الارتباك الناشيء في الملفات الإقليمية نتيجة الصراع المستمر في غزة بين حركة “حماس” وإسرائيل، يضع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أمام فرصة يحاول استغلالها لتعويم مشاريعه والاستفادة من تلك الأحداث بتبايناتها حتى يعاود نشاطه المحموم في اتجاه فرض أجندته، المحلية والإقليمية، لا سيما في ما يخص ترميم تحالفاته الداخلية مع القوى القومية المتشددة والإسلام السياسي ونشر خطابهم الوظيفي الذي يجذب مؤديه بعدما تآكلوا وانحسروا وقد فقد هذا الخطاب مشروعيته كما ظهر في الانتخابات البلدية وخسارة “حزب العدالة والتنمية” قواعده وغالبية البلديات.

ويضاف لذلك، استعادة أردوغان دوره الإقليمي وموقعه المفقود في الصراعات الخارجية، بخاصة أزمة غزة، من خلال الانخراط في وساطة مماثلة لما تقوم بها مصر أو قطر. غير أن هذا الدور ما زالت فرصة ضعيفة حتى مع تهديد الدوحة بالانسحاب. فالدور التركي لا يحظى بذات المصداقية والأهمية من قبل عدة أطراف، لا سيما في ظل اعتماد أنقرة على طرف فلسطيني وعدم الانفتاح على باقي الأطراف، هذا بجانب التصعيد الذي شنه على إسرائيل، وأخيراً الوضع المأزوم مع واشنطن.

ومع المناورات المندلعة بين الحين والآخر أو على وجه دقيق التصعيد بين طهران ووكلائها وتل أبيب، ضمن ما يعرف بحرب الظل وقد باتت في بؤرة الأحداث ومتنها منذ استهداف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق وما تلاها من تطورات تخص الرد الإيراني ثم الرد على الرد من جانب إسرائيل، وبقدر ما كانت لحظة التصعيد الأخيرة عنيفة، ووضعت الشرق الأوسط على حافة حرب مفتوحة، تتعدى حدود غزة، وتجعل الصراع الإقليمي وشيكاً، فإنها كشفت كذلك عن قدرة الولايات المتحدة في ضبط الأحداث ومنع التصعيد من التفلت.

أردوغان والتموضع الإقليمي الجديد

وفي خضم هذه التطورات، سارع الرئيس التركي لتوظيف أي فرصة للتموضع من جديد إقليمياً، والحصول على دور يثمر له ببعض المكافآت التي تحل ولو مؤقتاً أزماته الداخلية، الاقتصادية وارتفاع التضخم لمستويات غير مسبوقة، فضلاً عن انحسار حزبه السياسي، كما حدث مع الأزمة السورية واستغلال ورقة اللاجئين لابتزاز الغرب والولايات المتحدة، وبعدها أزمة فيروس “كورونا”، كما تبدو الحاجة ملحاً من الناحية الخارجية لتسوية بعض ملفاته، خاصة مع وضعه في شمال سوريا والذي يمثل عبئاً من عدة نواح أمنية وسياسية، ويجعل سجله الحقوقي مأزوماً في الدوائر الغربية، مروراً بموقعه المأزوم هو الآخر في ليبيا وارتباطه بمطامعه الجيوطاقوية في نفط شرق المتوسط. 

وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في 22 نيسان/ أبريل 2024- “زاكروس”

هنا، يمكن فهم تحركات أردوغان الخارجية وزيارته لبغداد اليوم الاثنين للمرة الأولى منذ نحو 13 عاماً، الأمر الذي يلقي بظلاله على عدة ملفات، في قمتها هاجس الرئيس التركي المرير بخصوص “حزب العمال الكُردستاني” (بي كي كي)، حيث إنه ما زال بحاجة قصوى إلى اصطفاف بغداد وإقليم كُردستان في عملية عسكرية تقودها تركيا للقضاء على الحزب المقيم في جبال قنديل. 

وهذا الحشد العسكري التركي إنما يفضح خبيئة أنقرة التي تسعى إلى تصدير أزماتها الخارجية في ما يخص الأزمة مع الأكراد بشمال سوريا وتشتيت الجهود الكُردية التي تعاني الاحتلال في عفرية بصفة عامة في صراع بعيد بعمق ومركز القوى الكُردية التي تقود كفاحها الرمزي لاسترداد الحقوق التاريخية وتشكل مرجعية نضالية تاريخية. فيما تواصل أنقرة سعيها إلى ربط الكُرد كافة بـ”حزب العمال الكُردستاني” للحصول على شرعية التعامل الخشن والعسكري مع الكُرد في كل مكان بتركيا وخارجها. 

عودة أردوغان إلى بغداد بعد هذه المدة المستمرة لأكثر من عقد، ربما، لن تنهي الأزمات المتعلقة بالملفات الأمنية، خاصة أنها تندرج ضمن انتهاك السيادة بالتعريف في القانون الدولي، وذلك مع استمرار الجيش التركي والمسيرات في استهداف مواقع في أربيل/ هولير شمال العراق بحجة ملاحقة أعضاء ومقاتلي الحزب الكُردي. لكن تكشف باقي الملفات بشأن الحصة من مياه نهري دجلة والفرات وكذا تصدير النفط، أن أردوغان سيكون بصدد استغلالها لفرض أجندته أو الضغط من خلالها لفرض هدفه المباشر والرئيس بخصوص الحرب على الأكراد. 

اللافت أن تحركات تركيا تبدو من الناحية الشكلية في نشاطه الإقليمي يسعى إلى تصفير المشاكل، كما في استدارته للقاهرة بعد أكثر من عقد تقريباً من الخصومة على خلفية تأييده حكم جماعة “الإخوان المسلمين” المصنفة إرهابية في القاهرة وعدد من البلدان العربية، لكنه في حقيقة الأمر لا تتجاوز محاولة فض سريع للخلافات من دون التوافق على أجندة توافقية يضمن السياسات المستقبلية. بالتالي، تظل خطوات أردوغان الخارجية حركة من طرف واحد وفي اتجاه ليس ثنائياً. 

“زيارة هشة دون أفق”

من المرجح أن تبقى الزيارة في حدود هشة من دون أفق، لا سيما مع اشتراط تركيا تحقيق المطالب كافة بإنهاء الوجود الكُردي لحزب العمال، وأن يكون الانسحاب من القواعد في المناطق الحدودية مرتبط بهذا الأمر. لكن أردوغان وفي سياق آخر يسعى إلى تشكيل اصطفافات إقليمية من خلال زيارة العاصمة العراقية وبعدها الإقليم لتعميق دوره في الوساطة بشأن حرب غزة، الأمر الذي يجعله أمام مهمة للبحث عن أطراف خارج الكتل السنية التي تنافسه على هذا الدور، وتعد بغداد بارتباطها المركزي بإيران بينما تتولى إدارة محور المقاومة في الحرب بغزة ضمن المفاتيح الرئيسية. وتبقى الكتل السنية مفتاحها “حماس” وقوى الإسلام السياسي، فضلاً عن أربيل/ هولير.

بخلاف تركيا التي لن تتمكن من ملء فراغ انسحاب الدوحة المحتمل، رغم ما تبديه من انفتاح وبراغماتية في التعاطي مع قوى وتنظيمات الإسلام السياسي، فإن عمان هي الجهة الإقليمية التي يمكن تأدية دور الوساطة، وذلك لجهة أدوار عديدة نجحت فيها وقبولها لدى واشنطن والغرب وموقعها الحيادي وقدرتها على الانفتاح والمرونة السياسية والإقليمية بين أطراف كافة بعيداً عن التسييس التركي والمصالحية المؤقتة.

تهديد إسرائيل بأن يكون قادة “حماس” ضمن دائرة الاستهداف في أي مكان، الأمر الذي حدث في الضاحية الجنوبية بلبنان مع صالح العاروري، لا يبدو أن تخاطر أنقرة بهكذا اتجاه.

وسبق لرئيس الحكومة القطرية محمد بن عبدالرحمن أن أبدى امتعاضه من “الإساءة للدوحة القطر”، وقال: “للأسف رأينا أن هناك إساءة استخدام لهذه الوساطة، توظيف هذه الوساطة لمصالح سياسية ضيقة”. وقال: “وهذا استدعى دولة قطر بأن تقوم بعملية تقييم شامل لهذا الدور”، وقد شدد على أنه: “نحن الآن في هذه المرحلة لتقييم الوساطة وتقييم أيضاً كيفية انخراط الأطراف في هذه الوساطة”.

ورغم فرض الدوحة احتمالية الانسحاب أو “إعادة التقييم” لموقفها من الوساطة، إلا أن الخارجية الأميركية، الخميس، أكدت على أن “قطر من وجهة نظرنا وسيط لا غنى عنه عندما يتعلق الأمر بالصراع الحالي في غزة”.

غير أن عضو الكونغرس الأميركي، ستيني هوير، قال إنه “إذا فشلت قطر في ممارسة الضغط (على حماس) فإن الولايات المتحدة لا بد أن تعيد تقييم علاقتها مع قطر”. وقال النائب الديمقراطي إن الدوحة، التي تتوسط هي ومصر في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، يجب أن تخبر حركة “حماس” بأنه ستكون هناك “تداعيات” إذا “واصلت حماس عرقلة التقدم صوب الإفراج عن الرهائن والتوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار”.

وقال في بيان: “ينبغي للتبعات أن تشمل قطع التمويل المقدم إلى حماس أو رفض منح قادة حماس حق اللجوء في الدوحة. إذا فشلت قطر في ممارسة هذا الضغط، فإن الولايات المتحدة لا بد أن تعيد تقييم علاقتها مع قطر”.

وعلقت السفارة القطرية في واشنطن، بأن تصريحات عضو الكونغرس الأميركي “غير بناءة”. وقالت “قطر وسيط فقط، لا نتحكم في إسرائيل أو حماس. حماس وإسرائيل هما المسؤولتان الوحيدتان عن التوصل إلى اتفاق”.

وصول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد في 22 نيسان/ أبريل 2024- “زاكروس”

بالتالي، جاءت زيارة إسماعيل هنية إلى إسطنبول ولقاء أردوغان، لتضع سيناريوهات بشأن طبيعة وماهية وحدود وأفق الدور التركي المستقبلي، وما إذا كانت هناك فرصة لتعيين هذا الدور في مساحات مؤثرة في حال لو انسحبت الدوحة عملياً، ثم احتمالية انتقال قادة “حماس” من قطر إلى تركيا، وقد سبق لواشنطن أن طالبت الأولى بالضغط على “حماس” وقادتها والتهديد بطردها في حال عدم الاستجابة لمطالب التهدئة والمفاوضات بشأن القبول بالهدنة والتسوية.

هل تستقبل تركيا “حماس”؟

غير أن مع تهديد إسرائيل بأن يكون قادة “حماس” ضمن دائرة الاستهداف في أي مكان، الأمر الذي حدث في الضاحية الجنوبية بلبنان مع صالح العاروري، لا يبدو أن تخاطر أنقرة بهكذا اتجاه إلا في حال وجود تفاهمات دولية وبرعاية واشنطن وضماناتها وقبول إسرائيل. فلا يمكن للرئيس التركي أن يغامر بعلاقاته الاستراتيجية مع إسرائيل لحساب أي طرف، بل إن دور الوساطة إنما هو لاستعادة العلاقات لنفس مسارها في ما يخص التبادل التجاري والاقتصادي، الأمر الذي تأثر بفعل الضغوط الشعبية نتيجة تباين مواقفه من حرب غزة بين ما هو شعبوي مسيس وما هو عملي براغماتي.

عاود أردوغان الذي كان خطابه حيادياً ولا يتبنى عبارات مشددة ضد إسرائيل، ويمسك العصا من المنتصف، إلى نبرة هجومية متشددة لصالح قوى الإسلام السياسي حتى لرأب الصدع الذي جرى في جبهته الشعبية، وقد ظهر بوضوح في فقدانه المراكز الانتخابية في الاستحقاق الأخير. 

وطالب أردوغان مؤخراً الفصائل الفلسطينية بـ”الوحدة” لأقامة دولتهم، وقال في بيان رسمي صادر عن الرئاسة: “من الحيوي أن يتحرك الفلسطينيون موحدين في هذه العملية…”. وتحدث أردوغان لإسماعيل لهنية بأن أنقرة ملتزمة بالجهود الدبلوماسية لـ”وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء المجازر”. 

وتابع: “ستواصل مساعدتها الإنسانية لفلسطين بهدف التخفيف قدر الإمكان من معاناة المواطنين في غزة”. وقال أردوغان أنه قام بفرض “عدد من العقوبات على إسرائيل، بينها قيود تجارية” مطلع الشهر الجاري نيسان/ أبريل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة