لماذا الكتابة عن عادل إمام؟ وهل من مناسبة نحتاج للحديث عن شخصية فنية لها رصيد كبير من التأثير والحضور الكبيرين؟. يتصادف اليوم العيد الـ84 لميلاد “الزعيم”. لقب لم يحوزه غيره، بمعنى أنه ليس كسواه ممن ترتبط بهم مسميات لا تعبر عن واقع انتشارهم، والأهمية بين الجماهير. فالفنان المصري الكبير تتخطى جماهيريته الأقطار العربية، وقد تحول إلى نقش في ذاكرة المواطنين كأحد قوى مصر الناعمة، بينما ما تزال أعماله في المسرح كما في التلفزيون والسينما لها نفس القوة وتعطي نفس الانطباع وتبرز الحالة ذاتها كأنما تعرض للمرة الأولى. وما تزال الأفلام على تنوعها بين الكوميديا والسياسي والاجتماعي لها طزاجتها من حيث انفرادها بمناقشة موضوعات ملحة وجريئة نقع تحت وطأتها حتى اليوم.

ما إن تطأ أقدامك أي بلد في محيط الشرق الأوسط، ويلتقط أحدهم لهجتك المصرية المميزة إلا ويتذكر عادل إمام ويسأل أفلامه وربما أخباره، وقد ارتبطت القاهرة في أذهان الجماهير من المحيط للخليج بالسينما والدراما التي قدمها فنانون مصريون يأتي في قمتهم صانع البهجة بطريقته العفوية والمحبوكة والقادر على تحريك مشاعرك بجاذبية لا تقاوم، فاخترق الوجدان ولم تعصى عليه المراحل التاريخية وراكم بين الأجيال من كافة الخلفيات الاجتماعية والثقافية، محلياً وخارجياً، صلات قوية متينة وترقى بينهم حتى بات اسمه المتداول مثل عملة أنيقة يرتفع قيمتها إلى أن أضحت قيمة تاريخية لا تقدر بثمن.

عادل إمام والانتصار لقيمة الفن

وهل الذي يمنحك السعادة والسعادة المطلقة ويوغل في مشاعرك الحب له ثمن؟ حتماً، لا. فعادل إمام في عقده الثمانيني ما زال يبحث المنتجون عنه، ويفتش آخرون من الجماهير عنه أعماله الجديدة رغم انقطاعه. لم يكن الفنان المصري الكبير الذي احتل القمة وحافظ على لقب “الزعيم” قد حاز كل ذلك من فراغ، حيث إن أعماله ومواقفه نجحت في أن تكون بوابة حديدية يعبر منها إلى جمهوره الواسع والعريض، بينما تتناول قضايا ملحة تشغل المجتمعات في الشرق الأوسط وبدرجات متفاوتة، بداية من الفساد والفقر وحالة الركود الاجتماعي والثقافي وصعود الإسلام السياسي وصلات كل ذلك بأوضاع الأنظمة بالمنطقة. 

ولم تكن أفلامه تخلو من نبرة سخرية تجعلك تفرط في الضحك رغم الأوجاع والإحباطات التي تشملها تلك القضايا والمواضيع. غير أنه في الأحوال كافة يضمد جراحك بروح تحمل التفاؤل ويرفض الكآبة والمستقبل المعتم ويراهن على مستقبل يعزل بإرادة نقية قوى التطرف والعتمة والكراهية. السخرية في الفن هي مقاومة، مقاومة ضد محاولات فرض سلطة “الأمر الواقع”. والسخرية هي زعزعة استقرار اليقين المطلق الذي تسعى لتمريره المرجعيات الأصولية، التي تفرض قيماً وأحكاماً تخنق الواقع وتعطل التقدم وترهن الأفراد لحساباتها، وهي حسابات لا تتجاوز كونها ألغام ضد خصومها حتى الوصول لـ”التمكين” والحكم. 

وهنا لم تكن أعمال عادل إمام الفنية سوى سيرة ممتدة وممتعة وفيها مقاومة، عبر من خلالها عن الأحوال المتباينة للواقع الذي عاين تفاصيله وأحداثه وشهد على محطاته وانتقالاته وتطوراته، لكن من زاوية تحرص على صنع البهجة والسعادة واليقين في غد يتسع للجميع من دون عنف أو طائفية وصراعات دموية. وذلك من خلال الانتصار لقيمة الفن. 

ولهذا عرج في أعماله وتحديداً في ثلاثة أفلام على قضية الإرهاب الديني الذي صعد في سبعينات القرن الماضي، وتفجر في عقدي الثمانينات والتسعينات، مع حوادث اغتيالات طالت المفكر المصري فرج فودة فضلاً عن محاولة قتل الأديب العالمي نجيب محفوظ والذي طعن في رقبته. 

ففي فيلم “الإرهاب والكباب” و”الإرهابي” و”طيور الظلام”، انشغل الزعيم بتقديم هذه القضية الحساسة بقدراته وموهبته الكوميدية، فتمكن من تفكيك شخصية الإرهابي الذي يتعرض لـ”غسيل دماغ” من التيارات الإسلاموية، بطريقة سهلة ومرنة، وعرضها في قالب مضحك ساخر وكاريكاتوري ليكشف عن فراغ محتواهم ووهن شخصياتهم والحشو الفاسد في رؤوسهم.  

عام 1994، قدم فيلم “الإرهابي” الذي يتماس مع واقعة اغتيال فرج فودة، وكانت الشخصية التي قدمها هي “علي عبد الظاهر” والذي تضعه الأقدار بعد تنفيذ عملية اغتيال لضابط شرطة أن يعيش بين أسرة مصرية بعد اصطدم بسيارة أحد أفرادها. داخل الأسرة المصرية العادية البسيطة والمثقفة التي تتقبل الحياة بتنوعها ومزيجها الفريد خارج “الجماعة” المتطرفة ونموذجها الأسري الذي يبعث على الكراهية والانقسام، تتبدل أفكاره بعد أن يشعر بالحب والمودة، ويجد المسلم إلى جوار المسيحي يشاهد مباراة كرة قدم وكل منهما يصطف إلى جانب الفريق “الوطني”. 

كما فضح الفيلم انتهازية الجماعات المتطرفة والتي تقوم بتعبئة أفرادها بشكل مغلوط فتغذي النظرة التي تؤدي لتحقير المرأة، فتحرضه على التحرش بجسد من يعتبرنهم في فئة “النار” و”من أهل الضلال”، وهو الأمر ذاته الذي حدث عندما تم تحريض “الإرهابي” على سرقة أموال تلك الأسرة التي وفرت له الملاذ الآمن ليس فقط من الحادث بالسيارة إنما الرمزية هنا كانت تشير لحادثة أكبر تتصل بمصيره الملغم في داخل هذه الجماعة المتشددة والمسلحة.

أفلام ناقشت قضايا عدة

كما نجح في رصد ظواهر عديدة، بعضها اجتماعي وسياسي، والبعض الآخر إنساني، مثل “المتسول” و”الغول” و”الزهايمر” و”الأفوكاتو” و”الحريف”، وتنوعت أفلامه بين عدة قضايا ارتبطت بالتحولات السياسية والتاريخية التي شهدتها مصر، لا سيما الانفتاح الاقتصادي والخروج من مرحلة الستينات بأفكارها وسياستها الاشتراكية، وقد ناقش في أفلام مهمة وتهميش المواطن في فيلمين مميزين هما: “المنسي” و”الحريف”.

كانت أعمال عادل إمام هي سيرة فنية تتوالى لرصد وتسجيل وتوثيق الظواهر المختلفة الاجتماعية والسياسية وغيرهما، مع لمسة من موهبته التي تطمس الكآبة إلى فرح، والعجز أو طاقة ممكنة وقدرة على الفعل.

وفى فيلم “السفارة فى العمارة”، نجح في التعبير عن أزمة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وارتداداتها على مصر، حيث كانت السفارة قائمة في شقة تجاور منزله، وهنا حاول الكشف عن أزمة الجوار بين البلدين في ظل استمرار الصراع وتباين وجهات النظر في مصر بين من هم في دائرة الرفض وعدم القبول، وبين من هم تجاوزوا مرحلة الصراع إلى التطبيع والتعاطي معهم، لا سيما في قضايا الاقتصاد والتجارة. وفي أفلامه الأخيرة “مرجان أحمد مرجان” و”بوبوس” ناقش بطريقته الساخرة والكوميدية ذاتها توغل رجال الأعمال في المجتمع والاقتصاد وانتشار الفساد وأزمات القروض.

إذاً كانت أعمال “الزعيم” هي سيرة فنية تتوالى لرصد وتسجيل وتوثيق الظواهر المختلفة الاجتماعية والسياسية وغيرهما، مع لمسة من موهبته التي تطمس الكآبة إلى فرح، والعجز أو طاقة ممكنة وقدرة على الفعل. فالسخرية والكوميديا لهما طابع السحر في فك شيفرة الوهن والإحباط ومحاولات تدمير الهوية والوطن أو تبديد الشخصية ووضعها في حيز وظيفي يقوم على الطاعة والإذعان. هذا ما صنعه عادل إمام في فيلم: “النوم في العسل”، حيث كان العجز الجنسي المتفشي في أوساط الرجال والذي قدمه بطريقة كوميدية مثيرة للضحك رمزية جادة لفضح حالة الخوف واليأس وكذا الركود والضعف فضلاً عن غياب أو تغييب المواطن على نحو دقيق في المجال العام من ناحية القدرة على التأثير والفعل، بمعناه السياسي، وتحقيق متغير يصنع المستقبل. 

قال عادل إمام: أريد الذهاب إلى أسيوط لعرض مسرحية (الواد سيد الشغال)، وأريد أن يقتنع الناس بأن الفن ليس حراماً- “إنترنت”

ولهذا، فالشهادات المختلفة حول عادل إمام تتخطى مجايليه. بداية من أستاذه الذي قدمه عميد الكوميديا فؤاد المهندس والذي قال في حوار سابق بالتلفزيون المصري: “عادل إمام بعتبره ابني البكري”. والفنان أحمد زكي سبق له وصرح: “في يوم من الأيام قلت آل باتشينو له نسبة في أجري، وعادل إمام كذلك بمعنى لو أنني الفنان الوحيد على الساحة سأفقد عقلي، ولكن عندما يكون هناك زميل لي يقدم فيلماً جيداً هذا يستفز الفنان بداخلي وينشط طاقتي، فأنا مدين لأي زميل لي يقدم عملاً جيداً”. 

لا يصلح إلا أن يكون ممثلاً

وكان صلاح السعدني تربطه بعادل إمام صداقة قديمة قبل انخراطهما في الفن، وتحديداً دراستهما سوياً في كلية الزراعة وخطواتهما الأولى سوياً نحو عتبة السينما، فقال السعدني: “عادل إمام لا يصلح إلا أن يكون ممثلاً، فأول انطباع لدي تجاهه أنه لن يكون سوى ممثلًا منذ الطفولة، ولدي شريط مسجل سجلناه قبل الشهرة، عادل إمام يقرأ فيه أحلامه ويتنبأ فيه بأنه سيكون أشهر ممثل فى مصر والعلاقة بينه وبين الناس ستكون مفتوحة بلا حدود كأنه يقرأ فى كتاب مفتوح”.

وكتبت الفنانة التونسية لطيفة على حسابها الرسمي في “انستغرام” بمناسبة عيد ميلاد الفنان عادل إمام مع صورة تجمعهما سوياً: “أقولك إيه ولا إيه ولا إيه، كل ثانية وأنت طيب على قد ما أسعدتنا وضحكتنا، وعلمتنا وفرحتنا ووعتنا ووعيت أجيال أنت رمز أنت مدرسة أنت زعيم الفن، بحبك من أول يوم في حياتي لآخر يوم في حياتي”.

وتابعت: “بحبك وبحترمك أنت من أكتر الناس اللي وقفوا معايا من أول ما جيت مصر ونصحوني ووعوني وأنا سمعت كلامك، ربنا يحميك ويحافظ عليك، ويطول في عمرك ويخليك لينا يارب، بحبك”.

أخيراً، لا يمكن أن يتم تجاهل أن عادل إمام لم يكتف بدور تقليدي للفنان، بل نزل إلى الشارع بسلاحه، أي الفن، عندما كانت المواجهة عنيفة ومحتدمة ومباشرة مع الجماعات الإسلامية بمصر، إذ كان موقفه الجريء والشجاع في نهاية ثمانينات القرن الماضي واضحاً عندما ذهب إلى أسيوط والتي كانت معقلاً للجماعات المسلحة وشهدت حوادث عنف بالغة الخطورة منها حرق محلات الفيديو وملاحقة المواطنين بالشوارع وحرق ممتلكات المسيحيين ومطارد المسرحيات، وكان الإرهاب متفشياً وينشر الرعب بين المدنيين، وهنا قرر “الزعيم” أن يسافر رغم ما في ذلك من مخاطر جمة وذلك لدعم إحدى الفرق المسرحية بجامعة أسيوط في مواجهة المتطرفين. وعرض مسرحيته: “الواد سيد الشغال” على مدار ثلاث ليال.

ويقول عادل إمام عن تلك الفترة: “قررت أن أذهب للوقوف إلى جوار هؤلاء الفنانين وللدفاع أيضاً عن نفسي وأسرتي ووطني.. ذهبت لأدافع عن الفن الذي أحبه، لأدافع عن صورتي أمام أولادي لكي يعرفوا جيداً أن مهنتي ليست حراماً وأن الطعام الذي يأكلونه والتعليم الذي يتعلمونه وحياتهم كلها ليست حراماً في حرام.. ولكن يدركون أنني أكسب أموالي من عرق جبيني ومن خلال أشرف مهنة وهي الفن.. قررت الذهاب لإحساسي بوطني، لأنني عندما تأملت ما يمكن أن يحدث فى المستقبل إذا استمر هذا الإرهاب الأسود انتابني الفزع”.

وتابع: “شعرت عندئذ بأن كل كياني في حياة استنفار وتأهب، وقلت في حديث صحفي مع السيدة عائشة صالح في مجلة (المصور) إنني أريد الذهاب إلى أسيوط لعرض مسرحية (الواد سيد الشغال)، وأريد أن يقتنع الناس بأن الفن ليس حراماً، وأن مصر بلد يعرف الفن والفنانين منذ أيام المصريين القدماء.. والتقط الخيط الأستاذ مكرم محمد أحمد وسألني: هل تريد يا عادل أن تذهب إلى أسيوط حقاً، ومَنْ الذي تقترح أن يذهب معك؟”. وحول خطورة الموقف يقول: “وكان المحافظ وقتها، هو عبدالحليم موسى، وكذلك اتصل بي وزير الداخلية آنذاك وسألني: يا عادل أنت عندك استعداد فعلاً تروح أسيوط؟.. قلت: طبعاً، وكانت العناصر المتطرفة تحتل شوارع وأحياء وفكر المحافظة.

وأبلغت فرقتي بأنني سأتوجه إلى أسيوط، وأعطيت لكل واحد منهم الحرية الكاملة للإعتذار، لكن جميع أفراد الفرقة أعلنوا أنهم سيسافرون معي وأخذت فرقتي وسافرنا”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات