الأزمة السودانية متعددة الأوجه، ومن الصعب القول أن ما يحدث في البلاد مستقل عن بعض المصالح الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية للفاعلين العالميين والإقليميين. وتعد المملكة العربية السعودية من أهم الفاعلين الدوليين الذين يلعبون دورا فاعلا في الملف السوداني، لاسيما بعد نشوب الصراع الداخلي بين القوى العسكرية، وقد  استطاعت السعودية إجلاء مواطنيها ومواطني وموظفي قنصليات وسفارات العديد من دول العالم.

كما لم تتوقف جهود المملكة عند العمل الإنساني فحسب، بل انخرطت في العملية الدبلوماسية بين الأطراف السودانية المتصارعة من خلال جمعهم في محادثات مباشرة في مدينة “جدة”، وقد أسفرت المحادثات بين ممثلي الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” في مدينة جدة السعودية عن أول اتفاق بينهما، تحت اسم “إعلان جدة”، ويعد هذا الاتفاق الأول بين الطرفين المتنازعين منذ اندلاع الصراع في 15 نيسان/أبريل الماضي، ويشمل التزامات إنسانية واتفاقا على جدولة محادثات مباشرة جديدة.

إن موقع السودان الجغرافي الاستراتيجي المقابل للسعودية على البحر الأحمر يجعله مهمًا للانخراط السعودي، لهدفين الأول اقتصادي والثاني أمني، وتحقيق الهدف الأول مرتبط بتحقيق الهدف الثاني. ونناقش في سطور هذه المادة الانعكاسات المحتملة وراء نشوب الصراع في السودان على مستقبل الاقتصاد السعودي. 

تطلعات الاقتصاد السعودي المستقبلية

أطلق ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، “رؤية 2030″ والتي تتبنى استراتيجية تسعى لتحقيق تنوع في مصادر اقتصاد البلاد بدلا من الاعتماد على تجارة النفط فقط، وبحسب مواقع رسمية سعودية تحتاج المملكة إلى أكثر من 3.2 تريليون دولار أميركي لتمويل هذه الرؤية، والتي من ضمن أهدافها إطلاق استراتيجية وطنية لتوطين الصناعات الاستراتيجية مثل بناء 4 مصانع للطائرات بدون طيار، ومصنعين لصناعة السيارات الكهربائية، إضافة إلى إنشاء 15 مصنع مختص في صناعات التكنولوجيا المتقدمة. كما تسعى السعودية إلى جذب الاستثمارات الاجنبية بعد البدء ببناء مشروع مدينة ” نيوم”، حيث تستهدف الدولة من خلاله تطوير بنية تحتية قادرة على جعل السعودية مركزا لسلاسل الإمداد العالمية وأن تكون مركز تجارة ونقل دولي. كما أعلنت  السعودية عن عزمها إنفاق 147 مليار دولار لجعلها “المحور اللوجستي” الجوي والبحري الرئيسي للمنطقة، من خلال إنشاء خط سكة حديد عالي السرعة، وتأسيس شركة طيران جديدة ( شركة طيران الرياض)، وخدمات موانئ موسعة.

كذلك أعلنت عن إنشاء اربعة مدن اقتصادية خاصة في الرياض وجازان ورأس الخير ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية شمال مدينة جدة. والمدن الصناعية الاربعة تخدم “رؤية السعودية 2030″، مما سيتيح للشركات السعودية الاستفادة من القيمة التي تضيفها المناطق الاقتصادية الخاصة على جميع مستويات سلاسل الإمداد، وفي مختلف القطاعات، وتشكل المدن الأربعة بوابة عبور لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا، وحلقة وصل بين أسواق الشرق والغرب. كما تعمل السعودية على تمويل عدد من مشاريع الطاقة المتجددة التي تكلف عشرات مليارات الدولارات، فالدولة في صدد بناء توربينات الرياح على طول سواحل البحر الأحمر، بالإضافة إلى مشاريع الطاقة الشمسية بهدف إنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره إلى الأسواق الدولية. 

انعكاسات الصراع السوداني على السعودية 

قد يكون الملف السوداني في قادم الأيام ملفا ضاغطا على السعودية لأنه إذا فشلت الأطراف في الالتزام باتفاق جدة، ستتوسع دائرة القتال المسلح في البلاد، وسيغلب على البلاد طابع عدم الاستقرار، ناهيك عن انتشار الميليشيات المسلحة التي قد يتم دعمها من قبل أطراف دولية مختلفة، وهو من أخطر السيناريوهات التي من الممكن أن تزعزع أمن السعودية، فعلى سبيل المثال قد تدفع دولة ما بعض الميليشيات في السودان بهدف إثارة مشاكل على البحر الأحمر، مما قد يؤدي إلى تهديد مشاريع السعودية المتعلقة بتحويل السعودية إلى مركز نقل جوي وبحري عالمي، ويؤجل انطلاق المدن الصناعية في كل من جدة وجازان الواقعتان على البحر الأحمر. فارتفاع مستوى عمليات القتال وعدم الاستقرار، وانتشار المظاهر المسلحة في السودان يضغط على السعودية، وقد يجعلها تعود خطوة إلى الوراء إذا ما شهدت سواحل البحر الأحمر حالة من الاختراقات الامنية التي تهدد المشاريع في المستقبل.

إن تحقيق السعودية للرؤية الاقتصادية التي تتضمن جذب الاستثمار وتحويل البلاد إلى مركز دولي لسلاسل التوريد يحتاج الى بيئة إقليمية آمنة، لاسيما على البحر الأحمر، سيشكل نقطة الانطلاق الأولى لغالبية مشاريع المملكة، ومن المقرر أن يكون الساحل الشمالي للمملكة موطنا مستقبليا لمدينة “نيوم”، وهي مدينة ضخمة مستقبلية تبلغ قيمة تأسيسها 500 مليار دولار. وإذا انتقلت السودان إلى مرحلة الصراع الداخلي عبر تغذية أطراف الصراع من دول مختلفة، فمن المحتمل أن تستمر الحرب الداخلية لسنوات، وبذلك فإن المشاريع على البحر الأحمر لن تحقق استقرارا، وستصبح إمكانية تطويرها ضعيفة، ولن يتشجع المستثمرون الدوليون على الاستثمار في بيئة غير مستقرة. كل هذه التوقعات تقلق القيادة السعودية مما جعلها تكون في مقدمة المنخرطين في الأزمة السودانية.

في النتيجة يبدو أن السعودية ستعيش انعكاسات مباشرة إذا ما تطور واستمر الصراع في السودان لفترات طويلة، لذلك قد نشهد انخراطا سعوديا أكبر في الملف السوداني، وعلى كافة الأصعدة الدبلوماسية والإنسانية وحتى العسكرية كدعم المؤسسات الرسمية بشكل غير مباشر لإنهاء حالة عدم الاستقرار التي قد تؤخر خطط التنمية والتحول الاقتصادي الذي تعيشه البلاد. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات