خلال السنتين الماضيتين وأكثر، لم تتوقف حالة الاقتتال الداخلي بين فصائل “المعارضة السورية” عامة، وبشكل خاص بين “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل “الجيش الوطني السوري”، إضافة إلى التحولات التي قام بها زعيم “تحرير الشام” أبو محمد الجولاني داخل تنظيمه.
لكن، خلال الأشهر الفائتة، ثمة حالة من الانشقاقات والتصفيات في صفوف كبار قيادات “تحرير الشام”، وبالتالي فإن كل ذلك يكشف عن مجموعة أهداف ومصالح معقدة ومتشابكة، حيث يحاول أحد الفصائل إسقاط الآخر والاستيلاء على كامل الرقعة الجغرافية الواقعة في شمال وغرب سوريا.
ويتعين النظر إلى أن “هيئة تحرير الشام” منذ نشأتها تحت اسم “جبهة النصرة” المصنفة على قوائم “الإرهاب الدولي”، قامت بتغييرات وانشقاقات عن تنظيماتها الأساسية التي تعهدت بالولاء لها في بدايتها الأولى، أي تنظيمي “القاعدة” ومن ثم “داعش”. وتالياً تم تغيير اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”، وذلك لكسب القبول والشرعية من الدول الإقليمية والدولية. كل ذلك يشي بمدى براغماتية وانتهازية هذا التنظيم وزعيمه، الذي يسعى لتحقيق أهداف معينة وتعزيز هيمنته على كافة مناطق شمال وغرب سوريا، بما يحقق له عمقاً جيوسياسياً طويل الأمد، وهو الأمر الذي لا يُستبعد حدوثه بمساعدة وارتباطات دول إقليمية، مثل تركيا، خاصة وأن “تحرير الشام” تكن تبعية كبيرة لأنقرة.
وبالتالي، نظراً لبنية تنظيم (تحرير الشام) الميليشياوية والانتهاكات والتجاوزات التي حدث فيه، سواء من قبل التنظيم ككل أو عبر قادته فيمكن تفسير طبيعة بعض تجاوزتها بأنه ثمة نية من قبلهم للصعود إلى قمة التنظيم للإطاحة بزعيمه والجلوس على كرسيه.
هشاشة تنظيم “هيئة تحرير الشام”
في ضوء ذلك، فإن ملامح ومعاني هذه الانقسامات والاختراقات باتت تظهر للعلن، وما عزز مصداقية هذه التكهنات هو اعتقال الرجل الثاني في التنظيم، (أبو ماريا القحطاني) بتهمة العمالة للخارج ولم يمضي سوى ثلاثة أشهر، حتى أعلن الرجل الثالث بالتنظيم، جهاد عيسى الشيخ المكنى بـ”أبو أحمد زكور”، انشقاقه عن “تحرير الشام”.
وبعد يومين من انشقاق زكور، عبر بيان رسمي، عزا خروجه إلى “سياسة التخوين والتغلّب على فصائل المعارضة التي تتبعها هيئة تحرير الشام”، أرسل الجولاني فريقاً خاصاً إلى اعزاز في مدينة حلب، (وهي مناطق لا تخضع لسيطرة تنظيمه) بهدف اعتقاله، وهو ما فسره محللون بأن اعتقاله جاء على خلفية التخوف من كشف زكور أسرار التنظيم وزعيمه، إذ يعتبر “الصندوق الأسود” للجولاني.
وفيما لم يتم الكشف عن أي أخبار أو معلومات عن مصير أبو ماريا القحطاني حتى الآن، إلا أن الجولاني لم يتمكن من إلقاء القبض على زكور، حيث انتهت العملية بتسليمه للشرطة العسكرية التابع للفصائل وقوات الأمن التركية في طريق العودة إلى إدلب (معقل الجولاني)، وتم نقله إلى منطقة حوار كلس بريف حلب، والتي تعتبر المربع الأمني لفصائل الشمال السوري.
واللافت أن زكور لا يزال يهدد عبر محركاته الإعلامية (قناة إدلب بوست على التلغرام) بفضح انتهاكات وفضائح الجولاني، وأنه الوحيد الذي مهد لصعود الجولاني لقيادة “تحرير الشام”.
وتأتي أهمية زكور من “تاريخه الجهادي محلياً ودولياً ودوره في تأسيس جبهة النصرة بداية ومن ثم تعزيز هيئة تحرير الشام بانضمامه إليها، إضافة إلى الأدوار التي لعبها في كليهما، وترأس عدة مناصب مهمة داخلها”، بحسب ما أشار إليه محللون.
فرضيتان لتخليص زكور
ويمكن تفسير مسألة تحرير زكور من قبل الأمن التركي من قبضة “تحرير الشام”، ربما لأن زكور قد يفضح الجولاني وارتباطاته الإقليمية، وغيرها من الأمور الخطيرة، وأنقرة تخشى ذلك، لكون لدى الأخيرة علاقات وثيقة مع “تحرير الشام”، ولهذا خططت سراً مع الجولاني لاعتقاله دون تدخل مباشر، بحسب ما تشير مصادر خاصة.
وثمة فرضية أخرى تقول إن مسألة تحرير زكور من يد الجولاني جاءت على خلفية أن له ارتباطات وعلاقات وطيدة مع بقية فصائل المعارضة السورية، بجانب وجود ارتباطات بأطراف محلية مثل حكومة دمشق أو غيرها من الجهات الخارجية، مما دفع تركيا إلى عدم التخلي عنه وعدم تسليمه للجولاني. والاحتفاظ به لاستخدامه كورقة ابتزاز تفاوضية، عندما يحين الوقت والظرف المناسب لذلك.
ولم يمر يومين على محاولة “تحرير الشام” اعتقال زكور، حتى ظهرت الهيئة ببيان تبرر فيه فعلتها، وتقول إن الاعتقال جاء على خلفية اتهامات بالفساد المالي.
وتبنت “تحرير الشام” مهاجمة مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، بهدف اعتقال زكور، موجهةً له عدة تهم بقضايا فساد مالي. وقالت في بيان على لسان الشرعي العام فيها عبد الرحيم عطون: “قبل نحو سنة أو أكثر؛ وصلتنا بعض الإشارات والاتهامات لأبو أحمد زكور وبعض من حوله، بالضلوع في أعمال وتجارات مشبوهةٍ مالياً، ولدى التحقيق في ذلك لم يثبت قضاءً، كما نفى أبو أحمد زكور ذلك تماماً”.
وأردف البيان: “بعد اعتقال أبو ماريا القحطاني، في سياق التحقيقات الجارية في قضية (خلايا الاختراق لصالح بعض الدول) تبين لنا ضلوع أبو ماريا في العديد من قضايا الفساد والابتزاز المالي لعدد من التجار في المحرر، وقد قمنا بالجلوس مع كثيرٍ من التجار، لنتبين الحقيقة، ونعيد الحقوق لأصحابها، وقد قمنا بإرجاع الحقوق في كل ما وصلنا من قضايا، وتبين لنا فيها استحقاق أصحابها”، وفق البيان.
وتابع: “في أثناء ذلك؛ ورد اسم أبي أحمد زكور إلى جانب أبو ماريا فيما يخص بعض قضايا الفساد المالي، وقد كان زكور لا يزال مقيماً في مناطقنا، فتم استدعاؤه ومساءلته، ثم جرى عزله من منصبه في سياق الترتيب لمحاكمته، كما ورد اسمه عقبها مباشرةً في سياق التحقيقات الأمنية الجارية، ففرّ إلى ريف حلب الشمالي ورفض الحضور، وبدأ بإظهار نفسه بصيغة وصورة جديدة، تقوم على تجميل نفسه من خلال ذمّ الجماعة، وحين رفض المجيء قررنا اعتقاله بالقوة، وحصل ما حصل مما هو معروف”.
الصعود للكرسي!
تقرير حديث لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان”، يقول إن “تحرير الشام” تواصل تنفيذ اعتقالاتها بحق عناصر وقياديين في صفوفها بتهم متنوعة من أبرزها التعامل مع “التحالف الدولي”، حيث نفذت منذ مطلع الشهر الجاري العديد من الاعتقالات لعدد من عناصرها وقياداتها كان من أبرزهم القيادي المنشق عنها “أبو أحمد زكور”، وتسليمه للأمن التركي، إضافة لعدد كبير من أبناء قبيلة البكارة، وعناصر ضمن صفوفها بتهمة التعامل مع “التحالف الدولي”.
ومن بين المعتقلين خلال هذه الفترة ناشطين إعلاميين اثنين جرى اعتقالهما بسبب انتقادهما لممارسات الهيئة، فيما تسعى “تحرير الشام” من خلال تلك الاعتقالات لبسط هيمنتها ونفوذها بالقوة على المنطقة من خلال جهازها الأمني الذي يواصل ملاحقة المخالفين لسياستها واعتقالهم من مدنيين وعسكريين على حد سواء.
ووفقاً لما وثقه “المرصد السوري”، فقد اعتقلت “تحرير الشام” منذ مطلع الشهر الجاري، 40 شخصاً بينهم ناشطين إعلاميين اثنين وقيادي بارز في الصف الأول، و22 من المدنيين.
يبدو أن قادة “تحرير الشام” يتحركون بوعي قائم على النهب والاستيلاء، ويرون في التنظيم مجالاً حيوياً يتم من خلاله تراكم الثروات والنفوذ، وليس من أجل تحقيق مكاسب سياسية لصالح السوريين.
لذا، فإن ما يحدث من انشقاقات ومحاولات اغتيال بين قادة “تحرير الشام” الأوائل، بدءاً بحادثة اعتقال أبو ماريا القحطاني ومن ثم اختفائه نهائياً، وتالياً انشقاق زكور ومحاولة اعتقاله من قبل الجولاني، إضافة إلى التوترات التي تشهدها المنطقة حالياً، حيث انتشر الجيش التركي، مساء الأحد، في معبري دير البلوط والغزاوية بين إدلب وعفرين وإغلاق الطريق العسكري بين المدينتين، بالتزامن مع تحركات “تحرير الشام” بحسب تقارير محلية، فيمكن تفسير ذلك على أنه يأتي في إطار “صراع الإخوة الأعداء على النفوذ والفوز بكرسي الهيئة”.
كما يبدو أن قادة “تحرير الشام” يتحركون بوعي قائم على النهب والاستيلاء، ويرون في التنظيم مجالاً حيوياً يتم من خلاله تراكم الثروات والنفوذ، وليس من أجل تحقيق مكاسب سياسية لصالح السوريين المقيمين تحت حكمهم وسطوتهم.
ومن هنا يبدو أن الجولاني قد نجح مؤقتاً في القضاء على أي منافس له داخل الهيئة، ويسعى حالياً لتأمين جهاز أمني يكن له بالتبعية والولائية الكاملة، وبالتالي تبديد كل المخاوف من انقلابات داخلية قد تحدث مستقبلاً، كما كان أبو ماريا القحطاني أو زكور أو غيرهما القيام بها.
هذا وينقسم شمال سوريا، الخارج عن سيطرة الحكومة السورية منذ سنوات، إلى منطقتين، الأولى هي ريف حلب، الذي يضم مساحة كبيرة من عفرين وصولاً إلى جرابلس والباب شرقاً. وتقع هذه المناطق تحت سيطرة فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا.
أما المنطقة الثانية فهي محافظة إدلب التي سيطرت عليها “هيئة تحرير الشام”، بقيادة الجولاني، بشكل كامل، وبين هاتين المنطقتين ثمة اختلاف في الإدارة والتنظيم العسكري، وكذلك على المستوى الاقتصادي، كما أن هناك حدوداً ومعابر داخلية، تتركز بشكل رئيسي على حدود منطقة عفرين الفاصلة.
ومنذ العامين الماضيين ثمة محاولات محمومة من قبل “تحرير الشام” لتحقيق اختراق عسكري أو أمني في مناطق ريف حلب الشمالي، سعياً لضم بقية الفصائل السورية إليها ومن ثم السيطرة على كامل مناطق سيطرة “فصائل المعارضة”.
- وفيق صفا.. ما الذي نعرفه عن أول قيادي ينجو من ضربات إسرائيل
- ما بين النفط والموقع الاستراتيجي.. الصين عينها على السودان
- بموافقة 26 دولة.. مجلس حقوق الإنسان يعتمد قرارا حول سوريا
- إسرائيل تحيّد قائد وحدة الصواريخ بقوة “الرضوان” واستهداف جديد لـ”اليونيفيل”
- العراق وتعديل قانون الأحوال الشخصية.. الرجعية تكسر التنوير!
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.