زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بكين يومي 16-17 أيار/ مايو الحالي، قد تبلور إطار تحالف استراتيجي، في ظل حالة الاستقطاب الذي تشهده الساحة الدولية، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، وما تبعه من أحداث وتفاعلات دولية ترسم ملامح تحالفات مستقبلية جديدة لا تزال غير متصلبة لغاية اليوم. فما هي دلالة هذه الزيارة، والنتائج التي قد تتمخض عنها؟   

باختياره الصين كأول وجهة خارجية له بعد أدائه اليمين لمدة رئاسية جديدة، يرسل بوتين رسالة للعالم تؤكد أولوياته وعمق علاقته الشخصية مع الرئيس الصيني شي جين بينغ. مشيدا بدور الأخير في بناء “شراكة استراتيجية” مع روسيا قائمة على رعاية المصالح الوطنية والثقة المتبادلة العميقة. كما “أن المستوى العالي غير المسبوق للشراكة الاستراتيجية بين بلدينا هو الذي أوقع اختياري على الصين كأول دولة أزورها بعد تولي منصبي رسميا كرئيس لروسيا الاتحادية”. مضيفا: “سنسعى لوضع الأساس لتعاون أوثق في مجال الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة والفضاء والطاقة النووية السلمية والذكاء الاصطناعي ومصادر الطاقة المتجددة وغيرها من القطاعات المتطورة”. 

الصين، شريان حياة أساسي لاقتصاد روسيا في ظل العقوبات الاقتصادية التي تعاني منها موسكو. وعليه، أصبحت “الوجهة الرئيسية لتجارة الطاقة الروسية ومزود الكرملين الرئيسي من المعدات والتقنيات الحيوية التي لم تعد روسيا قادرة على الحصول عليها من الدول الغربية”، حسب مؤسس “برنامج الصين وروسيا” في معهد سياسات المجتمع الآسيوي، فيليب إيفانوف. مسلطا الضوء على طريقة الدولتين في تقويض النظام العالمي، عبر “تحصين اقتصاديهما من المستقبل في حالة الانفصال عن الغرب عند نشوب نظام جيوسياسي جديد متعدد الأقطاب”. وبرأيه، “لن تحجم الصين عن دعم اقتصاد روسيا، لكنها ستسلك قنوات سرية، لتوفير هذا الدعم عبر بوابة دول ثالثة، وهو ما يحدث بالفعل من خلال دول آسيا الوسطى”.

اللعب في المساحة الرمادية 

خلال اليوم الأول من زيارته إلى الصين، والتي استمرت ليومين، أشاد بوتين بالتعاون الاقتصادي المعزز بين موسكو وبكين، والذي يمثل “أولوية” لديه. مضيفا، أن “حصّة الروبل واليوان في المعاملات التجارية بين روسيا والصين تتجاوز 90 بالمئة”، وهو ما يشير إلى أن “التجارة والاستثمارات المتبادلة محمية بشكل موثوق من تأثير دولة ثالثة”. ويمثل إلغاء الدولار قضية رئيسية لدى “الكرملين”، للتخفيف من آثار العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي. 

وفي هذا السياق، يشير مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إلى أن هدف العقوبات الأميركية على المؤسسات المالية الداعمة لمجهود روسيا الحربي ضد أوكرانيا، “تضييق الخناق على آلة الحرب الروسية وعلى الذين يسمحون لها بالعمل”. موجها رسالة لا لبس فيها، أنه “من يدعم المجهود الحربي غير القانوني لروسيا يجازف بفقدان إمكانية الوصول إلى النظام المالي الأميركي”. وخلال زيارته الأخيرة إلى الصين، قال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن: “إذا لم تحل الصين مشكلة دعم روسيا، فإن الولايات المتحدة ستفعل ذلك بدلا من بكين”.

في ظل الاصطفاف الدولي، تسعى روسيا لكسر العزلة الغربية المفروضة عليها، وإثبات أن النظام الدولي لم تعد تحكمه “شروط وقواعد” الولايات المتحدة، فهناك الصين، وفق رزان شوامرة، وهي باحثة دكتوراه في العلاقات الدولية، تخصص دراسات صينية. “وقد تقاربت الدولتان، منذ تسعينيات القرن الماضي، لمواجهة الهيمنة الأميركية. وقد أشار إلى ذلك الرئيس الصيني بالقول: أهم المبادئ التي تحكم العلاقة الروسية الصينية، الالتزام بالعدالة والإنصاف في العلاقات الدولية ورفض الهيمنة والأحادية”. معتقدة خلال حديثها مع “الحل نت”، أن واشنطن تنظر إلى بكين، وليس إلى موسكو، باعتبارها الخطر الأكبر والتهديد الذي “يجب مواجهته”، ورؤية روسيا في الدائرة الصينية، تعزز من مخاوف واشنطن حيال التهديد الصيني.

روسيا “لم تكن لتمتلك ما يكفي من الشاحنات أو الرقائق أو الطائرات بدون طيار أو السلع الوسيطة لولا الصين التي باتت الدولة الوحيدة التي تصدر هذه البضائع إلى موسكو في الوقت الحالي”، وفقا لكبيرة اقتصاديي منطقة آسيا والمحيط الهادئ لدى بنك “ناتيكسيس”، أليسيا جارسيا هيريرو. مشيرة إلى أن “مدفوعات التجارة بين الصين وروسيا تتم بالعملة الصينية الرنمينبي من خلال نظام الدفع الدولي الصيني، ما يصعب عملية تتبعها”. وبحسب ماريا شاجينا من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، “هناك أدلة على أن الصين هي أكبر مصدر لأشباه الموصلات، غالبا من خلال شركات وهمية في هونج كونج والإمارات العربية المتحدة إلى روسيا”. وتضيف شاجينا، “تزوّد بعض الشركات الصينية أيضا، الطائرات المدنية بدون طيار، مستغلة المساحة الرمادية بين الأغراض العسكرية والمدنية”.

أحمد شيّاخ، وهو باحث مقيم في الجامعة الروسية لصداقة الشعوب، وصف زيارة بوتين للصين في أول زيارة خارجية له بعد انتخابه، بأنها “رد جميل” للرئيس شي. وبرأيه، تشير الحفاوة البروتوكولية الكبيرة التي استقبل بها بوتين، إلى طمأنة الصين لقيادة “الكرملين”، مع تأكيدها على الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، والتي زادت أهميتها في الظروف الجيوسياسية الحالية لروسيا، في ظل صراعها مع الغرب الأطلسي في أوكرانيا. وهو صراع مصيري لروسيا كدولة. وللصين أيضا، في ظل الضغط الأميركي عليها، ومحاولة محاصرتها، عبر أحلاف أميركية مع دول محيطة بالصين. وهو ما تضعه قيادة البلدين في حسبانها.

كذلك، “لا يمكن إغفال الحسابات الاقتصادية بين البلدين”، قال شيّاخ في حديث مع “الحل نت”. فالصين تعتبر حاليا الشريك الاقتصادي الأول لروسيا. وقد حرص الرئيسان خلال الزيارة على تأكيد مواصلة العمل من أجل زيادة هذا التعاون وشموله لمجالات اقتصادية واجتماعية أكثر.

“الروس والصينيون إخوة إلى الأبد”

وفقا لبوتين، تتقاسم موسكو تكنولوجيا عسكرية حساسة للغاية مع بكين، عززت بشكل كبير قدرتها الدفاعية بما في ذلك نظام إنذار مبكر لاكتشاف إطلاق الصواريخ الباليستية. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، اقترح بوتين توسيع التعاون بين الدولتين في مجال الأقمار الصناعية العسكرية وغيرها من التقنيات المستخدمة في الدفاع. ومن جانبها، تقول واشنطن، إن الصين وسعت بشكل كبير إمدادات الأدوات الآلية والإلكترونيات الدقيقة وغيرها من التقنيات إلى روسيا، التي تستخدمها في صنع الصواريخ والدبابات والطائرات وغيرها من الأسلحة. وبحسب تقييمات واشنطن، حصلت روسيا من الصين على حوالي 90 بالمئة من جميع الإلكترونيات الدقيقة وحوالي 70 بالمئة من الأدوات الآلية في عام 2023. وإلى ذلك أشار بلينكن خلال زيارته لبكين قائلا، إن “روسيا ستكافح للحفاظ على هجومها على أوكرانيا دون دعم الصين”. 

الفرص التجارية محرك رئيس لتعزيز الصين تجارتها مع روسيا، حسب موقع Geopolitical Monitor. حيث يجادل الصينيون بأن “الروس يعانون من نقص في البضائع، لذلك سنزودهم ونحاول عدم خرق العقوبات أثناء وجودنا في ذلك”. ويشير الموقع، إلى أن بكين لم تقدم لروسيا مساعدة اقتصادية حيوية فحسب، بل يحتمل أن تكون قد قدمت لها تكنولوجيا عسكرية وذات استخدام مزدوج، بما في ذلك معدات الملاحة وتكنولوجيا التشويش وقطع غيار الطائرات المقاتلة. وإلى أن “الزيادة في واردات السلع المصنعة في الصين ذات الاستخدامات العسكرية المهمة لعبت دورا رئيسيا” في إبقاء روسيا مجهزة ومزودة لمقاومة الهجوم المضاد الأخير لأوكرانيا.

جين بينغ (يسار) وبوتين خلال استعراضهما حرس الشرف العسكري في بكين – (فرانس برس)

“تحويل الدبلوماسية”، نهج سارت عليه الدبلوماسية الصينية تجاه الأزمة الأوكرانية، حسب شوامرة. وخلاله، لم تضع بكين على عاتقها مسؤولية حل الصراع. مع اتهامها الواضح لواشنطن بالتسبب في الحرب، وبأنها المسؤولة عن حله، إذ قال الرئيس الصيني للرئيس الأميركي جو بايدن في مكالمة هاتفية بداية الحرب: “من ربط الجرس في رقبة النمر عليه أن يخلعه”. وإلى جوار إشارتها لاحترام سلامة وسيادة الدول، أشارت الصين أيضا لضرورة احترام المخاوف الأمنية لجميع الأطراف، في إشارة لمخاوف روسيا.

تزامنا مع الاحتفال بالذكرى 75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي السابق وجمهورية الصين الشعبية، التي تأسست عام 1949، جاءت زيارة بوتين الأخيرة إلى الصين. وخلالها ردد أغنية شهيرة تتم منذ 75 عاما حتى اليوم، وتتضمن عبارة أصبحت شعارا: “الروس والصينيون إخوة إلى الأبد“. وكان الجانبان قد وقعا “شراكة بلا حدود”، خلال زيارة أجراها الرئيس الروسي إلى الصين في شباط/ فبراير 2022، قبل أيام من غزو روسيا لأوكرانيا.

“جار جيد وشريك موثوق”

في بيان مشترك، نُشر على موقع رئاسة الاتحاد الروسي، أكدت موسكو وبكين تعميق علاقات الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي بينهما. وأعلنتا “رفضهما لإنشاء جمعيات مغلقة وهياكل تكتلات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لا سيما التحالفات والائتلافات العسكرية الموجهة ضد أي طرف ثالث”. وبحسب البيان: “يلاحظ الطرفان التأثير السلبي على السلام والاستقرار الإقليميين لاستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ للولايات المتحدة، المتزامنة مع خط مدمر لحلف شمال الأطلسي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”. كما اتهمت الدولتان واشنطن بنشر أنظمة صواريخ في منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحجة التدريبات المشتركة مع الحلفاء. وهي “إجراءات تغيّر ميزان القوى في آسيا وتعرض أمن جميع دول المنطقة للخطر”.

مع بداية ما تطلق عليه موسكو “العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”، أبدى بعض الساسة الروس وكثير من المحللين السياسيين امتعاضهم من موقف بكين “المتزن والمراعي لبعض توازنات النظام الدولي”، وعدم انخراطها مباشرة في الصراع، حسب شيّاخ. وهنا تبدو بكين حريصة على مواصلة سياسة “الحكمة الصينية”، فمن جهة، تعبر عن ضرورة احترام سيادة الدول وعدم شرعية التدخل العسكري، مع معارضتها الشديدة لاستعمال السلاح النووي، والذي تعتبره خطا أحمر. لكنها من جهة أخرى، وفرت لموسكو منفذا اقتصاديا هائلا، في وقت أشد الأوقات الروسية حاجة لهذا المنفذ، وهو ما منح بكين قبولا كبيرا ومتزايدا لدى النخبة السياسية الروسية.

من جانبه، أكد جين بينغ، عزم بلاده على أن تكون “جارا جيدا وصديقا وشريكا موثوقا” لروسيا. واصفا علاقة الدولتين بأنها “معيار التعاون بين القوى الكبرى” وتتميز بالاحترام والثقة والصداقة والمنفعة المتبادلة. وبدورها، قالت الخارجية الصينية في بيان لها، إن تطور علاقات الدولتين أصبح بمثابة “عامل إيجابي للحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي العالمي “وإضفاء الطابع الديمقراطي” على العلاقات الدولية”. وبعد الإشارة لعضوية الدولتين الدائمة في “مجلس الأمن الدولي”، مع كونهما من دول الأسواق الناشئة الرائدة، أكدت الوزارة عمل “الدولتين على تعميق التعاون الاستراتيجي وتوسيع نطاق التعاون متبادل المنفعة، وقد اتخذتا خيارا استراتيجيا مشتركا، تماشيا مع النزعة التاريخية لتشكيل عالم متعدد الأقطاب والعولمة الاقتصادية”.

عليه، وقع الرئيسين بوتين وشي بيانا حول تعميق علاقات الشراكة الشاملة والتعاون الاستراتيجي. وبحسب مساعد الرئيس الروسي، يوري أوشاكوف، هو وثيقة مفصلة تتضمن أكثر من 30 صفحة، و”تشير إلى الطبيعة الخاصة لعلاقاتنا الثنائية وتحدد المزيد من الطرق لتطوير مجموعة العلاقات الثنائية بأكملها، وتؤكد الدور القيادي لروسيا والصين في تشكيل نظام عالمي عادل وديمقراطي”. ووفقا للباحث في السياسة الخارجية الصينية في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، هو تيانغ بون، “يريد الجانبان إظهار أنه على الرغم مما يحدث على مستوى العالم، ورغم الضغط الذي يواجهه الجانبان من الولايات المتحدة، فإن كلا الجانبين ليسا على وشك إدارة ظهورهما لبعضهما البعض في أي وقت قريب”. 

مع ذلك، تقول شوامرة: في ظل الحرب الأوكرانية، لا تريد الصين وضع صعودها وعلاقاتها الدولية في خطر. لذا أكدت بكين مرارا بأنها لن تنشئ تحالفات مع أحد، لا سيما مع روسيا، وإن المبدأ الرئيسي في سياستها الخارجية، هو الشراكات لا التحالفات. وبذلك، تسعى الصين لإبعاد نفسها عن الصراع. وعلى صعيد العلاقات الثنائية، تتزايد مخاوف الصين الأمنية بشأن “عدوانية” روسيا في محيطها الإقليمي، واستخدامها القوة العسكرية للسيطرة منذ عام 2008. 

وباعتبارها دولة صاعدة، تفضل الصين في محيطها الجغرافي، حسب شوامرة، “ديسما روسيا لا دبا”، لا سيما بتشاركهما لأطول حدود. كما أن اتفاقهما على رفض الهيمنة الأميركية، والسعي لإنشاء نظام دولي متعدد الأقطاب، لم يوحّد وجهتي نظرهما حيال النظام الدولي المراد. حيث بدا طموح الصين الدولي في خطاب لشي عام 2022 قال فيه، إنه يسعى لبناء صين قادرة على “قيادة العالم”.

علاقات معقدة، تربط روسيا بالصين. فالتنافس والخلاف بين الدولتين عميق ومتجذر تاريخيا. كما أن الذاكرة الصينية عن سلوك الغرب تجاهها خلال “قرن الإذلال”، لا تغفل مشاركة روسيا للغرب في هذا القرن. مع ذلك، فإن صلابة الموقف الغربي تجاه قضايا تعتبرها روسيا تهديدا وجوديا، وتعدّها الصين عائقا لوحدتها ولهيمنتها الإقليمية وعائقا أيضا لنموها الاقتصادي، والذي ربطته بكين بأمنها القومي، سيزيد من تقارب الدولتين ويردم هوة الخلافات بينهما إلى حين.    

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة