تحضيرا لاعتراف دبلوماسي بحكومة “طالبان”، وضمن جهودها لتخفيف العزلة والعقوبات الغربية المفروضة عليها، تسعى روسيا لرفع الحركة بداية عن قوائم الإرهاب الروسية. فماذا وراء خطوة موسكو للاعتراف بحكم الحركة المتطرفة؟  

“حركة طالبان”، هي “السلطة الفعلية” في أفغانستان، قال وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف ، واحتمال إزالتها عن قائمة المنظمات الروسية المحظورة يعكس “واقعا موضوعيا”. وبحسب مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان، زامير كابولوف، اقترحت وزارتا العدل والخارجية الروسيتين، على “الكرملين” رفع الحركة من قائمة المنظمات الإرهابية، وأنهما استكملتا تحضيرات إزالتها عن قوائم الحظر، وهي خطوة إيجابية وضرورية قبل عملية الاعتراف بحكومة “طالبان”، وفق موسكو.

قبلها، أشار كابولوف، إلى أن “ممثلي السلطات الأفغانية الحالية مدعوون بالفعل إلى منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي الـ 27″، الذي سيُعقد بين 5 و8 حزيران/ يونيو الحالي. وبحسب وزارة الخارجية الروسية: “يتم تشكيل برنامج إقامة الوفد الأفغاني في روسيا، بما في ذلك الاجتماعات على هامش المنتدى”.

بدوره، أعلن نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، أن روسيا تقترب من إرساء تام لعلاقاتها مع “طالبان”، بعد أن كانت تعتبر الحركة تنظيماً إرهابياً، وبعد أن كانت موسكو تعتبر واشنطن “شريكا” بداية القرن الحالي، وها قد تغير الوضع بشكل جذري في الوقت الراهن، وعادت “طالبان” إلى السلطة مجددا، بينما أصبحت واشنطن “شريكة للإرهاب” بالنسبة لروسيا.

إزالة الحركة عن قوائم الإرهاب الروسي، خطوة إيجابية مرحّب بها، حسب المتحدث باسم الحكومة الأفغانية ذبيح الله مجاهد، و”ستفتح الطريق لبناء علاقات قوية وثقة متبادلة بين الطرفين”. معتبرا أنها رسالة لدول أخرى بشأن مواقفها تجاه أفغانستان، بأن “حركة طالبان” التي تحكم البلاد هي ممثل شرعي للشعب الأفغاني وتريد بناء علاقات مع هذه الدول.

علاقات شائكة

سابقا، أيّدت موسكو إقرار العقوبات الأممية على “طالبان”، ورحّبت بالغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001. وفتحت سفارتها في كابول نهاية ذلك العام. وخلال ولاية الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الثانية، تحسنت علاقة الجانبين أكثر، حيث دعمت كابل موقف موسكو في أزمة أوكرانيا عام 2014، نتيجة لأزمة بشتونستان والعلاقات المتدهورة مع أميركا، كما ازداد حجم التجارة بين الطرفين وصولا لمليار دولار عام 2013، حسب “مركز الدراسات الاستراتيجية والإقليمية الأفغاني“. 

مع ذلك، أجرت موسكو اتصالات مع “طالبان” بعد سقوط حُكم الأخيرة، خلال عامي 2006-2007، ضمن مسعى موسكو لمكافحة تهريب المخدرات إلى آسيا الوسطى. وعندما أسرت “طالبان” طياراً روسياً عام 2013، اتصل كابلوف بالحركة لتحريره، وتم ذلك بعد عام من المحادثات. لكن بشكل عام، لم تكن علاقة الطرفين جيدة، وكان اتصالهما لأمور آنية فقط.

مبعوث الرئيس الروسي إلى أفغانستان زامير كابولوف أثناء لقاء مع وفد لطالبان في موسكو – (رويترز)

مع ظهور “داعش” وتهديده لمصالح روسيا في الشرق الأوسط، عززت موسكو دعمها لـ “نظام بشار الأسد”، وفق “مركز الدراسات الأفغاني”، وحذّر مسؤولون روس من تواجد “داعش” في أفغانستان، وأشاروا لرغبة التنظيم بالوصول إلى حدود روسيا، وتهديد حلفائها، مما أثار قلق موسكو، بسبب انتماء مقاتلين روس ومن آسيا الوسطى إلى “داعش”، ومبايعة بعض المجموعات المسلحة من آسيا الوسطى للتنظيم، مثل “حركة أوزبكستان الإسلامية”، و”اتحاد الجهاد الإسلامي”، و”جماعة الأنصار”، واعتبار “داعش” نفسه تهديدا لروسيا ومصالحها، عبر وجوده في آسيا الوسطى والشرق الأوسط.

في المقابل، تعاملت “طالبان” بحذر مع “داعش”، لكن مع جذب التنظيم لبعض قيادات الحركة، وحدوث مواجهات عسكرية بين الطرفين، أرسلت “طالبان” رسالة رسمية إلى “أبو بكر البغدادي” زعيم “داعش”، لكن الأخير أظهر ردة فعل شديدة. وعليه، توسعت خلافات التنظيمين وتضاعفت بخلافهما على شرعية “الأمير”، ما أدى لمواجهات دامية بينهما في بعض الولايات الأفغانية، وهو الأمر الذي حمّل موسكو على التوجّه نحو تعاونٍ مشترك مع “طالبان” لمواجهة “داعش”.

“طالبان” حقيقة واقعة

حسب نائب وزير الخارجية الروسي، أندريه رودينكو، تتوقع موسكو وفاء “طالبان” بوعدها تشكيل حكومة شاملة، لكنها لا تربط ذلك بسياستها تجاه أفغانستان. وهو ما أشار إليه لافروف بقوله، إن موسكو لم تغيّر خطها الكامل تجاه أفغانستان، فاقتراح إزالة الحركة من قائمة الإرهاب “يهدف إلى تهيئة الظروف لمشاركة أكبر لهذه الحركة في المجتمع الدولي. هذا ضروري أيضا من أجل تعزيز الاتصالات معهم في مختلف المجالات، بما في ذلك التجارة والاقتصادية، دون النظر إلى الوراء في أي قيود تم إدخالها بوضع مختلف تماما. حركة طالبان حقيقة واقعة على الأرض، ويجب أن نأخذها بعين الاعتبار”.

لذا، “نحن لا نربط أي شيء. ونأمل أن تفي طالبان بجميع وعودها التي قطعتها علناً للمجتمع الدولي. لكننا لا نجعل هذا شرطا بأي حال من الأحوال، ولا نربطه بنشاطهم، وسياستهم، بما في ذلك في الاتجاه الروسي”، أضاف لافروف.

رغم عدم اعترافها بحكم “طالبان”، خفّفت موسكو من حدّة خطابها المناهض للحركة، وتحولت وسائل الإعلام الروسي الحكومي تدريجيا لاستخدام تعبير “متطرفة” لوصف الحركة بديلا عن “إرهابية”، ضمن مساعي موسكو لتفادي تحوّل أفغانستان لقاعدة خلفية للإرهاب ونشاط الجماعات المتطرفة من جديدة. وفقا لـ “المعهد العراقي للحوار“، وبحسب لافروف، “إذا عملنا من أجل الاعتراف الدبلوماسي الكامل بحكومة طالبان في أفغانستان، فسنجد أن طالبان تفي بوعدها بحكومة شاملة، ليس فقط على الصعيدين العِرقي والديني، ولكن أيضا على الصعيد السياسي”. وقد أشار الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين بعد عودة “طالبان” لحكم أفغانستان، إلى أن “هيمنة طالبان هي حقيقة يجب على روسيا العمل معها”.

نعمة الله قطب الدين، وهو نائب رئيس قسم الدراسات الدولية في مركز الدراسات الاستراتيجية لدى رئاسة جمهورية طاجكستان، أشار في حديث مع “الحل نت”، إلى ستفادة موسكو من حضور الأقلية التتارية المسلمة في أفغانستان، واستخدامها لتطوير وتوطيد علاقة روسيا مع “طالبان”، ضمن سياق اهتمام موسكو المتزايد لرفع الحركة عن قوائم الإرهاب الروسية، ولتطوير العلاقة الاقتصادية التجارية مع حكومة كابل. منوّها إلى محاولة روسية لإقرار رفع الحركة عن قوائم الإرهاب بشكل مشترك، من قبل روسيا والدول الحليفة لها في آسيا الوسطى، وأن يتم ذلك ضمن خطة استباقية قبل انعقاد مؤتمر الدوحة المتعلق بأفغانستان، لمواجهة السياسية الأميركية في “أفغانستان طالبان”.

وفقا لقطب الدين، قررت الصين وكازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان تقوية علاقاتهم مع الحركة، رغم تحفّظات غير مؤثرة أو بعض الشروط من قبل طاجكستان، لكنها لا تعارض الخطوة، إذ لدى طاجكستان رغبة بحضور قوي لدول المنطقة، والكبرى منها خصوصا كالصين وروسيا، في أفغانستان من منظور اقتصادي وسياسي وغيرهما، لتوطيد العلاقات أكثر من الأجنحة المختلفة داخل “طالبان”. معتقدا بتوجه روسي متقدم على الجميع في هذا الجانب.

روسيا لا تسعى لإقامة علاقات مع “طالبان”؟

“لا تسعى روسيا إلى إقامة علاقات مع طالبان، لكنها تريد أن تتصدى بطريقة ما لاحتمال إساءة استخدام الولايات المتحدة لطالبان ضد آسيا الوسطى وروسيا”، حسب ضياء صدر، وهو صحفي أفغاني يعيش في ألمانيا. وبرأيه، “أي مقاربة لعلاقات روسيا مع طالبان لم تكن بسبب أفغانستان ولا بسبب طالبان، وطالبان تدرك ذلك جيدا. ومن ناحية أخرى، ستعمل طالبان على تعزيز علاقاتها مع البلاد حتى لا تساعد روسيا جبهة المقاومة الوطنية بقيادة أحمد مسعود وتدعمها علانية”.

بدوره، يرى مصدر في الخارجية الأفغانية، أن استقبال موسكو الملحق العسكري الأفغاني مؤشر على دعمها لحكومة كابل بالسلاح لمكافحة “داعش”. فيما يشير بعض الخبراء، لدلالة هذا التقارب على اعتراف موسكو بالحكومة الأفغانية على غرار الصين. فيما يرى محللون سياسيون أفغان، أن إزالة الحركة عن قوائم الإرهاب الروسية، مكسب مهم للحكومة الأفغانية الحالية، المتعطشة لاعتراف دولي بها. وسيؤدي الاعتراف الصيني الروسي بها إلى شرخ في مواقف المجتمع الدولي من الحركة. وهو اعتراف مستحيل دون شطب الحركة من قائمة روسيا للإرهاب، حسب صحيفة “إزفيستيا”

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صورة أرشيفية – (سبوتنيك)

وتنقل الصحيفة عن باحث “معهد التقييم والتحليل الإستراتيجي الروسي”، سيرغي ديميدينكو، إشارته إلى أسباب سياسية تقف وراء خطوة موسكو، وترتبط بإعادة توجهها نحو الشرق ومحاولة تشكيل مجتمع من الحلفاء حولها. إلا أن احتفاظ “طالبان” باتصالات مع منظمات شرق أوسطية متطرفة، قد يخلق عقبات أمام إزالتها عن قوائم الإرهاب واعتراف روسيا لاحقا بها.

منذ عام تقريبا، تم رفع “طالبان’ من قائمة الإرهاب في كازاخستان، وهي خطوة جاءت بالتنسيق والاستشارة مع روسيا، حسب قطب الدين، بمعنى أن الروس أبدوا موقفا واضحاً في هذا الخصوص. ولاحقا، دعت موسكو شخصيات من “طالبان” لمؤتمرات وندوات شاركت فيها جميع القوى السياسية في أفغانستان. مع ذلك هناك بعض الأجنحة في الحركة، كجناح “حقاني”، أو الجناح المرتبط بالاستخبارات الباكستانية، يحاولون منع تطوير علاقة “طالبان” مع موسكو بشتى الطرق، عبر تنفيذ هجمات إعلامية أو نشر الاعتقاد بوقوف موسكو وراء عمليات زعزعة استقرار “حكومة طالبان”، وأنها تقوم بدعم الحركات المسلحة التي تحارب الحركة في وادي بنشير شمال أفغانستان.

ما الذي غيّر حسابات موسكو؟

حرب الوكالة بين روسيا و”حلف شمال الأطلسي” في أوكرانيا، غيّرت حسابات موسكو الاستراتيجية الواسعة، كما أجبرتها عقوبات الغرب على تحويل انتباهها إلى الجنوب العالمي لتخفيف الضغوط الاقتصادية عليها، حسب مركز أبحاث “Katehon”. وقد بدأت موسكو مؤخرا إيلاء الاهتمام لاقتراح تبادل المعادن مقابل النفط، الذي قدّمه القائم بأعمال وزير الصناعة والتجارة الأفغاني، نور الدين عزيزي، في آب/ أغسطس 2022. فـ “طالبان” تخزّن ما قيمته 1 تريليون دولار من المعادن التي يحتاجها العالم بشدة، ومنها الليثيوم، المورّد الحاسم لما يسمى بـ “الثورة الصناعية الرابعة”.

حاليا، تعمل موسكو على تطبيق برامجها واستراتيجياتها على صعيد عملي في الميدان الأفغاني، من خلال التوجه لعلاقات أقوى، ودعم مشاركة “طالبان” في تنفيذ البرامج الاقتصادية والمشاريع التنموية في أفغانستان، وأن يكون لروسيا حضور قوي في الساحة الأفغانية، وباعتبارها دولة إقليمية كبيرة، ترى روسيا في نفسها دولة تراقب الجميع، وتدخل أفغانستان ضمن هذا التفكير الروسي، حسب قطب الدين. خاتما بالإشارة إلى وجود توجه رسمي من أقوى مؤسسات الحكم داخل روسيا، كـ وزارة الخارجية والاستخبارات العسكرية الروسية، للدفع بتطوير العلاقات بين موسكو وكابل.

لاحقا، أشار عزيزي إلى تخطيط أفغانستان لبناء مركز نفطي روسي يسهّل تصدير النفط لباكستان التي تتفاوض على اتفاق استراتيجي للطاقة مع روسيا. وقد أخبر بوتين رئيس الوزراء الباكستاني، شبهاز شريف، خلال لقائهما في سمرقند عام 2022، أن “الهدف هو جلب غاز خط الأنابيب من روسيا إلى باكستان. هذا ممكن أيضا، بالنظر إلى حقيقة أن بعض البنية التحتية قد تم إنشاؤها بالفعل في روسيا وكازاخستان وأوزبكستان”. وعلى ذلك، فإن إضفاء طابع رسمي على علاقة موسكو بـ “طالبان” قد يساعد في تنفيذ هذه الخطط. 

كذلك، قد يعرقل وجود تنظيم “داعش خراسان” في أفغانستان تنفيذ مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق بتمويل أجنبي، خصوصا مع عدم ضمان قدرة “طالبان” على حمايتها. وهو أحد أسباب إزالة الحركة من قائمة الإرهاب الروسية. وبهذه الإزالة، يمكن للجانبين بدء تعاون أمني، ومن ثم وضع أساس لمفاوضات حول المشاريع العملاقة. فهناك فرصة واعدة لتوسيع التجارة بين روسيا وجنوب آسيا، عبر طريق سكة حديد جديد، حسب مركز “Katehon”. مستشهدا بتوقيع مذكّرة تفاهم لإنشاء ممر نقل بيلاروسيا-روسيا-كازاخستان-أوزبكستان-أفغانستان-باكستان، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023. وقد تضمّن البيان المشترك للرئيسين الروسي والأوزبكي، خلال زيارة بوتين مؤخرا إلى طشقند، إشارة إلى هذا الممر.

إزالة “حركة طالبان” عن قوائم الإرهاب الروسية، وغير الروسية أيضا، مع اعتراف موسكو بحكم الحركة في أفغانستان، يبدو أنهما تقررا، وبانتظار الوقت المناسب للإعلان عنهما، في إطار استراتيجية روسية مصممة على تحييد العزلة والعقوبات الغربية المفروضة عليها، نتيجة غزوها لأوكرانيا. وقد تكون مسترشدة أيضا بسلوك الغرب بالتعامل مع الحركات القومية الأوكرانية المتطرفة (“النازيين الجدد” حسب التسمية الروسية)، ضمن الجهود الغربية لهزيمة روسيا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة