في ظل الحرب الدائرة على قطاع غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وانشغال العالم بالوصول إلى اتفاق يقضي بإنهاء المأساة الإنسانية في القطاع المحاصر وتحقيق تقدم في هذا الإطار، وجهت موسكو الأنظار إليها عبر إطلاق حوار فلسطيني لتوحيد الفصائل الفلسطينية كافة بعد سنوات من الانقسام.
دعوة روسيا للفصائل الفلسطينية إلى موسكو لم تأت من عبث، إذ أن هذه الدعوة تحمل تساؤلات عدة حول المصالح الروسية والدور الذي تود القيام به في ظل الوضع الراهن، خاصة بعد استقالة الحكومة الفلسطينية والحديث عن قرب التوصل إلى هدنة إنسانية قبيل شهر رمضان وربما وقف لإطلاق النار، ناهيك عن التشكيك بما سينتج من هذه الاجتماعات.
قبل الخوض في نوايا موسكو من احتضان الفصائل الفلسطينية يجب أن ندرك أن مصالح روسيا الاستراتيجية تكمن في أوروبا وآسيا، لكن تدخلاتها المستمرة بقضايا الشرق الأوسط -بينها القضية الفلسطينية- لا يتجاوز سوى امتلاك ورقة مساومة لتحقيق بعد جيوسياسي والانفراد بحربها على أوكرانيا بإشغال الولايات المتحدة لأكثر وقت ممكن.
المصالح الروسية
لا تريد موسكو أن تفقد دورها في أي قضية من قضايا الشرق الأوسط، فهمي تسعى لأن تكون دولة ذات قوة عظمى من خلال امتلاك القدرة على التأثير في جميع القضايا وبالتالي المقايضة لتحقيق مساع سياسية واقتصادية وعسكرية، وهذا الطموح الروسي لم يتراجع خاصة في ظل الحرب التي تشنها على أوكرانيا منذ أزيَد من سنتين وما تبعها من عقوبات غربية، بل إنها تحاول الحصول على مكاسب بالمناورة ببعض الأوراق.
الدبلوماسي السابق، مسعود معلوف، يرى في حديث لـ “الحل نت”، أن ما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاليا من دعوة للفصائل الفلسطينية للاجتماع في موسكو هو رسالة ذات ثلاثة أبعاد. الرسالة الأولى هي لإسرائيل، إذ أن بوتين حاليا على خلاف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بسبب حملته على قطاع غزة وبوتين يود أن يظهر دائما كحليف للدول الضعيفة، بالأحرى القضية الفلسطينية، لذلك هو يدعو الفصائل الفلسطينية لإرسال رسالة واضحة لإسرائيل أن موسكو تدعمهم ولا تدعم إسرائيل في هذه الحرب.
أما الرسالة الثانية، بحسب معلوف، فهي إلى الرئيس الأميركي جو بايدن، إذ أن هنالك خلافات واضحة جدا بين الولايات المتحدة وروسيا فيما يتعلق بالحرب على أوكرانيا، في حين أن الرسالة الثالثة إلى الأوروبيين الذين يدعمون أوكرانيا في الحرب ويدعمون إسرائيل إلى حد ما ويقفون إلى جانب كييف.
وتتفق في ذلك أستاذة العلوم السياسية، الدكتورة أريج جبر، إذ ترى في حديث لـ “الحل نت”، أن روسيا من خلال الملف الفلسطيني تحاول رد الصاع بصاعين للولايات المتحدة إزاء الملف الأوكراني، وأنها قادرة على الثأر لذاتها ولي الذراع الأميركي ليس في الميدان الأوكراني فقط، وإنما في مناطق التأثير والنفوذ الأميركي.
موسكو تريد الحفاظ أيضا على دورها في القضية الفلسطينية، إذ أنها عضو في “اللجنة الرباعية الشرق أوسطية” باعتبارها الآلية التي بدأ العمل من خلالها منذ عام 2002 مع ممثلين عن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والولايات المتحدة الأميركية، لذلك هي تود أيضا الإشارة إلى نفسها في هذا الشأن.
يمكن القول، إن المساع الروسية تندرج في محاولة ابتلاع التفرد الأميركي القائم على الهيمنة على مسيرة السلام بوصف الولايات المتحدة الأميركية اللاعب الأوحد والأهم الراعي لمباحثات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، بحسب حديث أستاذة العلوم السياسية أريج جبر لـ “الحل نت”.
روسيا تحافظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف وتروج لنفسها أنها وسيط موثوق، حتى تحافظ على وجودها في أي عملية سلام محتملة، لكن علاقتها مع إسرائيل توترت بعض الشيء بعد الحرب على أوكرانيا، والتقرب الواضح لموسكو من طهران.
التنافس مع الولايات المتحدة
المصالح الروسية، بحسب المحلل السياسي الروسي أندريه أونتيكوف، مرتبطة بضمان الدور الروسي في عملية السلام في الشرق الأوسط وروسيا عندما تقوم بإجراء الاجتماع فهي أيضا ستكون متمثلة في الانخراط بعملية السلام والمفاوضات التي قد تبدأ ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين في نهاية المطاف.
“روسيا تعمل بالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية المختلفة ليس فقط في قطاع غزة وكذلك في الضفة الغربية من أجل التوصل إلى الاتفاق بين تلك الفصائل. الكل يدرك عاجلا أم آجلا أن الحرب في غزة ستنتهي ولكن عملية السلام في الشرق الأوسط ستكون مطروحة على الطاولة”، وفق حديث أونتيكوف لـ “الحل نت”.
لا تتوقف روسيا عن اتهام الولايات المتحدة بالإخفاق في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وهذا ما ردده وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في اليوم الأول لاجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو، الخميس الماضي، حيث اتهم واشنطن بـ “عدم الاهتمام بمصالح دول المنطقة، مع أن هذه المصالح يتمّ تشويهها دون تلبيتها خلال سنوات طويلة”، بينما حمل الولايات المتحدة مسؤولية الأزمة في قطاع غزة.
وقال مدير “معهد الاستشراق” في الأكاديمية الروسية للعلوم فيتالي ناومكين، التي جرت الاجتماعات الفلسطينية تحت إشرافه، إن “موسكو تسعى إلى مساعدة الفلسطينيين لتوحيد صفهم، فالانقسام يعرقل عملية السلام في الشرق الأوسط، ويستخدم كورقة من قبل أعداء التسوية السياسية وأعداء الشعب الفلسطيني”.
بالنسبة لموسكو فإن القضية الفلسطينية هي مفتاح رئيسي للدخول بقضايا الشرق الأوسط، إذ أنها تتمتع باهتمام دولي وعربي وهي تؤثر على المنطقة برمتها وتمتد إلى أبعد من ذلك نتيجة ارتباطها ببعد ديني وتأثيرها على الشعوب العربية خاصة، لذا فإن موسكو تدرك أن انخراطها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الممتد منذ 76 عاما سيمكنها من الإبقاء على نفسها لاعبا، ولو بدور ثانوي.
مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي، الصحفي المقدسي داود كتاب، يرى في حديث لـ “الحل نت”، أن روسيا تحاول أن يكون لها دور مباشر في القضية الفلسطينية، وهي تريد الظهور كداعم للعرب والفلسطينيين وكسب العالم العربي وهذا دور تقليدي لموسكو.
فوضى سياسية
لا يعول كثيرا على دور روسيا في توحيد الفصائل الفلسطينية والمضي قدما في هذا الاتجاه، إذ أن الساحة الفلسطينية تعاني من الانقسام منذ عام 2007، حيث تسيطر “حركة حماس” على قطاع غزة، في حين تدير الضفة الغربية حكومة شكلتها “حركة فتح” بزعامة الرئيس محمود عباس، لكن هذه الدعوة ستعمل على إضعاف الجهود الدولية لتقريب وجهات النظر بين الفصائل وبالتالي إطالة الصراع.
هذا الاجتماع لم يكن الأول من نوعه، فسبقه اجتماع القطبين في مصر والجزائر وعشرات الاجتماعات التي بدأت منذ 2007 ولليوم وجميعها تعمق الهوة وتعزز فجوة الانقسام، لأنها تبدأ بقائمة اشتراطات تريد استسلام وتساوق طرفيه في مشروع كل منهما له أهدافه وأدواته وداعميه وتصوره للمستقبل، وفق الدكتورة أريج جبر، المختصة بالشأن الفلسطيني.
البيان الختامي لاجتماع موسكو، بحسب جبر، جاء استنساخا لمقررات القمم العربية والدولية بما حوى من إدانة وشجب واستنكار، دون الإشارة إلى خطوات لاحقة تضمن وحدة الموقف والمسعى الفلسطيني أي أن الخطوات راوحت مكانها دون جدوى، وأن المراهقة السياسية لطرفي الصراع انقضت دون وحدة فعلية.
من حيث الشكليات الأخرى، وفق جبر، فإن انتداب شخص عزام الأحمد للتفاوض باسم “فتح” مع اليقين بعدم أهليته لهذا الدور وعجزه عن هكذا مهمة في الظروف العصيبة بشكل يدفعنا لحالة من عدم التفاؤل، والقول إن الاجتماع برمته ولِد ميّتا، ومجرد فوضى سياسية لن تسفر عن مؤشرات إيجابية، وأن جل ما حدث في موسكو لم ولن يرقى لقيمة الدم والتضحيات الفلسطينية.
إذا كانت روسيا ترغب فعليا بتوحيد الفصائل الفلسطينية، فإنه يتوجب عليها تقديم خطة عمل لمرحلة ما بعد الحرب والضغط على الجانب الإسرائيلي فيما يخص المطالب الفلسطينية وأهمها وقف الحرب على غزة، لكن موسكو لا تمتلك استراتيجية بعيدة المدى تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وليس لديها أدوات حقيقية أو حتى إجماع عربي ودولي عليها لدفع عملية السلام إلى الأمام.
ناهيك عن أن العلاقات الروسية الإسرائيلية تتسم بالفتور وهي في أدنى مستوياتها على الإطلاق منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، وهذا بدا واضحا بعد مكالمة 10 كانون الأول/ ديسمبر المنصرم بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفق صحيفة “الغارديان” البريطانية، لذلك فإن روسيا غير قادرة على أخذ دور الوسيط بين الطرفين.
على الرغم من عدم التعويل على روسيا في تحقيق تقدم بتوحيد الفصائل الفلسطينية، إلا أن هذه الخطوة من شأنها لفت الانتباه الدولي بعض الشيء إلى موسكو، خاصة في هذا التوقيت، إذ تترقب روسيا فرض عقوبات غربية جديدة عليها وربما تتمكن من اللعب على عامل الوقت والمقايضة، إضافة إلى ضمان دورها التقليدي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبالتالي لن تفقد ورقة رابحة.
أخيرا، لا تتطلع روسيا في الوقت الحالي إلا لتحقيق تقدم في حربها على أوكرانيا، وهي تحاول بشتى السبل تشتيت انتباه العالم إلى صراعات أخرى، واستغلال ما يحدث هنا وهناك، كأزمة البحر الأحمر والحرب على غزة في الوقت الراهن، وصرف الأنظار عن غزوها لكييف لبعض الوقت.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.