الصراعات المحمومة بين الفصائل المسلحة بمناطق المعارضة السورية في شمال وغرب سوريا، تؤشر إلى انقسام تلك الأجسام التي لم تعد حمولاتها الثقيلة تملك سوى فائض أمني وعسكريتاري يتحرك بعنف ومن دون إدارة سياسية، لجهة الاقتتال الداخلي بفعل تباينات وتناقضات تعصف بأجنحته، وبما يؤدي إلى ظهور انشقاقات، وكذا تصدعات بنيوية، فضلاً عن تصفية بعض القادة، لا سيما ممن قد يشكل أحدهم دائرة استقطاب قصوى أو كتلة منافسة داخل التنظيم.
لذا، لا يبدو مباغتاً حدوث انشقاقات وصراعات واغتيالات أو شبهة قتل تحت التعذيب، كما هو حاصل مع القيادي بـ”هيئة تحرير الشام” جهاد عيسى الشيخ الذي تنصل من ممارسة الفصيل الذي يهيمن ميدانياً وعسكرياً في إدلب. بل إن تلميح المكنى بـ”أبو أحمد زكور” بأن التنظيم الذي انفصل عنه سياسياً وعسكرياً قد فك صلاته بقاعدته الفكرية والأيدولوجية العقائدية بينما غير سياساته ومنهجه، يكشف عن حجم التنافس في قمة الهرم التنظيمي بقدر ما يفضح السيولة التنظيمية غير المتماسكة في تلك القمة التي تأسست على حسابات براغماتية أكثر منها ارتباطات حركية تنظيمية استراتيجية. فهذا التنظيم وغيره من الفصائل الميليشياوية وبعضها محسوب على تركيا ويؤدي أدواراً وظيفية محدودة ومؤقتة لحساباتها المحلية والإقليمية.
انشقاقات في صفوف الهيئة
بالتالي تتحرك هذه الأجسام المسلحة بوعي قائم على النهب السريع، ورؤية التنظيم كمجال حيوي يراكم من خلاله الثروة والنفوذ وليس لجهة تحقيق أفق سياسي. ومن هناك تبدو هذه التنظيمات لا تتحرى تحقيق أفق سياسي وإنما تسعى إلى امتلاك جهاز أمني عسكري ولائي يبدد هواجس الانقلابات الداخلية وتوسيع حالة الاشتباه في العناصر والقادة لتأميم الصراع وتحقيق التجانس بين دائرة الثقة.
ووفق “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، مقره لندن، فإنه لا يزال الغموض يكتنف مصير القيادي البارز في “هيئة تحرير الشام” أبو ماريا القحطاني، منذ نحو 4 أشهر، بعد أن خضع للإقامة الجبرية في منتصف آب/ أغسطس الفائت، إثر اعتقال خلية تعمل لصالح “التحالف الدولي” واعتراف أفرادها بتورط القحطاني. وأعلنت “هيئة تحرير الشام” عن تجميد مهام وصلاحيات القيادي في صفوفها (أبو ماريا القحطاني). وقالت في بيان لها: “القحطاني أخطأ في إدارة تواصلاته” دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل. فيما تتكتم “الهيئة” عن مصير العملاء، وتجري عمليات إعدامهم في ظروف مجهولة كما تدفن جثثهم بطريقة سرية ولا تسلمها لذويهم إلا في حالات خاصة.
واعتقل الجهاز الأمني التابع لـ”الهيئة” عشرات العناصر العسكرية بينهم قيادات في الصفوف الأولى. وذكرت المصادر بأن أبو محمد الجولاني، زعيم الهيئة، حذر القيادات الأمنية والعسكرية في الهيئة من تداول قضية أبو ماريا القحطاني في وسائل الإعلام أو أي جهة أخرى، تحت طائلة المساءلة.
ونشأت خلافات بين “الجولاني” من جهة، ومجموعة من قيادات الصف الأول في الهيئة من جهة أخرى، انتهت باتفاق يقضي بإنهاء وجود أبو ماريا القحطاني ضمن مناطق نفوذ “تحرير الشام”. كما يشير المرصد الحقوقي إلى إقدام جهاز “الأمن العام” التابع للهيئة على اعتقال 12 عنصراً من عناصر “الهيئة” بينهم قياديين اثنين في عدة مناطق منها مدينة إدلب وبلدة سرمدا ومحيطها، وذلك بعد انشقاق المدعو “أبو أحمد زكور” وهو قيادي من الصف الأول في “هيئة تحرير الشام” ومقرب من قائدها “الجولاني” ومقرب من تيار “أبو ماريا القحطاني”، وتوجهه لجهة مجهولة.
ووفقاً للمصادر، فإن الـ”هيئة” تشهد حالة من الاستنفار والتخبط في صفوفها بشكل كبير بسبب خلافات على خلفية سلسلة الاعتقالات السابقة التي طالت عدد كبير من العناصر والقياديين بتهمة العمالة لصالح “التحالف الدولي”.
وفي 6 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، اعتقل جهاز الأمن العام قائد مجموعة يعمل في صفوفه، في مدينة إدلب، بتهمة العمالة لصالح “التحالف الدولي”، حيث داهمت دورية منزله وصادرت أجهزة اتصال خاصته.
كما شنت “هيئة تحرير الشام”، خلال تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، حملات متكررة لاعتقال أفراد غالبيتهم من العسكريين بصفوفها، حيث تم اعتقال 9 عناصر بينهم مسؤولين أمنيين، بتهم مختلفة أبرزها التخابر لصالح جهات تعتبرها الهيئة “معادية”.
وعليه، كان واضحا إشارة القيادي المنشق عن الهيئة المحددات التي لها الأولوية بنظره وقد تخلت عنها قيادة التنظيم، منها تفكيك أو تقليص حجم الفصائل بهدف الهيمنة عبر فصيل واحد والسعي المحموم لامتداد السيطرة الأمنية والعسكرية والاقتصادية في المناطق التي تهيمن عليها فصائل ما يعرف بـ “الجيش الوطني السوري” بريف حلب والمدعومة من تركيا.
خلافات ناجمة عن المصالحية والنفعية
الخفي وغير المعلن في هذا الحديث الذي ورد في بيان رسمي للقيادي المنشق بـ”الهيئة”، يضيء على حجم الصراعات المفخخة بين الفصائل وسعيها للتوسع على حساب الآخرين (على طريقة الإخوة الأعداء) رغم تبعيتهم لأنقرة ودورهم كحراس مؤقتين ووكلاء سياسيين وأمنيين لها.
الجولاني في إطار محاولة السيطرة على مراكز القوى داخل الهيئة والتي تنقسم لثلاث أجسام متباينة مناطقيا وتخضع ولاءاتها لهذا الطرف أو ذاك واستعادة مركزيته التنظيمية يخوض معركة فوضوية وعبثية تفوق طاقته التنظيمية والسياسية رغم محاولات المأسسة على تنظيمه الذي انفصل عن “القاعدة” عام 2016.
وثمة فصول من الاقتتال بين الفصائل تنامت أحداثه ووقائعه مؤخراً وتتكرر بصفة شبه دورية، وربما توثق خلافات “أبو زكور” مع الهيئة، قبل أعوام، وإعلانه الانشقاق الأول، ثم عودته، جانبا من هذا الصراع بين الفصائل حيث باشر عام 2017 مهامه في تحسين العلاقات مع ما يعرف “الجيش الوطني السوري” وتجسير الصلات بينها وبين تنظيمه بقيادة أبو محمد الجولاني.
انشقاق “صقور الشام” عن “الجبهة الوطنية للتحرير”، والذي يضم التجمع الأكبر للتنظيمات المسلحة للمعارضة في إحدى مناطق سيطرة “الهيئة”، يؤكد الافتراض السابق بأن السيولة الأمنية والتنظيمية بين هذه الفصائل تفضح سعيهم الصدامي العنيف والاقتتال الدموي لجهة بناء مصالح مافياوية للقبض على الموارد المالية للتنظيم بين فئة محدودة بما يؤدي إلى “كثرة التجاوزات في الجبهة الوطنية للتحرير وتفاقمها، مع الاستبداد بالقرارات واحتكارها وتجاهل المكونات ونبذ الآراء، وعدم المشاورة وقبول النصائح، يجعل ضرر بقائنا أكبر من نفعه” وفق ما عبر بيان المنشقين الجدد.
تفاقم الخلافات داخل “هيئة تحرير الشام” أساسه مصالحي ونفعي على حيازة السلطة والثروة والنفوذ والموارد، حيث إن تنامي الصراع بدأ مع التمدد المناطقي لإدلب وريف حلب الشمالي، بينما بلغت الأزمات ذروتها مع أنباء متواترة بشأن مقتل (داخل السجن حيث يخضع للإقامة الجبرية للتحقيق بتهمة التجسس) أبو ماريا القحطاني القيادي بالهيئة والذي يستولي بنفوذه على أحد أهم الكتل التنظيمية الرئيسية والمؤسسة “كتلة الشرقية”. كل ذلك يكشف عن رغبة ملحة لدى قائد “الهيئة” أبو محمد الجولاني لإنهاء وتصفية الأجنحة التي قد تشكل ضغطاً أو عبئاً تنظيمياً ضده، والسيطرة على نفوذها واحتمالات تفلت دورها، الأمر الذي برز مع الاحتكاكات داخل الجناحين الآخرين حلب وبنش.
وتبعا لذلك، جاءت تداعيات الصراع مثل كرة الثلج بحدوث الانشقاقات والحديث عن فساد وخروقات أمنية وتهديد توازن التنظيم. وطاولت الاعتقالات ما يزيد عن 400 عضو وقيادي بالتنظيم الذي كان ملحقا بتبعية تنظيمي “القاعدة” و”داعش” المصنفتين على قوائم الإرهاب.
وهنا، لم يكن حدثاً عرضياً الهجوم الذي شنه القيادي بحركة “أحرار الشام” حسن صوفان على المسؤول المالي جهاد عيسى الشيخ قبل أيام، في منطقة نفوذه برأس الحصن الواقعة في ريف إدلب، لتصفية نفوذه المناطقي والمالي. ويمكن القول إن الجولاني في إطار محاولة السيطرة على مراكز القوى داخل الهيئة والتي تنقسم لثلاثة أجسام متباينة مناطقيا وتخضع ولاءاتها لهذا الطرف أو ذاك واستعادة مركزيته التنظيمية يخوض معركة فوضوية وعبثية تفوق طاقته التنظيمية والسياسية رغم محاولات المأسسة على تنظيمه الذي انفصل عن “القاعدة” عام 2016، ويلملم الآن شتاته الحركي والجيوب التي تضعف هياكله بين نفوذ كتلة إدلب التابعة له والشرقية المنتمية للقحطاني وحلب مع زكور، والأخيرين بات مصيرهما مجهولاً وغامضاً ويضع التنظيم ككل على الحافة آجلا أو عاجلا وقد ينقل عدوى ما حدث معهما إلى آخرين حتماً.
- حماة تدخل بوضع جديد.. وحراك سياسي دولي بعد التطورات في سوريا
- تبعات “ردع العدوان” تظهر في دمشق ودير الزور.. ماذا جرى؟
- وسط انهيار كامل للجيش السوري.. فصائل المعارضة تتقدم في ريف حماة
- دمشق تتواصل مع السعودية ومصر وهذه آخر التطورات الميدانية بحلب
- “ردع العدوان”.. ما هي الأسباب التي أدت إلى التقدم السريع للمعارضة؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.