في هذه المادة سنسرد خطاب حركات الإسلام السياسي الذي تبني من خلاله توجهات أتباعها وتمثلاتهم. وعندما نقول تمثلات فإننا سنتبين ملامحها الأولية مع دراسات ‏الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي، إميل دوركايم، الذي فرق بين التمثلات الفردية والتمثلات الجمعية باعتبارها الأكثر تواجداً داخل الأنساق المجتمعية، وذلك لأنها تمثل إدراكاً منسجماً ومشتركاً بين أعضاء الجماعة الواحدة، إذ يرتبطون بعدة وسائل أهمها اللغة لأنها أداة للتواصل فيما بينهم، وبها تقوى روابطهم ويحافظون عليها بإنتاج معارف جماعية تتوارث عبر عدة أجيال تجعل من الأفراد ذوي السمات  الاجتماعية المشتركة محل ضبط والتزام، وهو ما يجعل التمثلات الاجتماعية غير قابلة للتغيير لارتباطها بالوعي المجتمعي الذي يستمد قوة حضوره من قوة المجتمع واتحاده.

ولهذا فالتمثلات من هذا المنطلق تتعالى عن الأفراد لأنها نتاج جماعي لعدة أجيال هدفها الأساسي الحفاظ على المقومات الاجتماعية التي تقوي الروابط وتحافظ عليها من خلال إنتاج قوانين عامة داخل المجتمع مما يضمن استمراريته.

وبالتالي يعرفها دوركايم بـ”أنها ظواهر تتميز عن باقي الظواهر في الطبيعة بسبب ميزاتها الخاصة.. بدون شكّ فإن لها أسباباً وهي بدورها أسباب إن نتاج التصورات لا يكون بسبب بعض الأفكار التي تشغل انتباه الأفراد ولكنها بقايا لحياتنا الماضية، إنها عادات مكتسبة، أحكام مسبقة، ميول تحركنا دون أن نعي، وبكلمة واحدة إنها كل ما يشكل سعادتنا الأخلاقية”.

ومن هنا نستنتج أن التمثل أو التصور هو عبارة عن معرفة اجتماعية مرتبطة بمفهوم التنشئة الاجتماعية الذي ينجر عنه البناء الاجتماعي بما يحمله من ظواهر، ولذلك حرص دوركايم من خلال بحوثه على إثبات أن التمثل والوعي مرتبطان بل متلازمان لا يمكن تعريف الأول إلا في ظل وجود الثاني، وبالتالي لا يخيل أي تصور بدون وعي، وحسب رأيه فإن التمثلات الجماعية هي أكثر استقراراً من التمثلات الفردية.

مشاركة المرأة بالقرار السياسي مجرد “دعاية”

ولذلك راهنت حركات الإسلام السياسي في خطاباتها على الحشد الشعبي وتكوين قاعدة أتباع تمتاز باستمرار جيل متشبع بتمثلاته السياسية والدينية. ويرى بعض الباحثين في هذه الحركات الإسلاموية أن ازدواجية خطابها فيما يتعلق بتوظيفها للدين في السياسي صنع نوعاً من الغلو والتشدد الفكري تحول لاحقاً إلى تطرف وإرهاب خاصة منذ سبعينات القرن الماضي إلى حدود قيام أحداث “الربيع العربي” التي شكّلت فرصة لإعادة بناء خطاباتها متبنية فكرتي الحرية والديمقراطية التي كانت تنكرها في الماضي، لكن مع المحافظة على التأصيل (أي التمسك بالمرجعية الدينية كأصل للحكم). 

زعيمة “الحزب الدستوري الحر” بتونس، عبير موسي خلال تجمع سياسي-“أرشيف/ رويترز”

وعلى سبيل المثال نجد أن حركة “النهضة” التونسية اتسمت ما بعد الثورة بتونس بمرونة خطابها السياسي وانفتاحها على الشأن السياسي والاجتماعي، “وصلت إلى حد التقاطع مع الطروحات العلمانية والليبرالية وما سواها من أفكار العالم المعاصر”، ومن بين هذه الأفكار والتي كانت تناهضها في بدايتها هي تشجيع المشاركة السياسية للمرأة، مما أدى إلى تمتعها بامتيازات سياسية لم يسبق لها التمتع بها في ظل نظام زين العابدين بن علي، ففي كل الانتخابات التي نظمت بين 2011 و2019 نصت القوانين المنظمة لها على تشكيل القوائم بالتناصف والتناوب بين الجنسين في إطار نظام “الكوتا”، وبفضل هذا القانون حصلت التونسيات على 49 مقعداً في المجلس التأسيسي 2011 (29 بالمئة من جملة المقاعد) ثم 72 مقعداً في تشريعيات 2014 (31 بالمئة) و57 مقعداً في تشريعيات 2019 (نسبة 26 بالمئة). 

كما ويذكر أنها حصلت على 47 بالمئة من المقاعد في بلديات (أي المحافظات) 2018، هذا وقد تقلدت العديد من السيدات في فترة حكم الإسلام السياسي، أي حركة “النهضة” الإسلاموية، مناصب وزارية كوزارة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السنّ، ووزارة البيئة، ووزارة العدل، ووزارة الصحة، إلى جانب تقلد بعضهن مناصب إدارية مرموقة صلب الإدارات والمنشآت العمومية، ولكن رغم هذه الامتيازات النوعية صلب مواقع القرار إلا أن المرأة لم تحظى بالفرص التي تستحقها وفقاً لمؤهلاتها وكفأتها العلمية، فالمناصب العليا والسيادية كانت دائماً للرجال، حتى داخل قبة البرلمان كان النصيب الأكبر من حليف الرجال أيضاً.

هذا فضلاً أن بعض النائبات التابعات لـ”حزب الدستوري الحر” كن قد تعرضن للعنف المعنوي بسبب مواقفهن السياسية المناهضة لتيارات الإسلام السياسي  آنذاك وهما حركة “النهضة” و”حزب ائتلاف الكرامة” وقد أقدم عضوان من الحزب الأخير بصفع وركل رئيسة “الحزب الدستوري الحر”.

ومما سبق نفهم أن حضور المرأة صلب تيارات الإسلام السياسي هو مجرد تسويق لفكرة انفتاحها واعتدالها وانصهارها في منظومة الحداثة والتقدم، والحقيقة أن هذه التيارات اقصائية حتى وإن حاولت التظاهر بغير ذلك. 

“سياسة العنف”

حاولت حركة الإسلام السياسي في تونس البرهنة على تغييرها وسعيها للانفتاح السياسي نحو التشاركية في الحكم مع كل الفرقاء السياسيين والذين منهم خصومهم الأيديولوجيين، ويمكن أن تكون هذه الخطوة كبادرة لضمان استمرارية حكمها وتجذيره خوفاً من نفس مصير نظيرتها في مصر، أو ربما يكون هذا الانفتاح شكلياً نظراً لمواقفها تجاه أعضاء “الحزب الدستوري الحر” خاصة فيما يتعلق بالعنف الممارس ضدهم، كما أن قاعدة أتباعهم تساند هذا العنف من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والذي وصل إلى وصف الأعضاء المنتمين إلى “الحزب الدستوري الحر” بأعداء الدين، وهو ما يعكس تمثلات التي تجذرت في ذهنية الأتباع الأوائل للحركة في نشأتها الأولى إذ كانت ترى أن كل من يخالف توجهاتها هو بالضرورة عدو، وقد تم إعادة إنتاج هذه التمثلات جيلياً.

أي بمعنى توارثها من الآباء إلى الأبناء، وهو ما أشار إليه ﺴﺎﺭﺝ ﻤﻭﺴﻜﻭﻓﻴﺘﺸﻲ، الذي يرى “أن التمثلات تقوم أساساً على التفاعل بين الأفراد أو الجماعات ويركز في دراسة التمثلات الاجتماعية على ديناميكيتها، وتطورها بدلاً من محتواها فهذه التمثلات عبارة عن اندماج مجموعة من المعالم الجماعية والفردية”، وهو ما يعني أن أفكار الإسلام السياسي هي سيرورة يتآلف فيها الجماعي مع الفردي وبالتالي الأيديولوجي.

فكرة “المقاومة” هي شيء يورث ويحفظ في سياق الذاكرة الجمعية التي لها دور هام في بلورة التوجهات والقيم في المجتمعات.

ولذلك عندما نتدبر في خطابات حركات الإسلام السياسي في كل البلدان العربية نستحضر جلياً فكرة الفيلسوف والمفكر الليبرالي شارل مونتسكيو الذي يرى أن الدين يخدم الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي من خلال مساندته لفكرة إطاعة الحاكم واستئصال فكرة الاستقلال، كما يرى أيضاً أن الفائدة الاجتماعية للدين “ليست لواقعيتها بل لإستخدامها”، خاصة وأن الإسلام السياسي في محاولاته الدائم للوصول إلى الحكم يؤكد على فكرة أن الإسلام دين ودولة والأول ملزم للثاني، إلى جانب فكرة هامة ألا وهي تنزيه القائد السياسي حامل لواء الدين، هذا القائد يمتاز بكونه مرجعية فكرية خاصة إذا كان هو المؤسس للجماعة، يمتلك السلطة والتوظيف والتسيير، كل قراراته مثمنة ولا يجب الجدال فيها رغم أن قاعدتهم الأساسية أن “أمركم شورى بينكم”، حتى وإن أخطأ الأعضاء فجماعات الإسلام السياسي تقوم بحمايتهم ثم معاقبتهم بما يرتئي رئيسهم تماماً كما حصل مع أعضاء حركة “النهضة” في ثمانينيات القرن الماضي (تفجيرات المنستير، وحريق باب سويقة).

لكن ليس هذا المهم لأن الأهم هو كيف يتمثل الموالين لهذه الحركات رئيس حركتهم وقادته، هنا سنأخذ مثال حركة “حماس” باعتبارها حركة جهادية وتصدر نفسها كـ”مقاومة” وشعارها “ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”، ونحن حقيقة من مناصري هذا الشعار ونتفق جميعاً على ضرورة عودة الأرض إلى أهلها.

لكن ما نضع عليه عدة خطوط هو مسألة موازنة القوى، بمعنى أن المتأمل في المشهد الحاصل في غزة  سيلاحظ عدم تكافؤ في القوى، إذ نجد مئات الآلاف من الضحايا أغلبهم أطفال، مقابل بعض الموتى من العسكر الإسرائيلي. نتكلم طبعاً من الناحية العددية وحتى من حيث العمليات العسكرية. وقد اعتبر بعض الباحثين المختصين في الشأن الفلسطيني أن حركة “حماس” هي المسؤولة عن المأساة التي يعيشها الغزاويين إلا أن نسبة قليلة منهم  برغم الألم والإبادة يدعمون وبشدة “المقاومة” ويرون في قائد الحركة، إسماعيل هنية، الذي اغتيل في طهران قبل أسابيع، هو الممثل لهويتهم وقضيتهم.

حركة “حماس” من منظور منتقديها تصبغ على قراراتها مفاهيم دينية لإخماد أي اعتراض من الشعب على توجهاتها السياسية-“إنترنت”

وبالتالي يتحول من خلال هذا التصور إلى رمز الجماعة التي تتشكل كجسد وكيان اجتماعي مترابط غير قابل للتفكك، والتمثلات الاجتماعية هنا تتجلى كعنصر عاطفي وذهني واجتماعي، هذا من جانب أما من جانب آخر فالتمثلات تتداخل في عدة أنشطة إبستيمولوجية وهو ما يجعلها نسقاً تفسيرياً يتفاعل من خلاله الفرد مع محيطه، باختصار هي سيرورة تلعب دوراً في تكوين التواصل والسلوكيات الاجتماعية.

“المقاومة” في سياق الذاكرة الجمعية

وفي هذا الإطار يعرفها ارفينغ فيشر: “بأنها بناء اجتماعي لمعارف عادية تهيئ من خلال القيم والمعتقدات ويتفاعل أفراد جماعة معينة، وتدور حول مواضيع مختلفة (أفراد، أحداث…) وتؤدي إلى توحيد نظرتهم للأحداث كما تظهر أثناء التفاعلات الاجتماعية”، ففكرة “المقاومة” هي شيء يورث ويحفظ في سياق الذاكرة الجمعية التي لها دور هام في بلورة التوجهات والقيم في المجتمعات.

كما أن عملية التذكر ليست رهينة ذاتية وفكر الفرد، بل أنها مترسخة ضمن المنظومة الاجتماعية الواسعة التي يتفاعل في إطارها الأفراد، ولهذا لا يمكن الفصل بين محددات نمط التذكر الفردي والجماعي لأن “الذاكرة الجمعية ماهي إلا نتاج تفاعل ذكريات فردية، والذاكرة الفردية ماهي إلا نتاج تفاعل الفرد مع الجماعة”، لذلك فإن فكرة “المقاومة” هي أساسها استعادة الوطن وبذل في سبيل ذلك الأنفس.

وبالتالي فهي تمثل أساس هذه الذاكرة وآلية لتحقيق “حلم الاستقلال” وبالتالي هم فوق مستوى النقد أو اللوم. وفي حوار أجريناه مع إحدى اللاجئات الفلسطينيات حول ما يجري في غزة، أفادت لــ”الحل نت”: “حتى وإن يوجد من يلوم حركة حماس عن هذه الإبادة، فلا يمكنه التصريح بذلك لأنه يعرض نفسه للاتهامات بالخيانة، فحماس تعني الوطن وهي فوق مستوى كل نقد، ليس المهم الشعب، لأن الأهم هو عدم التخلي عن مواقفها بغض النظر عن صوابها من عدمه”.

وهنا يذهب نسبة كبيرة من منتقدي حركة “حماس” إلى اعتبار ما حاصل في غزة بعيد كل البعد عن “الجهاد والمقاومة”، لأنه دفع الأهالي للتهلكة والإبادة، فحركة “حماس” من منظورهم تصبغ على قراراتها مفاهيم دينية لإخماد أي اعتراض من الشعب على توجهاتها السياسية، وهذا ما لاحظناه من خلال تصريحات الغزاويين عبر منصات التواصل الاجتماعي بأنهم سعداء بالشهادة ويؤكدون دعمهم المتواصل لـ”المقاومة”، وقد تأصل هذا الدعم بعد مقتل إسماعيل هنية الذي تحول من رمز للقضية إلى رمز هوياتي خالد في الذاكرة الجمعية لدى حاضنة “حماس” الشعبية، وخاصة لدى الأطفال الذي يقدمون أنفسهم كـ”مقاومين” مستقبليين في “حماس”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات