خلال العام الماضي، كشفت موسكو عن أهداف جيشها للعام الحالي 2023، وهي شنّ هجوم شتوي واسع النطاق على أوكرانيا، وبالفعل بعد قتال دام لعدة أشهر، أعلنت روسيا، يوم السبت الماضي، سيطرتها على مدينة باخموت الأوكرانية، محور المعركة الأطول والأكثر دموية في الحرب المستمرة منذ 15 شهرا.

أوكرانيا في البداية كانت تنفي مزاعم روسيا بالسيطرة على باخموت، إلا أنه يوم أمس الأحد اعترف الجيش الأوكراني أن روسيا تسيطر بشكل عام على المدينة، مع قوله إنه لا يزال يسيطر على ضواحي المدينة حيث تقع المنطقة الصناعية ودوائر البنى التحتية، بيد أنه في حال كان استيلاء الأخيرة على كل باخموت حقيقة، فإن هذا يعني، ظاهريا على الأقل، تحقيق موسكو لأهم مكاسب في غزوها لأوكرانيا من أكثر من عام، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن احتلال باخموت سيكون هاما في الصورة الكبرى للصراع، أو حتى جيدا لتحقيق أهدافها في أوكرانيا.

في خضم الوضع الغامض والمبهم في باخموت، قرر الرئيس الأميركي، جو بايدن، منح كييف مقاتلات “إف-16″، بعد أشهر من الرفض، ويبدو أنه غيّر موقفه مؤخرا، في قرار اعتبره الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، تاريخيا، إلّا أن هذا المنح مشروط بعدم استخدام الطائرات المقاتلة في المجال الجوي الروسي، وإنما فقط من الممكن استخدامها في أي موقع يوجد فيه القوات الروسية داخل جغرافية أوكرانيا.

من هنا تبرز عدّة تساؤلات حول تداعيات تزويد الغرب لكييف بطائرات “إف -16″، على مستوى المعارك في أوكرانيا، وعلى مستوى العلاقات بين روسيا والغرب، وكذلك الحجم المتوقع للأسلحة التي سيتم توفيرها لأوكرانيا، وتحديدا طائرات “إف-16″، والوقت المتوقع لعملية التسليم، وإذا ما ستشكل هذه الطائرات نقلة نوعية في ساحة المعركة، ومصير القتال هناك.

استراتيجية “حزب الاستنزاف”

الرئيس الأوكراني حصل يوم أمس الأحد على تعهدات جديدة بمعدات عسكرية، إضافة إلى دعم دبلوماسي ثابت من دول “مجموعة السبع” في هيروشيما اليابانية، أثناء قمة المجموعة. وجاء ذلك بعد سيطرة موسكو على باخموت. وهذا الدعم تأكيد أميركي واضح على استمرار الدعم المقدّم لأوكرانيا.

الدخان يتصاعد من المباني التي لا تزال قائمة في باخموت بعد إعلان الروس السيطرة عليها- “رويترز”

حزمة المساعدات العسكرية لكييف قُدّرت بنحو 375 مليون دولار، حيث عبّر باقي القادة عن نفس المواقف التي تحدّث عنها جو بايدن مؤكدين استمرار دعمهم لأوكرانيا مهما استغرق الأمر وبقدر ما يلزم. ويوم أمس الأحد، قال زيلينسكي بعد موافقة واشنطن بتزويد كييف بـ”إف-16″، بالقول إنه واثق من حصول كييف على هذه المقاتلات من الغرب لمساعدتها في صد الغزو الروسي الشامل لبلاده، وفق “فرانس برس“.

بايدن أبلغ قادة “مجموعة السبع” بأن واشنطن تدعم برامج تدريب مشتركة للطيارينَ الأوكرانيين على مقاتلات “إف-16”. من جانبه، قال المستشار الألماني أولاف شولتز، إن احتمال إجراء مثل هذا التدريب على مقاتلات أميركية الصنع هو بمثابة رسالة إلى روسيا بأنه لا ينبغي لها أن تتوقع نجاح غزوها لأوكرانيا عن طريق إطالة أمد الصراع.

كما ثمّن رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، موقف الولايات المتحدة، وقال إنه “يرحب بإعلان أن الولايات المتحدة ستوافق على تدريب الطيارينَ الأوكرانيين على طائرات مقاتلة من طراز إف-16”. وذكر سوناك أن المملكة المتحدة ستعمل مع الولايات المتحدة وهولندا وبلجيكا والدنمارك لتزويد أوكرانيا بالقدرة الجوية القتالية التي تحتاجها في المستقبل، وأن التدريب سيبدأ هذا الصيف.

بحسب تصريحات من الإدارة الأميركية نقلتها الصحف الأجنبية، فإن مسؤولينَ من فريق الرئيس جو بايدن، أكّدوا أن تزويد كييف لن يقتصر على “إف-16″، بل وسيتضمن “يوروفايتر تايفون” البريطانية و”ميراج 2000″ الفرنسية.

الأكاديمي السياسي وضابط الاتصال السابق في حلف “الناتو”، الدكتور أيمن سلامة، يقول إن تصريح بايدن في قمة “لمجموعة السبع” في هيروشيما اليابانية لم يكن فقط لدعم أوكرانيا بالطائرات المقاتلة الحديثة “إف-16″، وإنما تعهد والمجتمعون أيضا بتحالف دولي لمساعدة كييف عسكريا ودبلوماسيا على كافة الأصعدة.

صحيح أن مقاتلات “إف-16” ستعمل على تحسين الدفاعات الجوية الأوكرانية ضد الهجمات الروسية العنيفة، والتي ليس لها فقط تأثير عسكري على مسار العمليات العسكرية بين البلدين منذ شباط/فبراير من العام الماضي، ولكن الدمار الرهيب والهائل وتسوية مدن بأكملها مثل باخموت مؤخرا وماريوبول في أيار/مايو من العام الماضي، سيؤثر أيضا على الروح القتالية، سواء من المقاتلين الأوكرانيين أو المدنيين العزّل، حسبما يوضح سلامة لموقع “الحل نت”.

لكن يبقى التساؤل الأهم، إذا استلمت أوكرانيا الطائرات اليوم أو في الأيام المقبلة أو حتى الأسابيع، فهل ستسدّ الثغرات ونقاط الضعف في المواجهة العسكرية مع روسيا، حيث إن السيادة الجوية الأوكرانية لصواريخ الدفاع الجوي لم يكن قادرا حتى هذه اللحظة على مواجهة المقاتلات الروسية، بحسب سلامة.

خاصة وأن بايدن نفسه قال إن طائرات “إف-16” لم تكن لتساعد القوات الأوكرانية فيما يتعلق بالمعارك مع القوات الروسية في مدينة باخموت لكنها يمكن أن تحدث فرقا كبيرا من حيث القدرة على التعامل مع ما هو آت، وأن روسيا تكبدت أكثر من 100 ألف ضحية في باخموت.

بالتالي قد تضعف الجيش الروسي تدريجيا وتستنزفه، أي اتباع استراتيجية “حرب الاستنزاف”، أي إضعاف الجيش الروسي إلى حد الانهيار عن طريق إحداث الخسائر البشرية أو العسكرية، والجهة المنتصرة في الحرب تكون عادة الجهة التي تمتلك عددا أكبرا من المصادر والاحتياطات، وهذا ما تعمل عليه القوى الغربية وهو تزويد أوكرانيا بالذخائر والسلاح بكميات هائلة.

تدعيما لهذه الفرضية، كانت إجابة مستشار الأمن القومي، جيك سوليفان، على سؤال شبكة “سي إن إن”، عن سبب تغيير بايدن لموقفه السابق بعدما قال إن أوكرانيا ليست بحاجة لها على الإطلاق، “عندما أجاب الرئيس الأميركي عن هذا السؤال، كان يتحدث عن الاستعدادات التي كانت تقوم بها الولايات المتحدة وحلفاؤها مع أوكرانيا لشنّ الهجوم المضاد”، موضحا في مقابلة تلفزيونية، أن المعدات الحاسمة للهجوم المضاد ليست الطائرات، بل الدبابات وأنظمة المدفعية وكميات هائلة من الذخيرة.

كما وقال القادة الأوكرانيين إن هدفهم طوال الوقت في باخموت كان تثبيت الجيش الروسي في قتال طويل الأمد وقتل أكبر عدد ممكن من جنوده وكسب الوقت لأوكرانيا للاستعداد وإعادة التسلح، بالأسلحة الغربية، لهجوم مضاد أوسع، مضيفين أن تقدّم روسيا في المدينة سيسمح للقوات الأوكرانية بمواصلة قصف القوات الروسية والهجوم على باخموت، وإذا نجحت الخطة الأوكرانية، فإن هذا يعني أن السيطرة على المدينة هي في الحقيقة أخبار سيئة لروسيا.

كمية التزويد وعملية التسليم

كريس بارتريدج، محلل الشؤون العسكرية في “بي بي سي”، يقول في تقرير له، إنه لا أحد يشك في قدرة الطائرة “إف-16″، التي أثبتت نفسها في النزاعات حول العالم. وستشكّل نقلة نوعية من طائرات “ميغ -29” و طائرات “سو-27” التي تعود للحقبة السوفيتية، والتي تنفّذ مهمات مماثلة.

من وجهة نظر سلامة، فإن تدريب الطيارينَ على طائرات “إف-16” الحديثة والتحول من الطائرات السوفيتية القديمة التي كان الجيش الأوكراني يتسلح بها في حقبة الاتحاد السوفيتي السابق، فإن هذا التحوّل الدراماتيكي ليس من السهل استيعابه في الفترة المقبلة، وسيكون تحديا لأوكرانيا، حيث تعمل أنظمة الكمبيوتر الموجودة على متن الطائرة، كإلكترونيات الطيران، بطريقة مختلفة تماما عن الطائرات السوفيتية، على الرغم من أن “إف-16” ليس الأكثر حداثة في سلاح الجو الأميركي، فالأحدث هي طائرة من نوع “إف-35″ الأميركية أو الـ”رافال” الفرنسية.

مقاتلة إف-16 تابعة لسلاح الجو الأميركي

مع ذلك، فإن “إف-16” طرأت عليها تحسينات وتطويرات في الكترونيات الطيران والبرمجيات الخاصة بالطائرة. ويزعم سلامة أنه وفقا لخبراء عسكريين متخصصين، فإنه بحسب مجريات ومسار الأمور العسكرية في ساحة الحرب بأوكرانيا، تحتاج كييف إلى 200 مقاتلة من طراز “إف-16″، بالنظر إلى طائرات روسية الجوية القوية ولا سيما “سو-35”.

أما بالنسبة لعملية التسليم فإنها لا شك معقدة وستكون هناك حاجة إلى الكثير من العمل للوصول إلى مرحلة التسليم، ولكن وفق تقدير سلامة، فإنه ثمة فائض من هذه الطائرات لدى العديد من الدول الأوروبية الغربية والأعضاء في “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو)، فمسألة توريدها أو إعطائها لأوكرانيا هنا لن يكون بالأمر المعقّد، ولكن المعضلة تكمن في الاستخدام السريع والاستيعاب لكيفية التشغيل والصيانة والطيران بمثل هكذا مقاتلات من قبل الطيارينَ الأوكرانيين.

لا تغيير كبير في مسار الحرب؟

سلامة يرى أن استخدام أوكرانيا في الفترة المقبلة لطائرات “إف-16″، لن يغيّر مجريات العمليات العسكرية لصالحها ضد روسيا، خاصة وأن الأخيرة في الفترات القليلة الماضية، اعتبارا من بدايات أيار/مايو الجاري، قامت باستهداف العاصمة الأوكرانية بهجمات تدميرية صاروخية، سواء بصواريخ الـ”كروز” العابرة من البحر الأسود أو المسيّرات، وبالتالي فإن هذه العمليات يمكن الزعم بأنها ستؤخر أي اندفاع أوكراني لاستخدام “إف-16” في هجوم استراتيجي، خاصة وأن الأجواء هناك على مشارف انتهاء فصل الربيع.

من جانب آخر، حذّر سفير روسيا لدى الولايات المتحدة أناتولي أنتونوف من إرسال مقاتلات “إف-16” إلى أوكرانيا مشيرا إلى أنه سيثير تساؤلات عن ضلوع “الناتو” في الصراع، وفق تصريحات نشرت اليوم الإثنين على موقع السفارة على تطبيق “تيليغرام”. وكانت وكالة “تاس” للأنباء قد نقلت يوم السبت الماضي عن ألكسندر غروشكو نائب وزير الخارجية الروسي القول، إن دول الغرب ستواجه مخاطر مهولة إذا أمدت أوكرانيا بطائرات مقاتلة من طراز “إف-16”.

بالتالي فإن كل هذه التطورات تدل على شيء واحد، وهو إطالة أمد الصراع الروسي الأوكراني، ودخول الحرب لأطوار تصعيدية أخطر، وبالتالي فإن تداعياتها ستكون مدمرة على الشعب الأوكراني والمجتمع الروسي والاقتصاد العالمي ككل، الذي في الأصل يشهد ارتفاعا في أسعار المواد الغذائية وموارد الطاقة من جراء الغزو الروسي، وكل هذا وسط عدم وجود حلول أو سيناريوهات متوقعة تلوح في الأفق المنظور.

بعض المراقبين يقولون إن الموقف الأميركي بتزويد أوكرانيا بـ”إف-16″ والذي من المؤكد لن يغير مسار الحرب بهذه السهولة والسرعة، فإنه يميل للتوازن على أرض المعركة، إذ يريد أن تستعيد أوكرانيا أراضيها المحتلة من قبل روسيا، ولا يريد أن تخسر الأخيرة الحرب أو أن تربحها أوكرانيا بشكل كامل كي لا تأخذ الحرب اتجاها تصعيديا يمكن لروسيا خلاله استخدام أسلحة محظورة في مقدمتها الأسلحة النووية التكتيكية.

لذلك، لا تزال واشنطن تفسح المجال أمام موسكو للتراجع عن عقليتها العسكرية في غزوها لجارتها الغربية كييف، وإتاحة فرصة المفاوضات للطرفين، وسط استمرار الحرب التي لا طائل منها، خاصة الجانب الروسي الذي بدا أنه يعاني من خسائر كبيرة؛ عسكرية واقتصادية.

صحيفة “نيويورك تايمز” ترى أن باخموت في حالة خراب، والسيطرة عليها لن تساعد موسكو بالضرورة نحو هدفها المعلن الأكبر، وهو غزو المنطقة الشرقية بأكملها من دونباس، بعد أن أنهكت القوات الأوكرانية القوات الروسية واخترقت دفاعاتها في بعض المناطق إلى الشمال والجنوب من المدينة.

بحسب الخبراء العسكريين فإن الاستيلاء الروسي على باخموت لن يعني شيئا، في الواقع، لأن الروس استنفدوا قدراتهم الهجومية ولهذا السبب يقومون بالدعاية المكثفة بشأن استيلائهم عليها.

ليس ثمة شك أن تزويد الولايات المتحدة لأوكرانيا بطائرات “إف-16” يعد بمثابة تطور استراتيجي في سياسة واشنطن وتداعياتها المهمة على مسار الحرب، الأمر الذي، على ما يبدو، سيدخل حيز التنفيذ خلال الشهور القليلة المقبلة. ووفق تصريحات غربية لن يتجاوز هذا سقف الأربعة أشهر. بل إن هذه الخطوة ستمثل تطويقا للقوات الروسية والحد من حركتها.

إذاً، عكست قمة “مجموعة السبع” التي شهدت حضورا لافتا للرئيس الأوكراني استمرارا للدعم الأميركي والغربي للقوات الأوكرانية ضد الغزو الروسي، بينما كشفت عن وجود خطط جديدة لهذا الدعم من دون توضيح أبعد ومفصّل. لكن الحاجة ماسة لجهود مضاعفة في ما يخص التأمين الجوي والمقاتلات الحديثة المتطورة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة