخصيات لبنانية أخرى، وانهارت الليرة اللبنانية لمستويات تاريخية وأزمة الوقود والكهرباء والخبز باتت من الأزمات اليومية، وهنا بدأ الوجه الحقيقي للحزب يتكشف.

لعل الاحتجاجات الشعبية لن تُنهي وجود وهيمنة “حزب الله” على لبنان، لكن من كل بدّ تكشف الفساد الداخلي لهذا الحزب من العشوائية في إدارة البلاد والطائفية. والتأثير على الحزب يبدأ من مركزه الأساسي وهو طهران، وبالتالي دون إنهاء الوجود الإيراني الحقيقي في البلاد والمنطقة ككل، فإن الأزمات والشرور لن تنتهي، حتى لو كشفت كل أوجه هذه الميليشيا.

بمعنى أن الحزب لن ينتهي تماما، لكن ربما يظل نواة لمؤسسة مستقبلية، إذا تغيرت الخرائط الجيوسياسية في المنطقة، وتراجعت هيمنة إيران عليه، خاصة في ظل التقارب العربي السوري، إلى جانب التقارب السعودي الإيراني، لكن كل هذا يبقى رهن جدّية إيران مع كل ما يجري من تحركات تجاه دول الخليج.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات