في تطور دراماتيكي يعيد رسم خرائط الصراع العالمي، تحولت الأراضي السورية، التي طالما كانت مسرحاً للعبة الشطرنج الروسية، إلى ساحة انتقام لأوكرانيا؛ فقد كشفت مصادر إعلامية أن القوات الخاصة الأوكرانية نفذت عمليات قصف مباغتة على مواقع تابعة لروسيا في سوريا، في رسالة واضحة مفادها: لا مكان آمن لموسكو على خريطة العالم.
هذا التحرك الجريء من قِبل كييف، والذي استهدف مواقع عسكرية تابعة للجيشين السوري والروسي في درعا والقنيطرة جنوب سوريا، يمثّل تحولاً استراتيجياً في طبيعة الصراع الأوكراني-الروسي. فلأول مرة، تنقل أوكرانيا المعركة خارج حدودها وحدود جارتها الروسية، لتضرب في عمق التحالفات الروسية، وتحديداً في سوريا التي طالما اعتبرها “الكرملين” ساحته الخلفية الآمنة.
هذا التصعيد يطرح سؤالاً محورياً: هل تتحول سوريا إلى ساحة انتقام دولية؟ فالبلد الذي مزّقته الحرب لعقد من الزمان، يبدو اليوم وكأنه يتحول إلى رقعة شطرنج جديدة، حيث تتحرك القطع الأوكرانية بجرأة لتهدد القيصر الروسي في قلعته السورية. هذا التطور لا يعكس فقط تطوّراً تكتيكياً في الحرب الأوكرانية-الروسية، بل يشير أيضاً إلى تحول جيوسياسي عميق، حيث تبدأ القوى العالمية في إعادة تقييم مناطق نفوذها وحدود قوتها.
كييف تلاحق موسكو في سوريا
كشفت وسائل إعلام أوكرانية، أمس الاثنين، النقاب عن تحالف سرّي يجمع بين المخابرات العسكرية الأوكرانية ومجموعات محلية سورية؛ هدف هذا التحالف ضرب القوات الروسية في الأراضي السورية، وتحديداً في محافظتي درعا والقنيطرة جنوباً.
في مشهد يشبه أفلام الجاسوسية، نشر موقع “كييف بوست” الأوكراني، عن نشاط وحدة “خيميك” الخاصة التابعة للمخابرات الأوكرانية جنباً إلى جنب مع حلفائها من المجموعات المحلية السورية، مستهدفين نقاط التفتيش الروسية، ومهاجمين الدوريات والقوافل العسكرية في مرتفعات الجولان.
لم تعد هذه العمليات مجرد ادعاءات، فقد بثت الصحيفة الأوكرانية مقاطع مرئية، توثق هجمات ضد أهداف روسية في سوريا خلال شهر آذار/مارس الماضي. هذه الصور تقدم دليلاً دامغاً على أن الصراع الأوكراني-الروسي قد تجاوز حدود أوروبا الشرقية، ليصل إلى قلب الشرق الأوسط.
يكشف مصدر داخل المخابرات الأوكرانية أن هذه العمليات ليست طارئة، بل جزء من استراتيجية ممنهجة بدأت منذ مطلع العام. والهدف استهداف كل ما هو روسي في جنوب سوريا، خاصة في هضبة الجولان. فمن نقاط التفتيش إلى الدوريات الراجلة، ومن القوافل العسكرية إلى المرتفعات الاستراتيجية، يبدو أن كييف قررت أن تجعل من الوجود الروسي في سوريا هدفاً متحركاً.
هذا التطور لا يعكس فقط توسّعاً في رقعة الحرب الأوكرانية-الروسية، بل يكشف أيضاً عن تحولات عميقة في المشهد السوري. فوجود مجموعات محلية مستعدة للتعاون مع قوات أجنبية ضد حليف دمشق، يشير إلى تصدعات في البنية السياسية السورية.
سوريا ساحة انتقام
كأفلام الإثارة الهوليوودية، تحولت الأراضي السورية إلى مسرح لعمليات سرّية تقودها المخابرات الأوكرانية. فوفقاً للإعلام الأوكراني، تتعاون كييف مع مجموعات محلية سورية لضرب المواقع العسكرية الروسية في عمق الأراضي السورية، في استراتيجية تعكس القول المأثور: “من حفر حفرة لأخيه وقع فيها”.
لم تعد هذه العمليات مجرد مناوشات خفيفة، بل تطورت إلى حرب شاملة. فالمجموعات المحلية، مدعومة بخبرات أوكرانية، تشن هجمات متنوعة ضد المنشآت الروسية.
يروي مصدر مطلع: “يستخدمون كل ما في جعبتهم، من قنابل صاروخية وقذائف هاون، إلى عبوات ناسفة يتم التحكم فيها عن بعد”. هذه الأخيرة تستخدم بشكل خاص لاستهداف المركبات والدوريات الروسية، في تكتيك يُذكر بأساليب حرب العصابات.
لكن لماذا سوريا، الجواب يكمن أنه منذ تدخل روسيا في سوريا عام 2015، نشرت موسكو آلاف الجنود هناك. والآن، مع نقل موسكو لبعض قواتها ومعداتها من سوريا إلى أوكرانيا في خريف 2022، ترى كييف فرصة ذهبية للانتقام.
لكن المفارقة الساخرة هي أن روسيا، التي جعلت من سوريا مركزاً لتجنيد المرتزقة للقتال في أوكرانيا، تجد نفسها اليوم ضحية لتكتيكاتها الخاصة. حيث يتم تجنيد المرتزقة في الجيش الروسي ويتم إصدار جوازات سفر لهم تحت إشراف “مركز المصالحة بين الأطراف المتنازعة ومراقبة حركة اللاجئين” في قاعدة حميميم الجوية الروسية.
اللفتنانت جنرال كيريلو بودانوف، رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، كان قد تعهد في وقت سابق بملاحقة الروس “أينما كانوا”، محولاً الكرة الأرضية إلى ساحة صيد.
لم تبق هذه التهديدات حبراً على ورق، حيث المفاجأة الكبرى جاءت من السودان، إذ حصلت “كييف بوست” على فيديو حصري يظهر هذه القوات الخاصة الأوكرانية وهي تستجوب مرتزقة روسيين من شركة “فاغنر” هناك.
هذه العمليات ليست مجرد مناوشات عابرة. ففي درعا السورية، لفت مصدر عسكري لموقع “القدس العربي” إلى زيادة ملحوظة في “الهجمات وعمليات القتل والاغتيال”. ويعتقد المصدر أن “مجموعات محلية مجندة تعمل لصالح المخابرات الأوكرانية” تقوم بـ”زرع عبوات لضرب مواقع وأهداف روسية”.
فوضى التحالفات
شهد شهر أيار/مايو الفائت استمراراً في عمليات القتل في محافظة درعا ضمن فوضى أمنيّة ازدادت وتيرتها منذ عقد اتفاقية التسوية في تموز/يوليو 2018 بين الجيش السوري وفصائل المعارضة برعاية روسيّة، حيث سجل “مكتب توثيق الانتهاكات” لدى شبكة “تجمع أحرار حوران” المحلية، مقتل 43 شخصاً، بينهم عنصران من اللواء الثامن التابع لروسيا، جراء انفجار في أحد مستودعات الذخيرة التابعة للواء شرق درعا.
وأحصى “مكتب توثيق الانتهاكات” لدى شبكة “تجمع أحرار حوران” 29 عملية ومحاولة اغتيال، أسفرت عن مقتل 22 شخصاً، وإصابة 11 آخرين بجروح متفاوتة، ونجاة 7 أشخاص من محاولات الاغتيال.
وحسب المكتب، فإنّ معظم عمليات ومحاولات الاغتيال التي تم توثيقها في الشهر ذاته جرت بواسطة “إطلاق النار” بأسلحة رشاشة روسية من نوع “كلاشنكوف”، باستثناء 4 عمليات بواسطة “عبوة ناسفة” و4 عمليات بواسطة “عبوة لاصقة”.
منذ عدة سنوات، تُخيّم أجواء الغموض على محافظة درعا السورية، حيث تتكرر عمليات الاغتيال في مشهد دموي يثير الرعب والحيرة. فالقتل يجري على قدم وساق، لكن الجناة يبقون أشباحًا بلا هوية، يتوارون خلف ستار الإبهام.
في هذا المسرح المظلم، تتكرر سيناريوهات الموت بوتيرة مخيفة، دون أن تعلن أي جهة مسؤوليتها عن هذه الجرائم. وكأن هناك اتفاقًا ضمنيًا على إبقاء هوية القاتل طي الكتمان، ليصبح “المجهول” هو المتهم الدائم في السجلات، لكن مع إعلان كييف عن ضلوعها في بعض هذه الأحداث، يبدو أن سوريا باتت مسرح انتقام.
- ضبط أسلحة إيرانية في طرطوس.. ما علاقة روسيا و”لواء فاطميون”؟
- تحوّل جذري في سياسة دمشق التجارية: وداعاً لبضائع طهران وموسكو.. فما القصة؟
- سوريا.. جمال سليمان يدعو لتحقيق العدالة والابتعاد عن الانتقام
- مرحلة إعادة الإعمار في سوريا: الشروط والتوقيت
- مساعدات أوروبية لدعم سوريا ودول الجوار.. كيف تنظر دول الاتحاد إلى دمشق؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.