عندما شاهدت، للمرة الأولى، قبل سنوات قليلة، وفي ذروة موجة “الربيع العربي” العاتية الفيلم الإيراني “رجم ثريا”، كانت القاعة في أحد المراكز الثقافية المهمة بحي جاردن سيتي، وسط القاهرة، ممتلئة عن آخرها، لدرجة اضطرت المسؤولة عن الفعالية وضع شاشة ثالثة إضافية أمام درج السلم لأن المساحة بالقاعتَين في الداخل تفيض بالشر كما بالمشاعر والأنين المكتوم من فتيات شعرن بغصة ومرارة الظلم والعدوان على حقوقهن، وذبح أجسادهن الضعيفة. وذلك في استعادة تاريخية لمشهدية وأد المرأة لمجرد كونها هذا “الشيء” الاستعمالي، في العقل الأصولي والبدائي، الذي يأتي في درجة أدنى من الرجل “السيد”.

ولا تعدو الأنثى في خيال الأخير سوى كونها مجالاً “فرجوياً” للمتعة، أو ملء سلطته المتعالية والذكورية وتحقيق سيادته النفعية. وفي حال تمرّدها على ما يعتبره الرجل استحقاقاً تاريخياً له تصبح النتيجة السهلة هي تمزيق جسدها المنحرف.

لم تكن “ثريا” سوى فتاة في مجتمع يشهد انقلاباً على ذاته، بينما يسطو عليه رجال الدّين المتشددينَ، ويتحالف معهم مجموعة من المنتفعينَ، وما الدين بالنسبة لهم إلا ورقة هشّة لفرض سيطرتهم وأفكارهم وتعزيز سلطتهم والبحث عن الامتيازات. فهذه الفتاة الإيرانية عكست بمصيرها المأساوي والذي سيتكرر لاحقاً مع أُخريات مساراً انعكاسياً وارتدادياً في إيران بعد صعود حكم الخميني، والرّدة التي شهدتها المرأة على مستوى حقوقها.

وبينما احتمى الرجل بمكانته المتفوقة المتسيدة وسط مجتمع ذكوري بطريركي تهيمن عليه “العمائم السوداء”، رغم انحرافاته الشخصية واعتداءه على حقوق زوجته وإهدار كرامتها وإنسانيتها، فإن الأخيرة لم تتمكن من إثبات أي حقوق لها في ظل العماء السلطوي للنخبة الدينية الراديكالية الحاكمة، ونفوذها القمعي. بل نجحوا في تشويه سمعتها، وتلطيخ شرفها، والحكم عليها زوراً وبهتاناً من فم “رجل دين” يفوح بالكراهية. فالنتيجة هي “رجم ثريا” واستمرار القتل العلني للنساء وآخرهن الفتاة الكُردية الإيرانية مهسا (جينا) أميني، لا لشيء سوى كونها امرأة تحاول أن تتمرّد على قهر مؤسسة الحكم التي تجعل الإذعان للرجل طاعة مطلقة لها قداستها التي لا تُمسّ.

الدفاع عن الذات والحق يقابله القتل!

خارج الكادر السينمائي، كان إعدام الفتاة الإيرانية ريحانة جباري المتهمة بقتل رجل في استخبارات “الحرس الثوري” الإيراني، دفاعاً عن نفسها من الاعتداء الجنسي عليها بشكل متوحش، صورة لها معنى درامي آخر مؤثر. لكن من غير أضواء أو مؤثرات صوتية أو حركة كاميرا تحاول أن تصف التفاصيل والملابسات والأبعاد النفسية والزمنية والمكانية والاجتماعية الكثيفة والمتداخلة.

ريحانة جباري، التي لم تتخطَّ عمر الـ26 ربيعاً تفضح عدوان الملالي على المرأة-” الصورة من الإنترنت”

ريحانة جباري، التي لم تتخطَّ عمر الـ26 ربيعاً تفضح عدوان الملالي على المرأة، وهو عدوان متكرر رغم زعمهم العفّة المزيفة والتي تفضح انتهازيتهم الملفّقة. فالسجون الإيرانية تحفل بجرائم موثّقة لضباطٍ وعناصر أمنية لها صفة الاعتداء الجنسي وفق تقارير حقوقية أممية. والتعذيب الجنسي إحدى أدوات نظام “الولي الفقيه” ضد المرأة.

وتبعاً لذلك، تم إعدام الفتاة العشرينية لأنها دافعت عن ذاتها وحقّها في مساحة شخصية أمنية لا يتجاوزها أي فرد أيّاً ما كان نفوذه أو سلطته. ريحانة جباري، أزالت الادعاءات الدينية التي يؤطر بها النظام في طهران وجوده وكشفت عن الحقائق التي تجري تحت هذه الطبقة. رفضت أن تكون النموذج الأنثوي القائم في العقل الأصولي الذي يمكن أن يكون متاع شخصي ومؤقت ولجأت بصمود وجسارة الخيار الصعب بأن تكون حالة جديدة ضمن سجل جرائم “آيات الله” الممتد منذ أربعة عقود.

كتبت ريحانة جباري رسالة من سجنها لوالدتها، قالت فيها: “عزيزتي شعلة، لا تبكي على ما تسمعيه مني الآن، في أول يوم لي في مركز الشرطة عنفني ضابط كبير السّن أعزب بسبب أظافري، عرفت يومها أن الجمال ليس من سمات هذا العصر. جمال المظهر، الأفكار والرغبات، جمال الخط، جمال العين والرؤية ولا حتى جمال الصوت الجميل. أمي العزيزة، تغيرت فلسفتي وأنتِ ليست مسؤولة عن هذا. رسالتي لا تنتهي وسلمتها لشخص تعهّد بأن يرسلها إليك بعد أن يتم إعدامي دون حضورك أو علمك، لقد تركت لك الأثر المكتوب ميراثا. لكن وقبل أن أموت أريد أن أطلب منك أن تلبي جزءا من وصيتي. لا تبكي واسمعيني جيداً، أريد منك بأن تذهبي للمحكمة، وتعلني رغبتي، لا يمكنني كتابة هذه الرغبة من داخل السجن، لذا سيتوجب عليك أن تعاني من أجلي مرة أخرى. هو الأمر الوحيد الذي لن أغضب إذا اضطررت أن تتوسلي من أجله، علما وأنني رفضت أن تتوسلي لإنقاذي من الإعدام”.

وتابعت: “أمي الطيبة العزيزة شعلة الأعز عليّ من روحي، لا أريد أن أتعفن تحت الثرى، لا أريد لعيني أو لقلبي الشاب أن يتحول إلى تراب. توسلي إليهم ليعطوا قلبي، وكليتي، وعيني، وكبدي، وعظامي، وكل ما يمكن زرعه في جسد آخر إلى شخص يحتاج إليهم، بمجرد إعدامي. لا أريده أن يعرف اسمي، أو يشتري لي زهوراً ولا حتى أن يدعو لي. أقول لك من صميم قلبي أني لا أريد أن أوضع في قبر تزورينه وتتألمين، أريدك أن ترتدي الأسود. ابذلي ما في وسعك لتنسي أيامي الصعبة، واتركيني لتبعثرني الريح. لم يحبّني العالم، ولم يتركني لقدري، أنا أستسلم الآن وأقابل الموت بصدر رحب. أمام محكمة الله سأوجه الاتهام للمفتشينَ وقضاة المحكمة العليا الذين ضربوني وأنا مستيقظة ولم يتورعوا عن التحرش بي، أمام الخالق سأوجه الاتهام إلى الطبيب “فروندى”، سأوجه الاتهام إلى “قاسم شعباني” وكُل من ظلمني أو انتهك حقوقي، سواء عن جهل أو كذب، ولم ينتبهوا إلى أن الحقيقة ليست دائماً كما تبدو”.

‏كان مشهدا مؤثراً وظل حتى اللحظة مثل جدارية مثبتة لا تهتز أو تتغير مع الزمن، وهي ردود ريحانة جباري القوية واللافتة أمام القاضي الذي بدا جلّاداً لا يرحم وليس في ضميره أي درجة نزاهة أو شفافية لكنه أمام موقفها الصلب والعنيد لا يملك سوى سلاح البطش بينما هي تحوز الحق والعدالة الغائبة والمغيّبة عمداً. فعندما سألها القاضي لماذا قتلتيه، أي هذا المسؤول الاستخبار الذي تهجّم عليها لاغتصابها؟

فأجابت: دفاعاً عن شرفي

فرد عليها القاضي قائلاً: ذلك ليس مُبرر!

فعقِبت على كلامه بعبارة موجزة تختصر كل شيء: لأنك بلا شرف.

هل التراث الديني الإسلامي يربط المرأة بالغواية؟

ربما، مشهد ريحانة جباري يقاوم كل إغراءات وإمكانيات السينما وتأثيراتها الفنية. فالطرح الذي قدّمته أكثر عمقاً في عفويته وبساطته ووضوحه ويحمل جماليات لا نهائية مع وجود الألم نتيجة هذا الجدل الناشيء بالمجتمع بسبب الصراع على الحقوق، ومحاولة قوى جديدة تهميش فئة واضطهاد وجودها، ومنحها حيّز لا تخرج عنه.

صحيحٌ أن كتب التراث تحفل بها أحاديث عن المرأة والحب ونظرياته، لكن، في الواقع، المسار العام والتاريخي يؤكد على أن المرأة لم تشهد هذا الانحدار التاريخي رغم وفرة ما كُتب عنها وحولها وبتوقير إلا لاعتبارات الفقه السياسي.

فالمرأة ظلت في أعين بعض رجال الدين الغليظة والمتشددة مجرد وسيلة للمتعة والاشتهاء. وهي عين تتلصص على المرأة من خلف الأبواب كما في فيلم “الإرهابي” لعادل إمام. من ثم، تفضح السينما، وهي تقترب من الخفي وغير المعلن في الوعي المضمر لسلوك المتشدد وعقله المشوّه، الصورة النمطية للمرأة التي لا تخرج من دائرة الفتنة والغواية وتحريك الشهوات. هذه الصورة قد جرى تعميمها وترقيتها بحيث تصل للجماعات الإسلاموية وأنظمة الحكم الديني الفاشي في طهران وكابول.

قصة الخلق والحكي الميثولوجي في التراث الديني الإسلامي الذي يربط المرأة بالغواية، ويماثل بين الأنثى والثعبان أو الأفعى، ليس حقيقياً في النص المؤسّس، أي الخطاب القرآني، وإنما يرجع هذا التصور لحضارات أخرى.

لكن المثير للدهشة هو استمرار التيارات الراديكالية والمتشددة في الاعتماد على تلك السردية التي هي من خارج المنطوق الديني، لمجرد أنها تخدم مصالح سياسية، وتعزز النفوذ والمكانة وتراكم الامتيازات. وقد نجح هذا التكوين المزدوج والأسطوري للمرأة الشيطان على هيئة أفعى من تكوين ذهنية تعادي وجودها وتتوجّس من صورتها، وتطالب بنبذها، والتّستر من “شرها” المزعوم.

كل ذلك يضمن أن لا تنافس المرأة في المجال العام، ويظل النفوذ في دائرة الرجل الذي يضمن الطاعة وعدم التمرّد. فانضباط أو قمع الأجساد ووصم بعضها بالقبح هو رفض الحرية من أساسها واستكمال لفكرة الجبرية والإكراه الديني والسياسي المتحقق لدى “طالبان” و”الولي الفقيه”.

عقول بدائية تتوجس من المرأة

صحيحٌ أن كتب التراث تحفل بها أحاديث عن المرأة والحب ونظرياته، بل فيها تباينٌ بين التشديد على الالتزام الأخلاقي والديني المطلوبَين، من جهة، وتحريم الاقتراب من الحب أو التورّط فيه، من جهة أخرى، لكن، في الواقع، المسار العام والتاريخي يؤكد على أن المرأة لم تشهد هذا الانحدار التاريخي رغم وفرة ما كُتب عنها وحولها وبتوقير إلا لاعتبارات الفقه السياسي الذي يقوم على تأبيد السلطة لدى فئة بعينها ثم فتح دائرة التحريم والتكفير في الآخرين.

وثمّة معانٍ مثيرة عذبة حول المرأة والحب في أقوال الفلاسفة والفقهاء ليس فيها أي مستوى للحط من شأنها، فيقول ابن حزم الأندلسي في كتابه الشهير طوق الحمامة: “الحب أعزك الله أوله هزل وآخره جد. دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وقد اختلف الناس في ماهيته وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع. وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والانفصال”.

فيما يظل الحب في مجال نظر ورؤية الفقهاء والأصوليينَ وكذا الموروث الثقافي الرجعي والمتخلف بوجه عام مرتبطاً بالهواجس المريرة وضرورة كبح جماحه وتقييده بالأعراف الاجتماعية والدينية ووضعه ضمن إطار رقابي وانضباطي وربما تحت وطأة الخطابات الإكراهية.

إذاً، نحن بصدد عقول أصولية متهالكة ورؤية تراثية متهافتة، قديمة وبدائية، تحاصر بخطاباتها التاريخية وأدواتها المعرفية المهيمنة صورة الأنثى بينما تجذبها في مجال ذكوري. ومع الزعامة الذكورية للرجل وسلطته السياسية والمجتمعية التي لا تهتز، يتعين أن تبقى لغة الخطاب تجاه المرأة قمعية ومتشددة ويأخذ صفة العنف المقدّس كما يؤديه فقهاء السلطة والنّخبة الدينية في بلاط الحاكم.

ومع الزعامة الذكورية للرجل وسلطته السياسية والمجتمعية التي لا تهتز، يتعين أن تبقى لغة الخطاب تجاه المرأة قمعية ومتشددة- “الصورة من الإنترنت”

ولذلك؛ فالمرأة تظل محجوبة خلف باب الغواية والفِتن. حتى أن النماذج الأخرى من النساء في التاريخ اللواتي لعبن أدواراً مؤثرة في الفقه والسياسة تم تهميش غالبيتهم عن عمد في تراثنا الاجتماعي والتعليمي والثقافي.

تبقى نقطة أخيرة وثّقها المؤرخ العراقي جواد علي في كتابه الشهير: “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” وهي أن المرأة كانت توصف بـ”الكيد”، ونظروا إليها نظرتهم للشيطان، لكن “هذه النظرة تخفي معطيات أسطورية، فهي قوية وضعيفة في آن قوية بسحرها الأنثوي/ الجنسي، ضعيفة بعين التقليد الذكوري الذي يهابها فيجعلها بمرتبة الشيطان، ما يعني التلازم بين المقدس والأنثوي”. وذلك بخلاف الشائع وما يتم الترويج له سلباً عن المرأة لجهة إهدار حقوقها ونبذ مكانتها.

هذه النظرة “لم تكن خاصة بالجاهليينَ، بل هي نظرة عامة نجدها عند غيرهم أيضاً. بل هي وجهة نظر الرجل بالنسبة للمرأة في كل العالم في ذلك الوقت. وهي نظرة نجدها عند الحضر بدرجة خاصة، لما لمحيط الحضر من خصائص التجمّع والتكتل، والتصاق البيوت بعضها ببعض، ولما لها من حياة اجتماعية واقتصادية وسياسية، قد تجبر المرأة على الاتصال بالغرباء، فنشأ من ثم هذا الرأي من أهل الحضر أكثر من الأعراب”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات