ثمّة تداعيات جمّة نتيجة اندلاع الحرب في قطاع غزة، منذ شنّ “حماس” هجماتها المباغتة ضد إسرائيل. ومن بين تلك التداعيات الجيوسياسية على الإقليم، تأثر القطاع النفطي خاصة بين الصين وإيران، لا سيما مع الأزمات التي تلاحق ممرات الملاحة الدولية في قناة السويس أو مضيق هرمز، والأخير يسجل مرور قرابة 17.5 مليون برميل يومياً.
في ظل الأوضاع المتخمة بالحوادث السياسية والأمنية والعسكرية المتنامية بالمنطقة، تأثرت واردات الصين النفطية التي تصل لنحو 10 ملايين برميل بينما تعتمد عليها من إيران كما العراق ودول “مجلس التعاون الخليجي”، حيث أن “إنسايتس غلوبال” العالمية المختصة في قضايا الطاقة والشؤون الدولية، تقول في أحد تقاريرها، إن الصين تحصل على واردات نفطية من السعودية بقرابة 28.1 مليار دولار، بشكل سنوي.
سيولة سياسية وأمنية تفاقم الوضع
بالتالي، تضحى المنطقة مجالاً حيوياً واستراتيجياً بالنسبة لبكين التي تسعى إلى التوسع السياسي والإقليمي، فضلاً عن أداء أدوار وساطة في الأزمات القائمة، كما حدث في الاتفاق الثلاثي برعايتها بين الرياض وطهران، مع تفاقم الصراع في غزة بين “حماس” وإسرائيل، تباشر دورها منذ اللحظة الأولى للإعلان عن موقفها الساعي لوقف إطلاق النار، نظراً لتخوفاتها من تأثير امتداد الحرب واتساع نطاقها على مصالحها النفطية. ولذلك قال ناطق بلسان حكومة بكين، إن بلاده “صديق مشترك لكل من إسرائيل وفلسطين”.
قبل أيام وبالتزامن مع إعلان طهران تعليق تجارة النفط مع الصين، ظلت أسعار النفط عند منحنى الهبوط “بفعل المخاوف بشأن تباطؤ الطلب في الصين، لكن استمرار المخاطر الجيوسياسية المحيطة بالشرق الأوسط وروسيا حد من التراجع”، وفق موقع “الحرة” الأميركي. وقال: “بحلول الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش، انخفضت العقود الآجلة لخام برنت 48 سنتا أو 0.6 بالمئة إلى 81.60 دولارا للبرميل، في حين نزل خام غرب تكساس الوسيط الأميركي 50 سنتا أو 0.6 بالمئة إلى 77.51 دولارا. وانخفض كلا الخامين الأسبوع الماضي، مع تراجع برنت 1.8 بالمئة وخام غرب تكساس الوسيط 2.5 بالمئة”.
ونقلت وكالة “رويترز” للأنباء عن هيرويوكي كيكوكاوا رئيس (أن.أس تريدنغ) وهي وحدة تابعة لشركة نيسان للأوراق المالية قوله: “طغت المخاوف بشأن ضعف الطلب في الصين على تمديد مجموعة أوبك بلس لتخفيضات الإنتاج”. وقال إن “الإشارات المتباينة من بيانات التوظيف الأميركية دفعت بعض المتداولين إلى تعديل مواقفهم”. وأردف: “لكن المخاطر الجيوسياسية المتزايدة ستحد من الخسائر مع احتمال عدم التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الحرب بين حماس وإسرائيل. وقد يتسع الصراع بين روسيا وجيرانها”.
وبحسب “وكالة الأنباء العالمية”، فقد حدّدت الصين، الأسبوع الماضي، هدف النمو الاقتصادي لعام 2024 بنحو 5 بالمئة، وهو ما وصفه العديد من المحللين بأنه طموح دون المزيد من التحفيز. فيما أظهرت بيانات نهاية الأسبوع، أن واردات الصين من النفط الخام ارتفعت في الشهرين الأولين من العام مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023، لكنها كانت أضعف من الأشهر السابقة، ليتواصل اتجاه تراجع المشتريات من قبل أكبر مشتر للنفط في العالم.
بكين أمام منحنى استراتيجي خطير
في حديثه لـ “الحل نت” يقول الصحافي اللبناني المختص في الشأن الاقتصادي، عبد الرحمن أياس، إن تجارة النفط بين الصين وإيران تواجه عقبة كبيرة إذ تمتنع طهران عن شحنه وتطالب بأسعار أعلى من أكبر بلد عميل لنفطها، ما يقلص الإمدادات الرخيصة لأكبر بلد مستورد للنفط الخام في العالم. انخفاض إمدادات النفط الإيراني، التي تشكل حوالي 10 بالمئة من واردات النفط الخام الصينية وسجلت رقماً قياسياً في تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، قد يعزز الأسعار العالمية ويخفض أرباح المصافي الصينية. هذا التطور غير المتوقع قد يكون أيضاً نتيجة لعواقب إعفاء الولايات المتحدة نفط فنزويلا من عقوبات تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ما أعاد توجيه الشحنات من إنتاج البلاد الواقعة في أميركا الجنوبية إلى الولايات المتحدة والهند، وأدى إلى ارتفاع الأسعار وتناقص الشحنات إلى الصين.
تعود المشكلة إلى بداية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وفق عبد الرحمن أياس، وذلك حين أبلغ بائعون إيرانيون مشترين صينيين أنهم خفضوا الخصومات على الشحنات التي كان مقرراً تسليمها في شهري كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني/ يناير الماضيين من النفط الخام الإيراني الخفيف، ليصل سعر البرميل إلى مستوى يقل عن سعر ‘برنت’ المرجعي بما بين 5 و6 دولارات، مقارنة بـ10 دولارات للبرميل في تشرين الثاني/ نوفمبر المنصرم.
وفي ما يبدو أن الأمر جاء نتيجة لتعليمات من طهران برفع الأسعار، إذ تُعتبَر هذه الإجراءات جزءاً من حظر البيع إلى موردين وسيطين، على حد وصف الصحفي اللبناني المختص بالشأن الاقتصادي. ويردف: “تمكنت الصين التي تمر بمشاكل اقتصادية نتيجة السياسات المتشددة التي تنتهجها إدارة رئيسها، شي جين بينغ، في انقلاب جزئي على انفتاح دينغ شياو بينغ وخلفائه وعودة ولو محدودة إلى ضوابط المؤسس ماو تسي تونغ، من توفير مليارات الدولارات بشراء النفط الذي كثيراً ما يكون في مقابل أسعار مخفضة تعرضها بلدان منتجة واقعة تحت عقوبات مثل إيران وفنزويلا، وأخيراً روسيا، إذ تمثل هذه البلدان نحو 30 بالمئة من واردات النفط الخام الصيني. ليس من الواضح مدى تأثير انقطاع الإمدادات من إيران على الصين، إلا أن بعض المشترين الصينيين قبلوا بالأسعار الأعلى”.
تزامنت مع تلك الاضطرابات، تعطل وتجميد تجارة النفط بين طهران وبكين بعد إلحاح الأولى على رفع الأسعار وحجب شحنات النفط، الأمر الذي سيؤدي بدوره إلى تخفيض الإمدادات النفطية الرخيصة لأكبر مستورد للخام في العالم، مع الأخذ في الحسبان، أن وكالة “بلومبرغ” سبق وحذرت من تداعيات التصعيد في الشرق الأوسط على أسواق النفط، وقال: “في حالة اتساع الحرب سينخفض معدل النمو العالمي إلى 2.4 بالمئة في العام الجاري، نتيجة زيادة اضطرابات الشحن عبر قناة السويس ومضيق هرمز. لا سيما إذا بدأت إيران أو أحد وكلائها استخدام النفط سلاحاً من خلال وقف الشحنات المارة عبر المضيق، الذي يمر عبره نحو 30 بالمئة من استهلاك النفط العالمي، وفق السيناريو المتشائم لمعهد التمويل الدولي”.
الطاقة وسؤال المستقبل حول رهانات القوى الإقليمية
أياس أردف، أنه “رغم صعوبة توقع مقدار وفترة الزيادة في أسعار الطاقة، قدر تقرير (معهد التمويل الدولي) ارتفاع أسعار النفط والغاز بنحو 40 بالمئة في 2024، ليبلغ سعر النفط 120 دولاراً للبرميل، فضلاً عن الزيادة الكبيرة في تكاليف الشحن والتأمين، ما سيسبب ضغوطاً تضخمية في فترة لا يزال معدل التضخم فيها أعلى من مستهدفاته. كما سيتراجع معدل نمو التجارة العالمية إلى 0.8 بالمئة، نتيجة استمرار الهجمات على سفن الشحن، ما سيرفع معدل التضخم أيضاً. رغم الصورة القاتمة التي يرسمها هذا السيناريو، توقع المعهد حدوثه بنسبة 30 بالمئة فقط. مع ذلك، استبعد المعهد في تقريره اتساع رقعة الحرب، ورجح اقتصارها على قطاع غزة بنسبة 70 بالمئة”.
كما “سيتراجع معدل النمو العالمي بشكل طفيف من 3.1 بالمئة إلى 2.8 بالمئة في 2024، وسيواصل التضخم تراجعه، إذ ستؤدي وفرة سفن الشحن المتاحة وتراجع الطلب على السلع -في أميركا والصين بالأخص- على إبقاء تأثير اضطرابات الإمدادات عند الحد الأدنى”، كما يقول التقرير الدولي.
وفق صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، ارتفعت أسعار النفط نهاية الأسبوع الماضي بعد أن أشار محضر اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) إلى أن التضخم أصبح تحت السيطرة، كما ارتفعت العقود الآجلة لخام برنت 48 سنتاً، بما يعادل 0.62 بالمئة، إلى 78.07 دولارا للبرميل. وزادت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأميركي 58 سنتاً، بما يعادل 0.8 بالمئة، إلى 72.77 دولار. وعوَّض الخامان القياسيان تقريباً جميع خسائرهما التي تكبداها يوم الخميس عندما سَجَّلت الأسعار عند التسوية انخفاضاً، بعد جلسة متقلبة بسبب زيادة أسبوعية كبيرة في مخزونات البنزين ونواتج التقطير. ويتجه الخامان إلى إنهاء الأسبوع الأول من العام على ارتفاع.
وبحسب الصحيفة: “لم يقدم محضر اجتماع المركزي الأميركي مؤشرات مباشرة حول الموعد الذي قد يبدأ فيه خفض أسعار الفائدة، لكن المناقشات أظهرت شعوراً متزايداً بأن التضخم أصبح تحت السيطرة، وتزايد القلق إزاء مخاطر “الإفراط في تشديد” السياسة النقدية على الاقتصاد، فيما يؤدي انخفاض أسعار الفائدة إلى تقليل تكاليف الاقتراض الاستهلاكي، مما قد يعزز النمو الاقتصادي والطلب على النفط. وقد جاء الارتفاع رغم أن بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية أظهرت أن مخزونات البنزين سجلت، الأسبوع الماضي، أعلى زيادة أسبوعية في أكثر من 30 عاماً، في حين انخفضت منتجات نواتج التقطير، وهي مؤشر للطلب، إلى أدنى مستوى لها منذ عام 1999″.
من وجهة نظر الصين، تعد العلاقات مع إيران ذات أهمية استراتيجية كبيرة، وذلك لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية. لا سيما إلى جهة اعتماد الأخيرة على الصين بصورة كبيرة في التخفيف من تداعيات العقوبات الاقتصادية الأميركية، عبر شراء أكثر من مليون برميل نفط إيراني يوميا عبر وسطاء، لكن ذلك لم يكن دون ثمن، إذ تعين على طهران دوماً إغراء بكين بحوافز متنوعة من قبيل بيع النفط للمصافي الصينية غير الحكومية، بأسعار تقل كثيراً عن سعره في الأسواق العالمية، وفق الباحث العراقي المختص في الشؤون السياسية والإقليمية منتظر القيسي.
ويقول القيسي لـ “الحل نت”، يبدو أن الفرق بين السعرين كبير إلى درجة وضعه في خانة الأسرار بحسب وصف مجيد رضا حريري رئيس غرفة التجارة الإيرانية الصينية نظراً لتجنب معظم الدول المستهلكة التعامل مع إيران خشية الوقوع تحت طائلة العقوبات الأميركية. فضلاً عن الدخول مع العملاق الآسيوي في اتفاقيات اقتصادية بشروط مربحة أكثر من أي مكان آخر في العالم. وهو الأمر الذي تنبهت إليه الدول العربية، خاصة السعودية التي وقعت عام 2022 اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة مع الصين، في مجالات الطاقة الخضراء والبنية التحتية، بقيمة 30 مليار دولار، في خطوة ضاعفت التردد الصيني الواضح في المضي قدماً في الاتفاقات المعقودة مع إيران، قبل التوصل إلى حل لأزمة الملف النووي الإيراني ورفع العقوبات الأميركية الأوروبية.
الصين تواصل سياسة التوازن؟
لذا، فإن رفع إيران لسعر النفط المباع إلى الصين، ووقف شحن أكثر 1.2 مليون برميل نفط يومياً إلى المصافي الصغيرة والمستقلة في الصين، حتى رفع الأسعار وتقليص حجم الخصم المعتاد، مثّل إخلالا بالاتفاق بين الطرفين مقابل تحمل الأخيرة مخاطر التحايل على القيود الأميركية المفروضة على التجارة مع إيران، خاصة في ظل دخول روسيا كمنافس في السوق غير النظامي لتداول النفط، الذي تستفيد منه دول أخرى مثل الهند في تحقيق مكاسب ضخمة من فرق السعر.
ومن الناحية الاقتصادية، يقول الباحث العراقي المختص في الشؤون السياسية والإقليمية لـ “الحل نت”، تعتمد الصين بشكل كبير على واردات النفط الإيراني الرخيصة لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الطاقة. وقد تضطر الصين إلى دفع أسعار أعلى للنفط الإيراني، ولكنها ستسعى بالتأكيد للتفاوض على شروط أفضل أو البحث عن مصادر بديلة، وهو ما يبدو أن إيران وضعته في حساباتها حين خاطرت باندلاع حرب شيعية شيعية في العراق، في سبيل منع إقصاء وكلائها العراقيين من السلطة، وتعمل بقوة حالياً لنفاذ الشركات الإيرانية إلى جميع مفاصل الصناعة النفطية العراقية .
أما من الناحية السياسية، والحديث للمصدر ذاته، تعتبر الصين إيران حليفاً مهماً في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتطلع الصين إلى استغلال رغبة الولايات المتحدة الأميركية في تقليص انخراطها في أزمات المنطقة، من أجل توفير الجهد والموارد لمواجهة الخطر الصيني المتنامي في منطقة الشرق الأقصى والمحيط الهادئ، لتوسيع قاعدة حلفائها في قلب منطقة ممرات التجارة الدولية ومصدر الطاقة الرئيسي الذي يعتمد اقتصادها الضخم عليه، لكن ذلك ليس على حساب علاقات جيدة مع الدول العربية الأخرى في المنطقة، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وهي دول مصدرة رئيسية للنفط أيضاً، وتتمتع باستقرار سياسي وبحبوحة مالية ومكانة عالمية.
لذلك، نشطت الصين خلال السنوات الأخيرة في لعب دور الوسيط في الصراعات الإقليمية، وتشجيع الحوار والحلول السلمية، وهو ما توج عام 2023 بإعلان استئناف العلاقات السعودية الإيرانية المقطوعة منذ عام 2016 في بكين وفي ضيافة وزير الخارجية الصيني.
في النهاية، من المرجح أن تواصل الصين سياسة التوازن في علاقاتها مع إيران ودول الخليج الأخرى، حيث تسعى إلى تلبية احتياجاتها من الطاقة وفي نفس الوقت الحفاظ على استقرار المنطقة لضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية، وفي المقابل، ستواصل إيران الاعتماد على الصين في الالتفاف على العقوبات الأميركية، لكن دون التوقف عن محاولة تحسين شروط الاتفاقات الثنائية عبر حركات مثل وقف شحنات النفط حتى رفع الأسعار، وفتح قطاع النفط العراقي أكثر أمام الشركات الصينية والضغط على الشركات الغربية للخروج من دائرة المنافسة.
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.