في ظل استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا، يعمل حلف “شمال الأطلسي” (الناتو) على تعزيز آليات الدفاع عن الدول الأوروبية، وهذا ما بدا واضحاً في إعلان الولايات المتحدة، على هامش قمة الحلف -التي عُقدت في واشنطن بين 9-11 من الشهر الجاري- عن نشر صواريخ بعيدة المدى في ألمانيا، يمكن أن يصل مداها الأراضي الروسية، الأمر الذي اعتبرته موسكو تهديداً مباشراً لها. 

“البيت الأبيض” أعلن في الذكرى الـ 75 لتأسيس حلف “شمال الأطلسي” (الناتو)، أن الولايات المتحدة تعتزم نشر صواريخ جديدة في ألمانيا اعتبارا من العام 2026، تكون أبعد مدى من المنظومات الأميركية الموجودة حالياً في أوروبا.

وبحسب بيان مشترك للرئاسة الأميركية مع الحكومة الألمانية، فإن “هذه القدرات المتقدمة ستظهر التزام الولايات المتحدة تجاه حلف شمال الأطلسي ومساهمتها في الردع الأوروبي المتكامل”.

سبب قلق روسيا 

الأسلحة ستشمل في نهاية المطاف صواريخ SM-6، وصواريخ “كروز”، “توماهوك”، وأسلحة تطويرية تفوق سرعتها سرعة الصوت، وفق البيان، الذي أشار أيضاً إلى أن عمليات النشر الدورية ستكون بمثابة إعداد لتمركز دائم لهذه القدرات في المستقبل. 

وبحسب ما ذكرت “نيويورك تايمز” نقلا عن مسؤول عسكري أميركي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته، فإن الأسلحة ستشمل قاذفة جديدة تسمى “Typhon”، وهي عبارة عن حاوية شحن معدّلة يبلغ طولها 40 قدما يمكنها إخفاء ما يصل إلى 4 صواريخ تدور للأعلى لإطلاق النار.

التوتر الروسي كان واضحاً في ردة فعل موسكو وتهديداتها، بينما سارعت إلى إجراء مباحثات هاتفية مع واشنطن على وقع إعلان “البيت الأبيض” نشر الصواريخ، التي تتطلع الولايات المتحدة إلى تمركزها بشكل دائم في ألمانيا. 

أيضا، لوّح “الكرملين”، باستهداف عواصمَ أوروبية، إذ قال المتحدث باسمه، دميتري بيسكوف، إن لدى موسكو قدرات كافية لردع هذه الصواريخ. لكن عواصم هذه الدول الأوروبية من المحتمل أن تكون الضحية، واتهمت موسكو “الناتو” بالتصعيد، حيث نقلت وكالة أنباء “تاس” الروسية الرسمية عن نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، القول: سنعمل على إعداد ردّ عسكري بالدرجة الأولى على ذلك، من دون توتر عصبي أو انفعال.

وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف، هو الآخر سارع إلى الحديث مع نظيره الأميركي لويد أوستن، إذ ناقشا احتواء “خطر تصعيد محتمل”، بحسب ما أفادت وزارة الدفاع الروسية بعد يومين من الإعلان، التي أشارت في بيان، إلى أن المكالمة جاءت بمبادرة من موسكو و”تمت خلالها مناقشة قضية تجنّب التهديدات الأمنية واحتواء خطر تصعيد محتمل”.

زعماء “الناتو” خلال انعقاد القمة في واشنطن 9 يوليو 2024 – (د.ب.أ)

بحسب المحلل العسكري والاستراتيجي نضال أبو زيد، فإن طبيعة الصواريخ المتوقع نشرها في ألمانيا أثارت قلق موسكو، موضّحا أن “توماهوك” من عائلة الصواريخ بعيدة المدى، التي تُطلق من الغواصات وسطح البحر والأرض والجو، إذ لدى الولايات المتحدة الكثير من الفئات تختلف بشكل رئيسي من حيث نوع الرأس الحربي والحد الأقصى لمدى الطيران، ونوع نظام التوجيه، ويصل مدى الصاروخ إلى 2500 كيلومتر.

“المسافة من ألمانيا إلى الأراضي الروسية (عدا عن كالينينغراد) تبلغ  نحو 1200 كم، الأمر الذي يفسّر سبب الانزعاج الروسي من الخطوة الأميركية والذي دفع موسكو للحديث هاتفيا مع واشنطن في محاولة لوقف التصعيد وعدم الانزلاق نحو تصعيد في حدة الخطاب الإعلامي”، أضاف أبو زيد في حديث لـ “الحل نت”.

يتفق في ذلك المحلل السياسي والباحث في الشأن الروسي ديمتري بريجع في حديثه لـ “الحل نت”، إذ قال إن موسكو تعتبر أن نشر الصواريخ في ألمانيا عبارة عن تهديد لوجود روسيا لإمكانية استهداف أراضيها والجيش الروسي في مناطق مختلفة وتعزيز للنفوذ الأميركي الذي يعزز من مكانته أيضا من ناحية وجوده العسكري في عدة دول، بينما لدى روسيا أيضا طموحات بوجودها في القارة الإفريقية وفي منطقة الشرق الأوسط. 

العودة إلى الحرب الباردة

القرار الأميركي جاء بعد نحو 5 سنوات من إنهاء معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية المتوسطة المدى البرية، بعد أن فسختها الولايات المتحدة بدعم من شركائها في “الناتو”، معتبرة أن روسيا انتهكت المعاهدة بنشر نظام الصواريخ متوسطة المدى “ssc 8”.

بحسب الخبير نضال أبو زيد، فإن هذه الخطوة أزعجت الجانب الروسي لأنه اعتبرها عودة للحرب الباردة في مشهد يعيد إلى الأذهان أيضا مشهد الصواريخ السوفيتية التي نشرت في كوبا عام 1962.

إذ إن “الكرملين،” حذر من أن عزم الولايات المتحدة على أن تنشر في ألمانيا بصورة دورية صواريخ بعيدة المدى سيؤدي إلى مواجهة بين روسيا والغرب على غرار ما كان عليه الوضع خلال “الحرب الباردة”، إذ قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف للتلفزيون الرسمي، إن لدى روسيا القدرة الكافية لاحتواء هذه الصواريخ، لكن الضحايا المحتملين هم عواصم هذه الدول الأوروبية، إذ تحدث بيسكوف عن “مفارقة” في أن “أوروبا هي هدف لـ صواريخنا، وبلادنا هدف للصواريخ الأميركية في أوروبا”، في حين أشار نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف، إلى أن موسكو ستطوّر ردّا عسكريا على مثل هذه الخطط بطريقة هادئة، دون شد أعصاب وانفعالات.

الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كانت في أواخر السبعينيات، حيث نشر الاتحاد صواريخ باليستية متنقلة ومتوسطة المدى ومسلّحة نوويا، والمعروفة باسم SS-20s أو “بايونيرز”، على مسافة قريبة من عواصم أوروبا الغربية والمنشآت العسكرية، مما أدى إلى أزمة صاروخية في قلب أوروبا، فيما ردت الولايات المتحدة بنشر صواريخ “بيرشينج 2” الباليستية ذات القدرة النووية في أوروبا الغربية، بالإضافة إلى قاذفة متنقلة محمولة على شاحنة تسمى صاروخ كروز الأرضي.

 مع عدم التوصّل إلى اتفاق، استمرت عمليات النشر، مما أثار احتجاجات كبيرة واستياء في ألمانيا الغربية، التي كانت في ذلك الوقت على الخطوط الأمامية للحرب الباردة. ولم تهدأ الأزمة إلا بعد توقيع الرئيس رونالد ريغان، والزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، على معاهدة القوى النووية متوسطة المدى في عام 1987.

وأزالت الاتفاقية الأسلحة من أوروبا، وحظرت الصواريخ النووية والتقليدية التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كم؛ وظلت المعاهدة سارية حتى انسحبت إدارة ترامب منها في عام 2019، بسبب انتهاكات روسيا.

استراتيجية ردع أميركي 

رغم هذه التصريحات والتهديدات الروسية بتوسيع دائرة الحرب، إلا أن الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ قرارها، إذ قال مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، جاك سوليفان للصحفيين في اليوم الأخير من قمة “الناتو”، في إشارة إلى الدول الأعضاء في الحلف التي يضم 32 دولة، إن “ما ننشره في ألمانيا هو قدرة دفاعية مثل العديد من القدرات الدفاعية الأخرى التي نشرناها عبر الحلف على مر العقود (…) ومن الواضح أن المزيد من قعقعة السيوف الروسية لن يمنعنا من القيام بما نعتقد أنه ضروري للحفاظ على التحالف قويا قدر الإمكان”.

بحسب أبو زيد، فإن “هذه الخطوة تأتي في محاولة من الجانب الأميركي استغلال تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا من أجل كسر توازن القوة في أوراسيا، وفرض استراتيجية الردع على شرق أوروبا للحد من محاولات التمدد الروسي هناك، لا سيما وأن واشنطن تعتبر أبرز عضو في حلف الشمال الأطلسي”. 

وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف – (إنترنت)

أبو زيد أوضح، أن واشنطن تريد من هذه الخطوة مقايضة موسكو بمحاولات التمدّد نحو إفريقيا وشرق أوروبا بالتحديد في أوراسيا، إلا أن الجانب الروسي قد يذهب بعيدا باتجاه استغلال نفوذه في آسيا لإزعاج الجانب الأميركي حيث تأتي الخطوة الأميركية ردّا على زيارة بوتين الى كوريا الشمالية وفيتنام، مما يشير إلى أن بوتين قد يذهب أيضا باتجاه تصعيد من نوع جديد ردا على الخطوة الأميركية من قبيل تشجيع كوريا الشمالية على الاستمرار بتجارب الصواريخ البالستية.

يأتي هذا بينما رحّب المستشار الألماني أولاف شولتز، على هامش قمة حلف شمال الأطلسي بقرار الولايات المتحدة نشر صواريخ بعيدة المدى بشكل منتظم في ألمانيا كخطوة لزيادة الردع ضد روسيا، حيث قال شولتز للصحفيين، إن “هذا جزء من الردع ويضمن السلام. إنّه قرار ضروري ومهم اتُخذ في الوقت المناسب”.

ماذا عن رد روسيا؟

إلى الآن لم يصدر عن موسكو أي ردّ فعلٍ على الأرض، وهذا يعود إلى عنصر المفاجأة الأميركي، لكنها أطلقت مجموعة تصريحات رسمية كان آخرها إعلان وزارة الخارجية الروسية، أنها لا تستبعد نشر صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية ردّا على نشر صواريخ أميركية في ألمانيا.

الباحث في الشأن الروسي ديمتري بريجع، يرى أنه ستكون هناك سياسة جديدة لموسكو، إذ قد تتجه لفتح وإبرام اتفاقيات شراكة عسكرية مع دول أكثر، إيران مثلا وكوريا الشمالية، فيتنام، الصين، والهند، إضافة إلى الدول التي لم تطبق عقوبات على الاقتصاد الروسي، بينما قد تزيد روسيا من تواجدها في دول القارة الإفريقية أيضا لتقييد المصالح الغربية، مثل ليبيا والنيجر ومالي وبوركينا فاسو، ويمكن إنشاء قواعد عسكرية أيضا.

“أعتقد أن نشر الصواريخ الأميركية قد يكون بمثابة رسالة تهديد، لذلك قد تعزز روسيا نشر صواريخها وتدريباتها العسكرية أيضا لاستعمال السلاح النووي كما فعلت مع بيلاروسيا في السابق والآن قد تفعله مع دول أخرى”، وفق بريجع.

في نهاية المطاف، فإن القرار الذي جاء بعد نحو 20 عاما من غياب الصواريخ الأميركية في ألمانيا، سيكون بلا شك بداية سباق لموجة تسليح جديدة، حيث ستسعى روسيا إلى تطوير ترسانتها العسكرية وإعادة نشر قواعدها بالاتفاق مع حلفائها، لكن هذه الخطوات لن تكون إلا بمثابة ردّ على الإعلان الأميركي فقط من دون توسيع دائرة الحرب في الوقت الحالي، خاصة أنها منهكة في ظل حربها على أوكرانيا، كما أن نهج موسكو في هذه المرحلة سيكون مرناً إلى حدٍّ ما مع واشنطن وستفتح باب المباحثات لتجنب الصدام. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات