تركت وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي العديد من التداعيات سواء في الداخل الإيراني أو في الساحة الدولية خاصة مع الدول التي ترتبط مع إيران بروابط قد تكون مصلحة أو منفعة أو حتى عداوة، وكلما مرّ وقت، ازدادت الصورة وضوحاً لشكل مرحلة ما بعد رئيسي، خاصة في وجود منطقة مضطربة ولاعبين لديهم رؤى جيوسياسية وتوسعية.

قد تظهر تركيا بوضوح كأحد اللاعبين خلال الفترة المقبلة، في الوقت الذي تربطها علاقة إشكالية بإيران.. ما بين المصالح الاقتصادية و الملفات الخلافية.

انتقام الجغرافيا

قبل سنوات، كتب المفكر الأميركي روبرت كابلان، كتابا بعنوان “انتقام الجغرافيا”، حيث زعم أن قوة أي دولة واستراتيجيتها الأمنية مرتبطة بالجغرافيا، وأن استخدام الجغرافيا هو الذي يحافظ على الرخاء ويشجع على توسيع ثرواتها. 

وزراء خارجية ومسؤولون من روسيا وتركيا وسوريا وإيران يحضرون اجتماعًا في موسكو - إنترنت
وزراء خارجية ومسؤولون من روسيا وتركيا وسوريا وإيران يحضرون اجتماعًا في موسكو – إنترنت

هذا التحليل ينطبق على تركيا وإيران اللتان لديهما رؤية جيوسياسية توسعية، مفادها أن أفضل طريقة لضمان استقرارها الداخلي وتوازنها الإقليمي هي من خلال السيطرة على المساحات الجغرافية المحيطة بها، ومراجعة تاريخ البلدين يشهد على ذلك. 

وهما كذلك يتفقان على عدم الشعور بالراحة حيال توزيع القوى في نظام دولي الذي يعتبرانه غير عادل، وهو ما يجعلهما رغم التنافس فيها بينهما على المساحات الجغرافية، إلا أن لديهما بعض التفاهمات تمكنهم من المضي قدماً والحفاظ على المساحة الآمنة بينهم.

هذه التفاهمات ليست ذات ضمانة غير محدودة، فقد تنشأ مشكلة فجأة عندما تتطابق المساحات التي يعتبرها كل طرف ضمن نطاق نفوذه، مما يؤدي إلى سلوك تنافسي أو تعاوني في سيناريوهات مثل البحر الأسود أو القوقاز وآسيا الوسطى، وكذلك في شمال إفريقيا أو الشرق الأوسط. 

ومع ذلك، باعتبارها دولاً براغماتية، فإن سياساتها تحرّكها المصلحة الوطنية وليس الإيديولوجية، لذا فهما قادرتان على التحالف مع بعضها البعض لكنهما في الوقت نفسه قد يستغلان أي ارتباك يصيب أحدهما للاستفادة من الوضع، وقد تعتبر وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أنموذجا لهذه الارتباك الذي قد يشكل فرصة لتركيا.

أزمة المسيرات كشفت التنافس

التنافس الخفي بين إيران وتركيا، كانت تكشفه بعض المشاهد من حين لآخر، في الأيام الأخيرة تصدرت قصة العثور على مروحية الرئيس الإيراني ومرافقيه المنكوبة، حيث أفادت أنباء بتدخل مسيّرة تركية متطورة للبحث عن موقع التحطم، وهو ما أثار تساؤلات حول مدى تطور المسيرات الإيرانية التي طالما أعلنت إيران بكل فخر واعتزاز أنها من أفضل المصنعين في هذا المجال.

مليشيات الدم والنار كيف أصبحت إيران القوة الشيطانية في الشرق الأوسط؟ (1)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (وسط)، والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي (يمين) والرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يسار) (تصوير مصطفى كاماتشي/ غيتي)

يبدو أن تدخل المسيرة التركية من طراز “بيرقدار إكنجي” في عمليات البحث، أحرج هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، وهي المسؤول الأعلى عن التصنيع العسكري وبالتالي عن إنتاج المسيرات الإيرانية، فهبت للدفاع عن منتجها، وهو ما دفعها إلى أصدار بيان الأسبوع الماضي، لإنقاذ سمعة المسيرات الإيرانية، والإعلان عن “فشل المسيرة التركية”، مؤكدة أنها عادت أدراجها إلى تركيا دون النجاح في العثور على حطام مروحية إبراهيم رئيسي. 

ومنح البيان الفضل في العثور على مروحية رئيسي إلى القوات المسلحة الإيرانية والمسيرات الإيرانية التي تم استدعاؤها من المحيط الهندي.

على الجانب التركي من السجال بهذا الخصوص، يقول الأستاذ بجامعة “مرمرة” التركية، سرحان أفاجان، في شرحه للوضع الذي تواجهه الحكومة الإيرانية، وهو الوضع الذي يصفه البعض في تركيا بالضعف الاستخباراتي وعدم احترافية جهاز الأمن والإنقاذ الاستخباراتي الإيراني في قضية مقتل الرئيس ورفاقه: “على الرغم من أننا نقول إن إيران تلعب أدواراً في عدد من العواصم العربية وتؤثر على المنطقة، فإننا عندما نذهب إلى داخل حدود إيران، فإننا نواجه حكومة هشة”، على حد تعبيره.

بالمقابل، وصفت وسائل إعلام تابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني، تصريحات المسؤولين الأتراك ومنشورات وسائل الإعلام التركية بـ”الأكاذيب” أو “التصريحات غير الدقيقة”، إلى أن حسم بيان الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية الموقف لصالح المسيرات الإيرانية.

علاقة إشكالية

أزمة المسيرات كانت مجرد مؤشر صغير لشكل العلاقة الإشكالية بين البلدين، فتركيا وإيران، بلدان جاران وقوتان إقليميتان تتسم علاقاتهما بحساسيات مختلفة، ويواجه كل منهما الآخر كمنافس استراتيجي في عدد من الأماكن بما فيها سوريا وأذربيجان. بينما في حالات أخرى، لهما مواقف متماثلة كموقفهما من الهجوم الإسرائيلي على غزة.

حراس الخيالة الأتراك وهم يلوحون بالعلمين الإسرائيلي والتركي، للترحيب بالرئيس الإسرائيلي في العاصمة أنقرة – وكالة الصحافة الفرنسية

العلاقات الاقتصادية بين الدولتين كبيرة، حيث بلغ إجمالي حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران حوالي 6 مليارات دولار عام 2023. وأعلن رئيسا البلدين أنهما يهدفان إلى زيادته إلى 30 مليار دولار. وجدير بالذكر أن تركيا لم تشارك في العقوبات المفروضة على إيران، كما زار تركيا 2.5 مليون سائح إيراني عام 2023.

كما تعد إيران ثاني أكبر مورد للغاز الطبيعي لتركيا، التي تستورد حوالي 16 في المئة من غازها الطبيعي من جارتها، بما يعادل 3.3 مليار دولار تقريبا، حيث سيلزم اتفاق الغاز الطبيعي بين البلدين، إيران بإرسال 30 مليون متر مكعب من الغاز يوميا إلى تركيا، ولمدة 30 عاما، سينتهي أجله عام 2023.

وبحسب تقرير لصحيفة “طهران تايمز” الإيرانية، تبادلت إيران وتركيا بضائع بقيمة تصل إلى 1.75 مليار دولار في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024. 

ووفقًا لتقرير صادر عن معهد الإحصاء التركي، يظهر هذا الرقم نموا بنسبة 2% مقارنة بمبلغ 1.72 مليار دولار المسجل في الفترة المقابلة من العام الماضي، كما صدرت تركيا ما قيمته 1.05 مليار دولار من السلع إلى إيران خلال الفترة من كانون الثاني/يناير إلى نيسان/أبريل الفائت، بزيادة 16 بالمائة مقارنة بـ 900 مليون دولار في نفس الفترة من العام الماضي.

قضايا خلافية

رغم الأرقام الاقتصادية المثيرة، إلا أن قائمة الخلافات بين البلدين طويلة، حسبما يرى المنسق العام لمركز “داكتيلو” للدراسات في إسطنبول، إلكان دالكوتش، فإن “العلاقات بين طهران وأنقرة ليست جيدة جداً كما يبدو”، لكنها دائماً ما تحافظ على توازن معين، ورأى أن تحسُّن علاقات تركيا مع السعودية ومصر والإمارات، زاد بشكل غير مباشر من احتمال حدوث صدْع مع إيران التي توجست من هذه التطورات”.

منذ طوفان الأقصى حتى اليوم حماس تكشف فضائح إيران وأسرار تفاهماتها؟ تحايل إيران على العقوبات النظام الإيراني الحرس الثوري البرلمان
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يتحدث خلال تجمع حاشد خارج السفارة الأميركية السابقة في العاصمة طهران، بمناسبة الذكرى 43 لبدء أزمة الرهائن في إيران. (تصوير أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

وأوضح الباحث التركي، أن ما يجمع بين أنقرة وطهران لا يتعدى المصالح المحدودة، أما أغلب القضايا الإقليمية بما فيها الداخلية منها فهي ملفات خلافية حادة.

أهم ملفات الخلاف بينهما يتعلق بالدعم الذي تقدمه إيران لحزب “العمال الكردستاني” الذي تصنّفه أنقرة (منظمة إرهابية)، ويهدد أمنها القومي، كما تدعم تركيا أذربيجان، الدولة التي تتقاسم معها روابط تاريخية وعرقية ولغوية مهمة، في حين تدعم إيران أرمينيا كوسيلة لتجنب العدوى القومية في الجزء الشمالي من البلاد الذي أغلب سكانه من الأذريين. 

كذلك مسألة تقارب إسرائيل وأذربيجان، وهو الأمر الذي يزعج طهران، كما أن حزب “العدالة والتنمية” الحاكم في أنقرة، يتهم إيران بدعم جماعات الإسلام السياسي التي تضغط على حكومته لوقف التجارة مع إسرائيل.

الملف الأهم في الخلاف بين البلدين هو الملف السوري، فمنذ اندلاع الاحتجاجات السورية في آذار/مارس 2011، أعلنت طهران وقوفها إلى جانب حكومة دمشق ضد ما سمته “المؤامرة والإرهاب”، وأرسلت فرقاً استشارية، وتدخلت بشكل مباشر لصالح حكومة دمشق، فيما أعلنت تركيا دعمها لـ”حراك الشعب السوري نحو الحرية”، وطالبت بوقف “العنف ضد السوريين”.

وعلى الرغم من ذلك تعاونت تركيا وإيران إلى جانب روسيا في “مباحثات أستانا” التي رسمت خطوطا للتهدئة، لكن في النهاية وصلت المباحثات إلى طريق مسدود، ومؤخراً ظهر على السطح هناك خلافات أخرى تتعلق بالوضع في العراق، حيث ترفض إيران التدخلات التركية الأخيرة في العراق.

هل وفاة رئيسي فرصة لتركيا؟

الوضع الداخلي المرتبك الحالي في إيران، قد يزيد التوترات بين إيران وتركيا، اللتين تتنافسان على النفوذ في الشرق الأوسط، بالنسبة لتركيا، فإن مستقبل جنوب القوقاز والعراق وسوريا أمر بالغ الأهمية لأمنها القومي. وهي أيضا المناطق التي تواجه جميعها معارضة إيرانية ضد مصالح تركيا.

الرئيس التركي طيب أردوغان يتحدث خلال مسيرة نظمها حزب العدالة والتنمية تضامناً مع الفلسطينيين في غزة، في إسطنبول في 28 أكتوبر 2023.

على سبيل المثال، يستعد الجيش التركي لشن هجوم كبير في العراق وسوريا ضد قواعد جماعة حزب “العمال” الكردستاني، التي تقاتل الدولة التركية، وكانت أنقرة قد انتقدت مراراً وتكراراً طهران لفشلها في دعم جهودها، في حين تشعر إيران بالقلق من تعدي تركيا على المناطق التي تعتبرها ضمن نطاق نفوذها، وهو الوضع الذي قد يتدهور في أي لحظة.

مسألة من سيخلف رئيسي ووزير خارجيته تشكل ميزة دبلوماسية لتركيا، فليس واضحاً ما إذا كان وزير الخارجية الإيراني الجديد والرئيس الجديد سيحصلان بطريقة أو بأخرى على نفس المستوى من هذا التأثير لأنهما سيكونان في الغالب أشخاصاً عديمي الخبرة.

كما أن الصراع الداخلي في إيران على السلطة، يشكل أيضا مشهداً ضبابياً، فمثلاً إذا زاد “الحرس الثوري” الإيراني قوته، قد يؤدي أيضًا إلى استخدام أكثر حزماً لوكلاء إيران الذين يسيطر عليهم “الحرس الثوري” الإيراني في العراق وسوريا، وهو ما يتعارض غالبًا مع المصالح التركية، وقد يدفع نحو المزيد من التوتر، والعكس صحيح هو أن ضعف وكلاء إيران قد يمنح فرصة لتركيا.

من ناحية أخرى، فإن هناك توجّه أميركي كما يبدو إلى الاهتمام بتركيا باعتبارها جهة فاعلة توازن إقليمية ضد إيران، وربما يساعد الارتباك داخل إيران على تحقيق هذه الفكرة مما يسبب المزيد من الضغط على إيران. فكان من المقرر أن يزور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان البيت الأبيض في أيار/مايو الماضي، لكن الرحلة تأجلت، ولكن من المتوقع أنه يتم تحديد موعدها قريباً. 

من جانبه علق الكاتب الصحفي المتخصص بالشؤون الإيرانية، عمار جلو، لـ”الحل نت”، معروف أن رئيس الجمهورية الإيرانية لا علاقة له بتوجه السياسة الخارجية الإيرانية، فهو عامل مؤثر ضعيف كرئيس لمجلس الأمن القومي الذي يصيغ السياسيات ويضع جدول الأعمال. 

وحول التنافس الإيراني التركي، يشير جلو إلى أنه أمر قديم، وربما ازداد خلال الفترة الأخيرة بسبب دخول تركيا على الساحة العراقية وهي منطقة نفوذ إيران، حتى قبل وفاة رئيسي كان هناك تحركات تركية تهدد إيران، حول عدة ملفات من بينها موضوع مكافحة الإرهاب. 

ومن ناحية أخرى، فإن مسألة تعدد مصادر الطاقة أمام تركيا تمكنها الآن من الاستغناء عن إيران في مجال الطاقة، ولكن الأهم هو مدى التهاء إيران بمسألة خلافة رئيسي وهو ما قد يشكل فرصة لتركيا، كما أن سياسة رئيسي لتحسين العلاقات مع أذربيجان وأرمينيا قد تتأثر حال قدوم رئيس يغاير هذه السياسة، وفي هذه الحالة سوء علاقة أذربيجان بإيران سيقوي موقف تركيا.

وبناء على ما سبق، من المتوقع أن تحاول تركيا الحفاظ على علاقات طبيعية مع إيران، فاستقرار إيران أمر مهم لتركيا، لأن أي اضطرابات خطيرة وأي عدم استقرار فيها، يمكن أن تكون لها ردة فعل عكسية خطيرة من نواح عديدة، بما في ذلك انقطاع إمدادات الطاقة وتدفق موجات كبيرة من اللاجئين. ولكن من ناحية أخرى قد تستغل تركيا التوترات في إيران لتحقيق بعض المكاسب الجيوسياسية لصالحها وربما بدعم الولايات المتحدة، ولكن من المستبعد حدوث صدام مباشر كبير بين تركيا وإيران.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات