تسلّم رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان، الأحد الماضي، أوراق اعتماد حسن شاه حسيني سفيراً ومفوضاً فوق العادة لـ إيران لدى السودان بعد ثمان سنوات من قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
واستقبل البرهان في مقرّ إقامته ببورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة السفير حسن شاه الحسيني، وتسلّم منه أوراق اعتماده وفقاً للمراسم المعتادة لاعتماد أوراق السفراء. فيما كانت الخرطوم قد قطعت في مطلع العام 2016 علاقتها الدبلوماسية مع طهران، وأمرت السفير الإيراني وقتئذ، شبيب جويجري، وطاقم السفارة بمغادرة السودان في غضون أسبوعين، وذلك تضامناً مع السعودية، بعد الاعتداء على السفارة السعودية في طهران وفي مواجهة ما سمّته بالمخططات الإيرانية، كما استدعت السفير السوداني في طهران.
السودان وإيران
وكيل الخارجية السودانية، حسين الأمين، في تصريح صحفي، عقب تسلّم أوراق اعتماد السفير الإيراني، قال إن البرهان “رحب بالسفير الجديد للجمهورية الإسلامية الإيرانية وأكد متانة العلاقات بين السودان وإيران”، معتبراً أن تقديم السفير أوراق اعتماده يُعد إيذاناً ببدء مرحلة جديدة في مسيرة العلاقات الثنائية بين البلدين.

من جانبه، قال السفير الإيراني إن تقديم أوراق اعتماده يأتي في إطار التوافق المشترك بين البلدين بشأن تبادل السفراء وترقية العلاقات الثنائية، وتعهّد ببذل قصارى جهده من أجل تعزيز علاقات التعاون بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والسودان، مؤكداً أن طهران تدعم السيادة الوطنية ووحدة وسلامة الأراضي السودانية.
كان من الثابت تاريخيا أن السلطات السودانية أغلقت المراكز الثقافية الإيرانية في البلاد بتهمة “التبشير بالمذهب الشيعي”، و أرجأت موظفيها مهلة زمنية بلغت 72 ساعة لمغادرة البلاد قبل نحو عشر سنوات، حيث كان أول مركز ثقافي إيراني افتُتح في السودان خلال العام 1988، إبان عهد حكومة الصادق المهدي المنتخبة، قبل الانقلاب الذي قاده حسن البشير.
ومع وصول حكومة البشير التي دعمها الإسلاميون للحكم في العام 1989، تزايد نشاط تلك المراكز وأعدادها، حيث تم افتتاح مركز “جعفر الصادق” ومركز “فاطمة الزهراء”، وتمددت تلك المراكز في مناطق الوعي في وسط السودان ونهر النيل وكردفان. غير أن التيارات السلفية في السودان استخدمت منابر المساجد حينذاك لمهاجمة وجود تلك المراكز ودورها البارز في نشر التشيع بين المواطنين وإقامة الاحتفالات الدينية سيما “عاشوراء” وذكرى ميلاد “الإمام الخميني” .
في هذا السياق يشير الباحث السوداني والكاتب الصحفي، صلاح خليل، إلى أن الخرطوم وطهران استأنفا علاقاتهما الدبلوماسية، بعد انقطاع للعلاقة بين البلدين منذ العام 2016، وتعود جذور الأزمة بين البلدين، إلى قطع الخرطوم علاقاتها مع طهران بسبب اقتحام محتجين إيرانيين السفارة السعودية في طهران.
في ذلك الوقت، تضامنت العديد من العواصم العربية العالمية مع المملكة العربية السعودية بما فيهم الخرطوم. وبناء على ذلك؛ اتخذت الخرطوم قراراً بإغلاق جميع “المدارس الحسينية” والمراكز الثقافية في جميع مدن السودان المختلفة، كما قامت بطرد الدبلوماسيين. أضف إلى ذلك مشاركة الخرطوم في عاصفة الحزم من أجل استعاد الشرعية في اليمن خلال العام 2015.
أسرار التقارب
بعد قرابة سبع سنوات، وبالتحديد في شهر تموز/ يوليو الجاري من العام 2024، دشّنت الدولتان مساراً جديداً في بداية مرحلة من العلاقات في ظل الأزمة السودانية الحالية، حيث ثمّة اصطفافات وتكتلات حيال الفواعل الخارجية في الأزمة السودانية.

أثبتت الشواهد والحديث للباحث السوداني صلاح خليل، الذي قال لـ”الحل نت”، بأن جميع دول جوار السودان كانت ولا زالت تقدم دعماً عسكرياً ولوجستياً لميليشيا “الدعم السريع” ما عدا جمهورية مصر العربية ودولة إريتريا. لذلك؛ جاء اعتماد جمهورية السودان، السفير حسن ساه حسيني سفيراً مفوضا فوق العادة لطهران، بعد انقطاع للعلاقة بين البلدين لسنوات.
يضيف خليل قائلاً: “يدرك المجتمع السوداني من خلال معظم تكتلاته السياسية، أن استقبال البرهان واعتماده سفير إيران في الخرطوم يُدخل البلاد في نفق إيران واستقطاباتها الحادة في الشرق الأوسط، دون اعتبار تجاربها المريرة في عدد من دول المنطقة في سوريا والعراق واليمن ولبنان، فضلاً عن كون السودان تعاني ويلات الاقتتال الداخلي وموجات الخروج القسري جرّاء الحرب الدامية، مما لا يصح معه الدخول في تحالفات تكتيكية تزيد من عمق المخاطر في البلاد وتقوض أي فرص للتسوية”.
داخلياً، كثير من السودانيين لا يرغبون في علاقات مع طهران كما كانت من قبل، نعم ربما اتفق جميع السودان على أن الاستفادة من العتاد العسكري الإيراني في ظل الأزمة الجارية في السودان. ولكن أيضاً يتّفق أغلب السودانيين، بأن طهران لا يمكن أن تقدّم دعما دون الحصول إلى مكاسب تتعلق بإعادة التموضع في المنطقة.
لكن وبحسب خليل، في المقابل لا ينبغي أن تكون عودة العلاقة بين الخرطوم وطهران، بمعنى استعادة أنشطتها السابقة في السودان مثل “المدارس الحسينية” والمراكز الثقافية ذات المسابقات ذات الجوائز الكبيرة كما حدث في السابق، نتيجة لرفض السودانيين فكرة التشيع، كما كانت أبان فترة تيار الإسلام السياسي حيث انتشرت في السودان “المدارس الحسينية”، مما نتج عنها صدمات شعبية في بعض المناطق التي ظهر فيها التشيع.
استقرار قديم
يلفت الباحث صلاح خليل إلى أن عودة العلاقات السعودية الإيرانية، دفعت طهران في السعي إلى استعادة علاقاتها مع القوى الإقليمية في المنطقة، وبالتالي عودة العلاقة مع السودان تأتي في إطار المناورة الإيرانية مع المجتمع الغربي.

يربط العديد من الباحثين السودانيين العام 2009 بظهور أول تجمّع شيعي سوداني علنياً، بإحدى مناطق العاصمة السودانية الخرطوم كنتيجة مباشرة لنشاط إيران المذهبي في السودان منذ مطلع التسعينات، وإشهار المراكز الثقافية الإيرانية والتحرّك بفعالية بين المواطنين لنشر التشيع وتبدل العمة الشهيرة للزي السوداني التقليدي ذات اللون الأبيض الناصع، للعمة السوداء بحسب زي رجل الدين الشيعي.
ثمة من يرى أن التناقضات التي تضرب نسيج المجتمع السوداني، لا تحتاج أيضاً لإضافة البعد المذهبي داخل بنية المجتمع المعروف بتوجهه السني، مما يسمح بمنسوب عال من المخاطر، فضلاً عن الفائض في هذا المعدل والذي يعيشه المجتمع والدولة خلال العامين الأخيرين.
من جانبه يشير الدبلوماسي السوداني جمال محمد إبراهيم، بقوله إنه ربما يبقى الحديث عن البعد المجتمعي مؤجلاً، إذ يصعب التكهن بمساراته واتجاهاته فالمجتمع السوداني الآن منقسم ومشتت بأكمله حول مآلات الحرب.
بيد أن أغلب السودانيين لا يرون الوقت مناسبا لعلاقات مع إيران. وهي محاصرة سياسياً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ولا نصير لها إلا الصين وعلاقة ملتبسة مع موسكو، الأمر الذي يعقّد من وضع إيران وكذا كون كافة تجارب إيران في المنطقة العربية تتحرك نحو إثارة الجانب المذهبي ونشر التشيع كما كان الأمر إبان العقود الفائتة.
يضيف السفير السوداني جمال محمد إبراهيم في تصريحاته لـ”الحل نت”، أن لإيران علاقات قديمة مع السودان، ترجع للسنوات الوسيطة من القرن التاسع عشر التي سيطر فيها الحكم التركي المصري على السودان، إلا أنها انحصرت في مبادلات تجارية في تلك السنوات البعيدة، ولم تتوسع وظلت العلاقات ضعيفة، حتى بعد أن نال السودان استقلاله عام 1956. في أعوام السبعينات من القرن الماضي تم تبادلا العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
بعد انقلاب الجبهة الإسلامية في عام 1989 على الحكومة المنتخبة في السودان، ووافق ذلك ثورة الخميني في طهران، فتوددت الخرطوم نحو طهران لإيجاد عون ومساعدات في جهود السودان للتنقيب عن البترول، خاصة وأن شركة “شيفرون” الأميركية قد أوقفت نشاطها في التنقيب عن البترول في السودان لأسباب تخص الاستراتيجيات الأميركية.
كما اصطدمت إيران بعقبة ديون مليونية تراكمت منذ أعوام السبعينات فلم تجد الجهود السودانية لإعفاء تلك الديون استجابة من الجانب الإيراني، والذي اتجه لتركيز علاقاته مع حكومة السودان على نواحي أخرى تعليمية تتصل بنشر العقيدة الشيعية، وأيضاً على نواحي سياسية عسكرية، تتصل بما يوصف عند أطراف دولية عديدة بـ “الارهاب الدولي”.
يتابع الدبلوماسي السوداني جمال إبراهيم، أن تورّط السودان في الإرهاب الدولي، تهمة جاءت من بوابة العلاقة مع إيران، فشهدت سنوات التسعينات تورط نظام البشير في شواهد جلبت له غضب دول أوروبية وغربية عديدة، خاصة من طرف الولايات المتحدة الأميركية.
وهكذا بعد أن عانى السودان من عزلة دولية مرهقة، وصلت إلى حدّ ملاحقة رئيسه من قبل المحكمة الجنائية الدولية عام 2009، بدا مبادرة لكسر طوق تلك العزلة عبر تحسين وتطبيع علاقاته مع الغرب والولايات المتحدة والأخيرة هي التي فرضت عقوبات قاسية على السودان. كانت أحد شروط الحـوار السوداني الأميركي، التخلص من شبهات العلاقات مع إيران.
ووصلت استجابات نظام البشير إلى محطة قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 2016. بمبرر التدخل في أمور داخلية ومساعي مريبة لنشر الفكر الشيعي.
مصالح خفية
في الظرف الماثل حالياً والحرب الطاحنة التي تدور في السودان، بين القوات المسلحة ومليشيا “الدعم السريع”، فقد مالت حكومة الأمر الواقع في السودان إلى السعي للحصول على مصادر للأسلحة والذخائر، خاصة بعد استيلاء المليشيات على مجمل دوائر ومواقع التصنيع الحربي في السودان فأعلنت تلك الحكومة استئناف العلاقات الدبلوماسية مع إيران.
إن عودة العلاقات بين البلدين ستعنى عند طهران بداهة، إحياء الأجندة الإيرانية والسودان في أضعف أحواله: التمركز عسكرياً في السواحل السودانية، وإحياء جهود نشر الفكر السياسي والشيعي الموالي لملالي إيران، مقابل سخاء في التعاون العسكري لتقوية حكومة الأمر الواقع التي يقودها قائد الجيش الفريق البرهان في صراعها مع المليشيا المتمردة.
ويختتم الدبلوماسي السوداني جمال محمد إبراهيم تصريحاته التي خصّ بها “الحل نت”، أن دخول إيران في تقديرنا، سيزيد المشهد في حرب السودان تعقيداً على تعقيد، ولن يكون أمام المليشيا التي تقاتل القوات المسلحة، إلا اللجوء للحصول على المزيد من السلاح ومن أطراف خارج السودان للحفاظ على تفوّقها العسكري على الجيش الرسمي الذي فقد السيطرة على معظم ولايات البلاد.
الرقم الإيراني لن يغفل عن أجنداته، فها هي “العلاقات الدبلوماسية تعود مع السودان، ولكن هل يكون لطهران أي دور في الجهود الدولية والإقليمية المتعثرة لإيقاف الحرب الدائرة في السودان، أو حتى أي بادرة لتقديم عون لضحايا تلك الحرب؟ فذلك أمر يبدو بعيد الوقوع، حتماً”.
- الهلال الأحمر الكُردي يجهز قافلة مساعدات لأهالي الساحل السوري
- أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع
- ليس هناك شيك على بياض للسلطات الجديدة في دمشق
- هل يساعدنا التحليل النفسي على فهم السياسة السورية؟ نور حريري وسامي الكيال
- مظاهرة أمام البيت الأبيض تضامناً مع ضحايا أحداث الساحل السوري
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

اضطرابات الساحل السوري: صراع نفوذ إقليمي أم محاولات لبعث الفوضى؟

بدء المرحلة الثانية من العملية العسكرية في الساحل.. وألمانيا ترفض محاولات زعزعة الاستقرار

سياسات الشرع الخارجية في عالم متغير وشرق أوسط جديد.. هل تحددت أطرها؟
الأكثر قراءة

وصول نحو 7 شاحنات قيل إنها محمّلة بالأموال إلى “مصرف سوريا المركزي”

هنا يتمركز الجيش الإسرائيلي في القنيطرة.. كاميرا جوية تفضح وجوده

هل رمم السيف الدمشقي ببلاستك؟ جدل حول أشهر معالم دمشق

هجوم على مسلسل “بالدم”.. واتهام الكاتبة بسرقة الفكرة من قصة فتاة لبنانية!

نادين نجيم تشيد بمسلسل تيم حسن وكاريس بشار.. ما تفاصيل فيلمها الجديد؟

من قلب حمص: جولة في شوارع وأسواق حي “بابا عمرو”
المزيد من مقالات حول في العمق

أحداث الساحل ومشاركة دمشق بمؤتمر بروكسل.. خطوة غربية للوراء لتحديد مسار سلطة الشرع

سوريا الجديدة تبدأ من الشمال الشرقي: مسار تكتيكي أم اتفاق تاريخي؟

تهريب الأسلحة من إيران إلى القرن الإفريقي: توظيف “الحوثيين” لدعم تنظيم “القاعدة”

ضباط الأسد في موسكو: هروب تكتيكي أم مناورة روسية؟

اضطرابات الساحل السوري: صراع نفوذ إقليمي أم محاولات لبعث الفوضى؟

مجازر الساحل السوري.. مصير قاتم بين دوامة العنف والطائفية

مجازر الساحل السوري.. شهادات مروعة وأرقام مأساوية لـ “الحل نت”
