تمثل إيران كنموذج رئيسي لدولة تسعى نحو توظيف الجانب العقائدي والمذهبي في الدول ضد استقرارها الداخلي، وخصم مؤشر إدارة التنوع من رصيدها الاستراتيجي. وفي ذات السياق تتحرك نحو تمرير ذلك كقوة مسلحة في صراعاتها الإقليمية وفرض توجهاتها التكتيكية مع القوى الفاعلة دولياً، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية.
بل وتسعى إيران لمدّ حالة الاستقطاب الديني وتثوير معتقداته الطائفية، لبسط كافة مفرداته على الوضع الميداني في أكثر من نقطة جغرافية في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا والعراق واليمن ولبنان. ومن خلال ذلك، تتحرك طهران لحشد القوى المذهبية “الشيعية” نحو مساحة جغرافية سياسية، تتسم بالبُعد العقائدي في العراق من خلال تحرّك جماعاتها الولائية في اليمن ولبنان وسوريا في النقاط الساخنة بالعراق، ما يبرز معه تحديات أمنية وإقليمية مغايرة. فما القصة؟
اختفاء أم مخطط جديد؟
ما نتلمسه في تصريح عضو حركة “النجباء” العراقية مهدي الكعبي، الذي أعلن انتهاء هدنة الفصائل المسلحة مع القوات الأميركية، حيث كانت الحركة المنضوية ضمن “الحشد الشعبي” سبق وأعلنت في شهر شباط/فبراير الماضي وقف هجماتها ضد القوات الأميركية في البلاد.
الخطوة تأتي في سياق التحركات التكتيكية لرؤية طهران لعمل ونشاط جماعاتها الولائية بخفّة ونشاط، حسب تباين الأولويات وتبدّل الأهداف تبعاً للأوضاع الميدانية والترتيبات السياسية إقليمياً ودولياً، ويدعم ذات التوجه إعلان جماعة “الحوثي” فتح مكتب له بالعراق، فضلاً عن تلك الأنباء والتقارير التي تشير إلى اختفاء عدة آلاف من الباكستانيين أثناء حضورهم احتفال ديني للمسلمين الشيعة.
إذ من المعلوم أنه مع بداية كل عام هجري، يتوافد عدد كبير من المسلمين الشيعة، إلى الجغرافيا الدينية في العراق، ويوافق شهر محرم، من كل عام ذكرى إحياء عاشوراء ومناسبات دينية في النطاق الزمني ذاته، وفقاً لإحصائيات العام 2022، التي أشارت إلى مشاركة 21 مليون شخص، بينهم قرابة 6 ملايين من خارج البلاد، يتركز أغلبهم في منطقة كربلاء.
وبحسب قنوات إعلامية، فإنه منذ نحو شهر، فتح العراق أبوابه للزوار الأجانب للمشاركة في إحياء المناسبات الدينية، وكان من بين الوفود مواطنون من باكستان لم تصرّح السلطات العراقية بأعدادهم، لكن تقديرات صحف باكستانية تشير إلى أنهم يزيدون على مائة ألف.
هذه المناسبة الدينية فتحت الباب أمام تسلل أكثر من 50 ألف شخص من الجنسية الباكستانية إلى دولٍ تشهد توترات مسلحة أبرزها اليمن، والذي تشير مصادر صحافية إلى أن نسبة كبيرة من المرتزقة الموالين لإيران ذهبوا باتجاه العاصمة اليمنية صنعاء، وهو الأمر الذي يرجّح تزايد إرسال المرتزقة إلى اليمن.
قناة “الجمهورية” المحلية في اليمن، قالت، إن الأذرع الإيرانية سيّرت رحلة سرية برقم “IYE643” ، من صنعاء إلى العاصمة اللبنانية بيروت. بل إن مصادر يمنية قالت، إن مليشيات “الحوثي” تقوم بنقل قيادات عسكرية من “الحرس الثوري” الإيراني، وخبراء “حزب الله”، من وإلى اليمن، عبر جوازات سفر مزورة.
وفي ما يبدو أن إيران تسعى نحو الاستفادة البراغماتية من الاحتفالات الدينية والتغطية من خلالها على عملياتها الأمنية والتعبوية، بما فيها التجنيد والتعبئة، كما سبق وفعلت في سوريا بدعوى حماية العتبات المقدسة، وباشرت نحو تشكيل عدة قوى ميليشياوية انخرطت سريعاً في عسكرة الثورة وشنّ حربٍ همجية وتطويق الحراك بالطائفية والعنف والدموية، ولهذا تكرّر النسخة ذاتها غير أنها في العراق تقوم بتوسيع حضور عناصرها الميليشياوية لتنويع أدوارها العسكرية في ظل الضغوط الإقليمية منذ حرب غزة وتبعاتها.
والاعتماد على الباكستانيين يماثل ما سبق واعتمدت عليه طهران أو بالأحرى “الحرس الثوري”، عبر تعبئة أفراد من الطائفة الشيعية بباكستان في لواء “زينبيون” أو استغلال أوضاع الأفغان اللاجئين بإيران في لواء “فاطميون”، مع الأخذ في الاعتبار أن الميليشيا الأولى مصنّفة في باكستان كما بالولايات المتحدة على قائمة المنظمات الإرهابية.
جمع طوق النفوذ الإيراني
تصنع طهران حركة استقطابية طائفية عابرة للقارات وتقوم بتدوير الميليشيات الدموية بخلفياتها المذهبية المتشددة، وعتادها المسلح، وكأنها تلحّ على فكرة تعميم الصراع بنفس درجة تعميق مشروعها الطائفي المؤدلج وتطويق المنطقة به، ناهيك عن تأزيم مصالح خصومها إقليمياً ولدى الغرب والولايات المتحدة.
فالتحشيد العسكري الطائفي وانتقالاته بين صنعاء وبغداد في التوقيت الدقيق والحساس مع تطورات الحرب في غزة، لا يعني سوى تكريس فواعل جُدد بالمنطقة لحماية المشروع الإيراني، وتشكيل بدائل جاهزة على الانخراط في الصراع ومواجهة عدة تكتلات تسعى لمواجهة النفوذ الإيراني، أو استعادة السيادة في البلدان التي اختطفها هذا الجسد الطائفي المشبوه والمسلح، وسلطة الأمر الواقع.
تتقاطع وتتفاعل مدارات العمل السياسي والفعل الميداني لتعميق وتثبيت النتائج المرجوة والأهداف المحسوبة بعناية. وتأتي دقة تحقق ذلك من خلال مرونة العمل المشترك بين المجالين والمساحات الفاعلة التي يستطيع كل منهما التحرك بنجاح في مهامه المحددة.
تعي إيران أن حشد أذرعها الممتدة في جغرافيا الشرق الأوسط والتي تقترب بعضها من دول التنافس وتتماس في بعضٍ آخر مع دول الصراع، وتطل في أخرى على ممرات دولية يسمح لها بكثير من المرونة التكتيكية في صياغة أهداف استراتيجية، كما يمكّنها ذلك في أوضاع استثنائية وطارئة أن يمثلوا جميعاً منصات متّحدة تنطلق من خلالها عمليات ميدانية تجابه خطط سياسية.
ويبدو ملامح تشكّلها في حدّ ذاته خطّاً أحمر يعطل تطور تنفيذها سيما مع تطور الأحداث مرة تلو الأخرى منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وارتفاع درجة التوتر على أكثر من محور ونقطة جغرافية تتصل بجماعات إيران الولائية سواء في اليمن أو العراق أو لبنان أو سوريا أو ما جرى في طهران نفسها، الأمر الذي يعزز من فكرة تحشيد ولاءات إيران المذهبية والعسكرية في نقاط جغرافية متقاربة تمكّنها من التحرّك المرن وقت تنفيذ التعليمات والأوامر الإيرانية.
إذاً، يبدو أن أوضاع المنطقة عموماً تمثّل بيئة خصبة وفرصة مواتية لإيران، لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة، وتمكين العلاقات بين جماعاتها وأذرعها العسكرية، وتعزيز ترابط هذه الجماعات من خلال شبكة قوية واستغلال مختلف الظروف، ما يمكن أن نسميه الفرص السانحة والتي تحصل في المنطقة حيث توظيف جميع ما يتاح لها لتنفيذ هذا المخطط وتعزيز هذا الترابط.
من ذلك مثلاً يمكن أن نشير إلى أن الميليشيا “الحوثية”، استغلت اتفاق خفض التصعيد بينها والحكومة الشرعية في اليمن لفتح مطار صنعاء، الذي تسيطر عليه الميليشيات وتسيير طائرة من خطوط النقل وخطوط الجوية اليمنية إلى مطار بيروت في رحلة لم تكن مجدولة.
وهذه الرحلة هبطت في مدرجٍ كان يستخدمه القائد السابق لـ”الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني، وهي رحلة على ما يبدو مشبوهة؛ لأن الخطوط اليمنية أو الطيران اليمني ليس لديه أي رحلات إلى مطار بيروت منذ ما يقارب العشر سنوات.
وهذه الرحلة ربما تكون حملت قادة عسكريين سواء من “حزب الله” أو قادة عسكريين عراقيين أو خبراء أو ما شابه إلى صنعاء، لتأمينهم من أي هجمات إسرائيلية محتملة لاستهدافهم.
استعداد لمعركة مصيرية
على أية حال، لا يمكن عزل كل تلك الأحداث عن رؤية إيران في تمتين شبكة علاقاتها مع كل ميليشياتها في المنطقة، وتنويع أدوراها السياسية والميدانية سواء في بيئاتها المحلية، ونطاقها الإقليمي، بحسب بنك أهداف طهران الاستراتيجي، داخل محيط عملها الإقليمي، وكذا دوائر التحالف والصراع والمنافسة مع القوى الإقليمية، تركيا، والدولية، روسيا وأميركا. صعب أن تغادر تلك الفكرة ذهنك مع الإعلان الرسمي لجماعة “الحوثي” فتح مكتب رسمي لهم في العراق، رغم وجود النشاط البيني مع الجماعات الشيعية في العراق سابقاً. بيد أن الإعلان الرسمي يحمل دلالات هامة وقوية نحو تأطير خارطة طريق جديدة في تلك الجغرافيا وما يحيط بها من دوائر إقليمية خاصة مع تركيا، ويمتد نحو ضغط إيران على حضور القوات الأميركية في العراق.
هذه المناسبة الدينية فتحت الباب أمام تسلّل أكثر من 50 ألف شخص من الجنسية الباكستانية، وذلك إلى دولٍ تشهد توترات مسلحة أبرزها اليمن الذي تشير مصادر صحافية إلى أن نسبة كبيرة من المرتزقة الموالين لإيران ذهبوا باتجاه العاصمة اليمنية صنعاء، وهو الأمر الذي يرجح تزايد إرسال المرتزقة إلى اليمن، بل قالت مصادر يمنية إن مليشيات “الحوثي” تقوم بنقل قيادات عسكرية من “الحرس الثوري” الإيراني، وخبراء “حزب الله”، من وإلى اليمن، عبر جوازات سفر مزورة.
وقبل أيام أعلن وزير الشؤون الدينية الباكستاني، شودري سالك حسين، خلال اجتماعٍ مع اللجنة الدائمة للشؤون الدينية والوئام بين الأديان في برلمان بلاده، عن اختفاء 50 ألف باكستاني في العراق، منهم من دخل البلاد مؤخرًا لإحياء مناسبات دينية خلال الموسم الحالي، دون أن يحدد النطاق الزمني الذي اختفى خلاله العدد الكامل.
وقالت الحكومة العراقية إنها فتحت تحقيقاً موسّع حول مزاعم وزير الشؤون الدينية الباكستاني. كما أبدى وزير العمل العراقي أحمد امتعاض وزارته من تزايد العمالة الباكستانية غير القانونية في البلاد، وذلك في تعليق على التصريحات الباكستانية.
ورجّح أن يكون المتسربون من الزيارات الأخيرة قد هربوا بهدف العمل غير القانوني، معلنًا أن وزارته فتحت تحقيقًا مستقلّاً في الموضوع. على إثر هذه التصريحات، أعلنت الداخلية العراقية القبض على عشرات الباكستانيين المقيمين بشكل غير شرعي في البلاد، منهم من دخل بشكل شرعي وهرب، ومنهم من دخل بشكل غير شرعي.
كل ذلك يثير عديد التساؤلات حول سياق حشد تلك الجماعات في نقطة جغرافية محددة ذات طبيعة معقدة سياسياً ومذهبياً، خاصة أن العراق يشهد بروز إقليم سنّي سيتم الاستفتاء عليه خلال نهاية هذا العام، والذي سيمثل جداراً عازلاً أمام نفوذ إيران الإقليمي، سيما أن منسوب التوتر بين “حزب الله” وإسرائيل لن يظل قيد معادلة الردع الاستراتيجي، واحتمالات الخروج عن دوائر الاشتباك المتزن والمحسوب، ليست ببعيدة ولا مستحيلة.
- الفن وفوبيا الدين في مصر: ما دور “الإخوان”؟
- قضايا احتيال تطاول نائب وزير الدفاع الروسي السابق.. هؤلاء أبرز جنرالات بوتين الفاسدين
- نضال الأحمدية: مافي سوريا وشعبها ما عندو شي وبيسرق!
- التطبيع بين دمشق وأنقرة: طريق وعر أمام أردوغان في ظل تريث الأسد
- تصدع بين الجناحين السلالي والقبلي في جماعة “الحوثي”.. ما علاقة الرزامي؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.