في سوريا، باتت الأحداث والوقائع المستمرة منذ نحو 13 عاماً تقريباً قد بلغت درجة من القتامة غير مسبوقة بالتاريخ، وتسجل وضعاً ليس فقط مأساوياً ودموياً ووحشياً إنما هو كل ذلك، مع بقاء حراس الموت اليومي وهم يواصلون إنهاء شروط الحياة للكافة لتظل فئة قليلة تنعم بالسلطة والنفوذ والثروات. والبقية الباقية القليلة الضعيفة المشتتة (في الداخل) عند الحد الأدنى من كل شيء، الماء، الطعام، الكهرباء، الصحة، التعليم.

في ظل هذا النزاع الهمجي الذي قادته حكومة دمشق وحلفاؤها كل من روسيا وإيران، فإن الحراك السلمي السوري انحرف إلى حرب أهلية طاحنة، بينما نجح الطرف الأول في أن تتمخض الثورة عن صورة ربما تفوق وحشية جرائم السلطة البعثية، حتى تختلط الأوراق ببعضها، ويجد “بشار الأسد” الحجة لتبرير آلة القتل والقصف والبراميل المتفجرة التي لا تتوقف عن حصد ضحاياه.

تشكيل المعسكرات ووفرة التسليح والمال بين عدة مجموعات وبعضها قوى متشددة، حيث اضطلع النظام ذاته في دمشق بتأهيلها لهذا الدور، خلق معه خطاب/ات، حاولت أن تملك سردياتها وتحتكر رواية الأحداث في “الثورة” وتكون هي لسان التاريخ والمستقبل. وانتقلت عدوى إعلام “لونا الشبل” للمعارضة باختلافاتها وتنوعاتها وحتى فوضويتها. فالإعلام الرسمي بدمشق هو ذاته مع المعارضة من حيث ارتكازه على فكرة “الصوابية” ونبذ تلقائي وفج للأفراد بعد تصنيفهم في دائرتي الخير والشر.

ردود الفعل على بسام كوسا

ذلك ما يمكن أن ينطبق على ردود الفعل بشأن حلقة الفنان السوري بسام كوسا مع منصة “المنتدى“. إذ إن كافة المحاولات التي سعت للاشتباك مع حديثه تقريباً لم تتحمل أو تتجاسر على الوقوف أمام ما قاله وتتمعن في حديثه، فقط حديثه، بما فيه من مواقف وأجوبة على نقاط بعينها وأحداث محددة، لتقييمها، ومن دون إغفال أو إهدار عدة أمور من بينها الميراث الفني الذي ساهم فيه وشكّل ذاكرة سوريين، وفيه الغث والثمين كعادة أي شيء.

فالهجوم الذي طاول كوسا من فريق ما يمكن تصنيفه بأنه المعسكر الثوري، اعتمد على ردّ فعل انفعالي مباشر نتيجة انطباع بأنه ليس الفنان السوري جمال سليمان الذي اتخذ في لحظة ما الموقف المعادي لسلطة بشار الأسد والبعث وهذا على سبيل المثال، بمعنى أن الأول تورّط في مواقف تبدو مهادنة في أحسن الأحوال أو مؤيدة، بل له سوابق في لقاء جمعه مؤخراً مع فنانين آخرين ببشار الأسد.

بالتالي، فإن تفكيك ما قاله بسام كوسا، هو الأهم بغض النظر عن فكرة التشنيع السريع والذي نجح بذكاء لافت أن يتهرّب منه ويحوله إلى نقطة في صالحه، وهي نقطة يضيفها لتكتيكات حكومة دمشق، على اعتبار أن المعارضة تتخفى وراء دعاية ساذجة وسطحية وتنعم في رغد الحياة بالعواصم الأوروبية ولا تكفُّ عن تدشين كفاحها الثوري خلف شاشات اللابتوب أو الموبايل. 

المعارضة وقوى الثورة التي لم تحافظ على تماسكها ووحدتها وتطوير خطابها في مراحل عديدة بينما ما تزال الأزمة تعاني معضلات جمة، سقطت في أفخاخ النظام بدمشق المرة تلو الأخرى، وآخرها الحرب الإعلامية. لعبة بسام كوسا التي حرص على تمريرها للمشاهد بشكل خادع ومخاتل مفادها أن هناك طرف سوري يزعم “الثورية” يريد محو طرف سوري آخر (تكرار لعملية عسكرة الثورة للتشويش على جرائم الأسد ميدانياً) لمجرد الاختلاف السياسي والخصومة المؤقتة. فضلاً عن المزايدة بشأن البقاء في البلاد، وهي النقطة التي استغلها الفنان السوري ليقول أنا “شجاع” ولم أهرب أو اختار النضال من الخارج وهدم البلاد إنما هو يلحّ على الإصلاح من الداخل.

تناقضات وتخبط

فمن بين ما ردّده الفنان السوري ليؤكد ثقته في ذاته، وإمكاناته وقدراته على المعارضة من دون أن يهتز له جفن، مع العلم أن آخرين تهدمت منازلهم ومضوا عقود في أقبية التعذيب الجهنمية لمجرد موقف سياسي كان حقيقياً وليس مصنوعاً كأداء على مسرح النظام ووسط حرّاسه ينتهي أثره بانتهاء العرض، أن وصف الوضع بـ”مرعب”، لافتاً إلى وجوده في الصف الأول لمنتقدي الحكومة التي تعاني من “الفساد والمحسوبيات”.

وحتى يعفي نفسه من الحديث عن الارتزاق السياسي ألمح إلى شقائه للحصول على منزل بعد نصف قرن وبالتقسيط، رغم حديثه عن “الاكتفاء الذاتي” والوضع الاقتصادي المرتفع لبلاده، بما يحمل تناقضات وتخبط نتيجة أن جملة من آرائه لا تركن إلى مرجعية سياسية بقدر ما هي دعائية ترويجية. 

وقال: “خلال الأزمة هناك أناس هربوا من الضرب والقصف وخوفاً على عائلاتهم وأطفالهم، وهناك أناس لديهم موقف سياسي من الحكومة والنظام”. وقال إن “جميع مع غادروا البلد معهم حق، ولكن اعتراضي على مسألة صغيرة تخص بعض الذين غادروا البلد، رغم أن خروجهم ومعارضتهم السياسية مبررة، إلا أنهم خوّنوا كل من بقي في البلد. نحن لأننا بقينا هنا تم تخويننا”. 

وتابع: “البعض يقولون إننا تربية الأمن والبعض الآخر يقول السلطة وغيرها كثير، وهذا معيب فأنا رجل احتاجَ 50 عاماً ليتمكن من شراء بيت بالتقسيط، يعني فليخجلوا من أنفسهم قليلاً، فأنا أعمل عن 4 أشخاص ولم أطرق باب أحد ولم آخذ أي استثمارات ولم أقبل بالتوظيف ولم آخذ أي مناصب… مع ذلك أنا لا أستشرف على غيري بل أقول إنني قادر على العمل”.

لا يمكن بطبيعة الحال القبول بما روّج له بسام كوسا علانية أو مرره بشكل خفي و مستتر، وهي تخدم بشكل أساسي ومباشر دعاية وسياسات سلطة دمشق، مثل أن إسرائيل هي سبب المشكلات بالمنطقة، وهي التي تفجّر الأزمات والصراعات.

ويكاد ما ذكره بسام كوسا، لا يحمل أي قدر من الحقيقة في ظل ما توثّقه الأرقام والإحصاءات فضلاً عن الشهادات الحية التي ما تزال تنبض أسى وجزع في معاناة مئات الآلاف من السوريين. أضاف لذلك الأوضاع المهمّشة التي عانت منها سوريا في قطاعات عديدة، لا سيما الزراعة وتحديداً بمناطق الجزيرة، فضلاً عن التخريب الاقتصادي المنظّم الذي قُبض عليه عدة شخصيات تتردد أسماؤهم همساً وكل منهم يحوز قطاع بعينه، الاتصالات والإنترنت وآخر “الكبتاغون”.. وهكذا، مع الأخذ في الاعتبار التضخم وارتفاع أسعار السلع وتضاعفها في العامين اللذين سبقا اندلاع الأزمة.

وإلى جانب الجرائم الاقتصادية لسلطة “آل الأسد” ومنها التوغل الإيراني في هذا بشكل واضح ومؤثر، فالجرائم الأمنية و الخروقات الحقوقية، فهي سجل حافل، تئن منه سوريا حتى اللحظة، بين مفقودين وقتلى تحت التعذيب ولاجئين في دول الشتات تعبث بهم الظروف غير الإنسانية ورمال السياسة المتحركة. 

انتقاد جميع الحكومات العربية

وفي حين اعتبر أن جميع الأفراد لديهم حرية أخذ المواقف كأنهم في سويسرا وقال”جميع خياراتهم مبررة”، فإنه طالب بأن “لا يجوز لمن اختار مغادرة البلد تخوين من بقي فيها لأنهم لم يتخذوا نفس قرارهم وفضلوا البقاء رغم الصعوبات”.

وذكر: “”أنا لست سياسياً ولا أدّعي ذلك، لكنني مواطن، والمواطنة هي الملكية أن يشعر الشخص بامتلاكه المكان والانتماء إليه، والحكومات العربية هي السبب وراء تراجع هذا الانتماء لدى مواطنيها، بسبب الفراغ السياسي الذي لم تعمل الحكومات على ملئه بين السلطات العليا والشارع وبين المواطنين ومن يدير شؤونهم، لطالما كان هناك فراغ، والآن نحن نغوص في الوحل”.

لا يمكن بطبيعة الحال القبول بما روّج له بسام كوسا علانية أو مرره بشكل خفي و مستتر، وهي تخدم بشكل أساسي ومباشر دعاية وسياسات سلطة دمشق، مثل أن إسرائيل هي سبب المشكلات بالمنطقة، وهي التي تفجّر الأزمات والصراعات، كما أن التنمية في سوريا و”الاكتفاء الذاتي” ساهمت في التعجيل بالتخلص من هذا “النظام” الذي برأيه يشكل خطراً على القوى العالمية التي تريد حصار الإقليم اقتصادياً وتحويل البلدان إلى مجرد حلفاء وفي تبعية سياسية ومالية. 

ذلك النمط من الخطاب الأيديولوجي الذي درج عليه البعثيون ويشبه خطاب التيار الإسلاموي عن نهاية العالم التي تبدأ بمخطط وظواهر كبرى وصغرى، وهنا في خطاب البعث يكون الأفول بتهاوي البلدان المركزية بالمنطقة مثل العراق ثم سوريا يجعل سلاح النظام بحق مواطنيه لإبادتهم شرعياً طالماً يحمي “الفئة الناجية”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات