في مشهد يعكس حجم الأزمة الاقتصادية التي تعصف بسوريا، تحولت أسعار الأضاحي هذا العام إلى مؤشّرٍ صادم على عمق المعاناة؛ فبينما يستعد المسلمون حول العالم لاحتفال روحاني بعيد الأضحى، تواجه الأُسر السورية واقعاً مريراً يجعل من الأضحية حلماً بعيد المنال.

في سوق اللحوم السورية، تتصاعد الأسعار بوتيرة متسارعة، محوِّلة الأغنام والأبقار من مجرد سلع إلى مقياس للتفاوت الطبقي. فقد تضاعفت أسعار الأضاحي هذا العام، في ظاهرة تعكس ليس فقط ارتفاع التكاليف، بل أيضاً حجم الضغوط التضخمية وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين.

هذا الارتفاع الحاد في الأسعار يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الشعائر الدينية في بلد يمزّقه الصراع والحصار. فهل ستصبح الأضحية، التي طالما كانت رمزاً للتضحية والمساواة، مؤشراً على الرفاهية والتمايز الاجتماعي؟ وهل سيجد المواطن السوري نفسه أمام معضلة أخلاقية بين الالتزام الديني والواقع الاقتصادي القاسي؟ هذه الأسئلة وغيرها تطرح نفسها بقوة مع اقتراب عيد الأضحى.

الأضحية مؤشراً على الطبقية

في ظل أزمة اقتصادية خانقة، أصبحت اللحوم الحمراء في سوريا رمزاً للرفاهية، محوّلة موائد الطعام إلى مقياس للتفاوت الطبقي. فمنذ سنوات، بات استهلاك هذه السلعة الأساسية حكراً على فئة قليلة من المقتدرين، بينما يجد الغالبية العظمى من المواطنين أنفسهم أمام أسعار تتجاوز حدود الخيال.

بورصة اللحوم السورية تتضاعف ما مصير شعائر عيد الأضحى هذا العام؟ (2)
ي العام الماضي، كان بإمكان المواطن شراء الأضحية بنحو 3 ملايين ليرة – إنترنت

في جولة ميدانية قامت بها صحيفة “قاسيون” المحلية في الأسواق الشعبية بالعاصمة دمشق، تكشّفت حقائق صادمة عن أسعار اللحوم. ومع أن الأرقام المرصودة هي الأدنى في هذه الأسواق، إلا أنها تؤكد حجم الفجوة بين الواقع الاقتصادي القاسي وقدرة المواطن المفقر محدود الدخل وقليل الحيلة.

هذه الأرقام لا تعكس فقط ارتفاعاً في الأسعار، بل تكشف عن تحوّل عميق في النسيج الاجتماعي السوري. فقد أصبحت قطعة اللحم على الطاولة ليست مجرد طعام، بل مؤشراً على مكانة اجتماعية، يعكس بصورة مأساوية كيف يمكن لأزمة اقتصادية أن تحوّل الضروريات إلى رفاهيات بعيدة المنال.

فالتحليلات والتصريحات الرسمية حول خفض الأسعار وتوفير المادة على ضوء قرارات استيراد الأغنام والعجول وتصديرها، ماهي إلا تصريحات إعلامية، فراتب الموظف الحكومي بالكاد يغطي سعر 2 كغ مسوفة غنم أو عجل، وهو ما يشكّل عجزاً حقيقياً عن استهلاك اللحوم الحمراء بالنسبة للشريحة المفقرة!

بورصة للحوم السورية

في مشهد يعكس الواقع الاقتصادي المرير، تشهد أسواق اللحوم ارتفاعاً صاروخياً في الأسعار، محطّمة كل التوقعات ومثيرة موجة من الدهشة والاستياء بين المستهلكين. فقد حلّق سعر كيلو الغنم الحي إلى عنان السماء، مسجلاً 87 ألف ليرة سورية، في حين قفز سعر الكيلو من لحم الغنم “الهبرة” – وهو الأجود – إلى ما يتجاوز 280 ألف ليرة، رقم يبدو وكأنه مستوحى من عالم الخيال.

“حيتان السوق” وكبار التجار هم المتحكمون الحقيقيون بأسعار اللحوم – إنترنت

لم تقتصر هذه الزيادات الجنونية على النوعيات الممتازة فقط، بل طالت حتى القطع الأقل جودة. فكيلو لحم الغنم “الهبرة” مع نسبة 25 بالمئة دهون – وهي نسبة ليست بالقليلة – يتراوح سعره بين 220 إلى 240 ألف ليرة سورية. 

أما “المسوفة” التي تحتوي على 50 بالمئة دهون، فقد تخطى سعر كيلو غرام منه حاجز الـ 160 ألف ليرة، في مفارقة تجعل المرء يتساءل: هل نحن نشتري لحماً أم ذهباً؟

وفي سوق لحوم العجول، لا يبدو الوضع أفضل حالاً. فقد سجل كيلو العجل الحي سعراً يصل إلى 65 ألف ليرة سورية، بينما تجاوز سعر كيلو “الهبرة” عتبة الـ 200 ألف ليرة. حتى “المسوفة”، الخيار الأرخص عادةً، لم تعد كذلك، إذ يقارب سعر كيلو غرام منها 150 ألف ليرة كحد أدنى.

في خضم هذا الارتفاع الجنوني، يبرز سؤال مُلحّ: مَن يقف وراء هذه الأسعار الفلكية؟ مصادر مطلعة تشير إلى أن “حيتان السوق” وكبار التجار هم المتحكمون الحقيقيون بهذه الأسعار، متذرعين بمبدأ العرض والطلب، في غياب تام لأي رقابة حكومية فعّالة.

هذا الوضع يضع المواطن العادي في مأزق حقيقي. فمع هذه الأسعار الخيالية، بات اللحم – الذي كان يوماً من أساسيات المائدة – سلعة ترفيهية، يحلم بها الكثيرون دون أن يتمكنوا من تحقيق هذا الحلم. إنها قصة تعكس واقعاً اقتصادياً مريراً، حيث تتحول الضروريات إلى كماليات، والمواطن البسيط هو من يدفع الثمن.

صدمة العيد

رئيس الجمعية الحرفية للحامين، يحيى الخن، كشف عن ارتفاع صاروخي في أسعار الأضاحي، ما يهدد بتحويل عيد الأضحى من مناسبة للفرح والعطاء إلى مصدر للقلق والحسرة لدى الغالبية العظمى من السوريين.

زيادة الطلب على لحوم الأغنام في السوق المحلية والخارجية – إنترنت

في تصريح سابق بتاريخ 28 أيار/مايو 2024، بيّن الخن الصورة الحقيقية لواقع سوق الأضاحي. فمنذ عيد الفطر الفائت، شهدت أسعار الغنم الحي زيادة بمقدار 7 آلاف ليرة سورية، وهي ليست سوى بداية لسلسلة من الارتفاعات المتوقعة. 

وأوضح الخن: “نحن أمام موجة صعود لم نشهد لها مثيلاً. فالخروف الواحد، بوزن 55 كيلو – وهو الحد الأدنى المقبول للأضحية – سيكلف المواطن ما بين 5.5 إلى 6 ملايين ليرة سورية”.

هذه الأرقام لا تمثّل مجرد زيادة عادية، بل قفزة هائلة تعكس عمق الأزمة. يضيف الخن: “في العام الماضي، كان بإمكان المواطن شراء الأضحية بنحو 3 ملايين ليرة. أما اليوم، فالسعر تضاعف. إنها زيادة تفوق قدرة الكثيرين على التحمّل”.

لكن الصدمة لا تقتصر على الأغنام؛ ففي سوق الأضاحي من العجول، يبدو الوضع أكثر إثارة للاستغراب. يكشف الخن: “سعر العجل الواحد وصل إلى نحو 18 مليون ليرة سورية”. رقم يبدو وكأنه مستوحى من عالم الخيال، لكنه واقع مرير يعيشه السوريون.

هذه الأرقام الفلكية تضع علامة استفهام كبيرة على مستقبل أحد أهم الطقوس الدينية والاجتماعية في سوريا. فعيد الأضحى، الذي طالما كان رمزاً للتكافل والتراحم، يتحول اليوم إلى مصدر للتوتر و الاحباط. العديد من الأُسر التي اعتادت على ذبح الأضحية سنوياً، تجد نفسها هذا العام أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستدانة بمبالغ طائلة، أو التخلي عن هذه الشعيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات