لم يكن أمرا هينا ما تعرضت له مناطق “حزب الله” في لبنان كما غيرها من نقاط ارتكاز وكلاء إيران و”الحرس الثوري” في دمشق وحتى بطهران، من خروقات أمنية عنيفة، وقد نجم عنها مقتل عدة شخصيات لها نفوذها العسكري والميداني إلى السياسي والدبلوماسي.
استهداف إسرائيل عدة شخصيات محورية ولها مركزيتها في مدى نشاط نظام “الولي الفقيه” الإقليمي والخارجي، ضمن إطار الصراع المحتدم منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، واندلاع الحرب في قطاع غزة، جعل ما يعرف بـ”حروب الظل“، تتخطى قواعدها القديمة والتقليدية، وباتت هناك انعطافات راديكالية في مستوى المواجهة التي تشنها تل أبيب، بينما تكشف ليس عن قواعد جديدة، إنما عن إمكانات استخبارية تجعل بيئات “حزب الله” ومعها ما يعرف بـ”جبهات الإسناد” تحت طائلة العقاب الإسرائيلي، في ظل وفرة المعلومات وانكشاف الجبهات التي تبدو غير متماسكة وداخلها تباينات عديدة.
وبلغت التهديدات الإسرائيلية حدا، أن قال إيلي كوهين وزير الخارجية الإسرائيلي إثر اغتيال رضي موسوي بأنه “على الأمين العام لحزب الله أن يفهم أنه التالي”.
إسرائيل تجند جواسيس داخل “حزب الله”
في ما يبدو أن وجود عملاء أو جواسيس لحساب إسرائيل في تلك البيئات المعادية لها، فضلا عن قدرات إسرائيل الاختراق من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي وغيرها من الإمكانات التقنية والتكنولوجية المتطورة، لا يعدو كونه أمرا مباغتا أو عرضيا، بل هناك سوابق عديدة تبرز مثل هذا النشاط الذي تمكنت فيه إسرائيل من إنجاح عملية دقيقة كالتي قضى فيها العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده بقلب العاصمة طهران.
غير أن المتغير في الحوادث منذ الهجمات التي شنتها حركة “حماس” على إسرائيل، تتمثل في قدراتها على إدارة عمليات متعددة، وفي عدة مناطق، والتعاطي ميدانيا مع نقاط تتفاوت في أهميتها، مثل مقر القنصلية الإيرانية في دمشق، مرورا بالضاحية الجنوبية في بيروت ويتواجد بها مدنيون وعسكريون، وحتى مقرات “الحرس الثوري” في طهران.
وفي ما يخص بوجود عملاء وجواسيس يتم تعيينهم في بيئة الحزب المدعوم من “الحرس الثوري” بلبنان، فإنه يؤشر إلى ضعف تماسك هذه الجبهة في العشرية الأخيرة، والتململ من الحرب السورية التي قضى فيها مئات اللبنانيين، وقد تم رهن لبنان، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لحساب الطموح الجيوسياسي لملالي إيران، ووكلاؤهم في لبنان. فلامس الاقتصاد على الإفلاس، ووقعت لبنان في فراغ رئاسي المرة تلو الأخرى، ودخلت في دائرة انسداد سياسي، ودورة عنف، بلغت محطاتها القصوى مع ظهور “كاتم الصوت” الذي قضى على خصوم الحزب ومنهم لقمان سليم بعد انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر عام 2019.
ولم يتمكن حسن نصر الله في أعقاب اغتيال العاروري من إخفاء ما وراء الحادث، وقال إنه يمثل “خرقا كبيرا وخطير”، ثم هدد كما هي العادة بأن “الرد آت لا محالة”. وتابع: “حزب الله لا يمكنه أن يصمت حيال خرق بهذا المستوى”، وأن “عدم الرد يجعل كل لبنان مكشوفا”.
هذه البيئات التي تشعر بالتململ والذعر في آن وسط تنامي العنف لهذه الدرجة القصوى، وتعمل بمنطق البطش، وتراكم أجسادا متهالكة، تظل بيئات رخوة ويمكن أن تتشكل داخلها جيوب وانحناءات عديدة، تخفي داخلها قوى انعزالية ترى نفسها على هامش الخطاب السياسي الذي يتبنى الصراع والعداء مع كل من هو على النقيض من فكرة “المقاومة”، ويرفض عسكرة القضايا السياسية، المحلية والإقليمية، بل ينبذ مستوى الأدلجة في مسائل الدين التي تفرض ممارسات عدوانية، تخصم من الحقوق المواطنية والمدنية، فيجد الأخير نفسه محاصرا بين دائري التخوين والتكفير إذ لم يتماهى مع خطاب “السيد” الذي لطالما ردد بأن “لبنان جزء من الجمهورية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه الخميني”.
انحسار دعاية إيران السياسية
ضحايا الخمينية السياسية ليسوا أفرادا إنما بلدان ومجتمعات، أمست رهائن في قبضة مصالحها ومقامراتها. إذ إن ولادات العنف المتكررة وإجهاض التنمية وعدم القبول بالتعددية، تسببت في أن يكون الصراع دائرة جهنمية تتسع لكل الألعاب التي تكون على مستوى الحرب، فبرزت أسماء عديدة في صفوف “حزب الله” أو قريبة منه وبيئته، تلاحقهم تهم العمالة لصالح إسرائيل.
وبعيدا عن أن تلك التهمة تكون حجة تلفيقية في أحايين كثيرة لتصفية خصوم إيران السياسيين. لكن الخرق في بنية “حزب الله” كشف عن وجود عملاء بالفعل لتأدية مهامهم، لاسيما بعد تنامي قتلى الاستهداف الإسرائيلي، كما حدث مع رئيس المكتب السياسي لـ”حماس”، إسماعيل هنية في إحدى قواعد “الحرس الثوري” بإيران، والرجل الثاني بـ”حزب الله”، فؤاد شكر، الملقب بـ”الحاج محسن”، بالضاحية الجنوبية، وقبلهما رضي موسوي في دمشق، والرجل الثاني في حركة “حماس” صالح العاروري أيضا بالضاحية الجنوبية لبيروت. ثم القيادي بالحزب، وسام طويل في خربة سلم جنوب بيروت.
تخوفات الحزب المدعوم من إيران في لبنان، ليست صريحة أو علانية، غير أنه عمليا تبطنها خطابات المسؤولين والنتائج الميدانية، حيث تباعد الأيام والوقائع المختلفة بين إيران ووكلائها، من جهة، والرد المزعوم، من جهة أخرى.
ومثّلت هذه الاستهدافات ما هو أبعد من تشكيل أعباء أمنية على “حزب الله” وإيران، أو حتى حرج أمام حلفائه وحاضنته، لا سيما مع تأخر الرد على إسرائيل، إنما كشفت عن انحسار دعايته السياسية التي لم مؤثرة في نموذجها الشعبوي أو مستواها الصاخب الذي رافق حرب تموز/ يوليو 2006. فتأخر الرد يمكن رده إلى عدة أمور، أهمها أو بالأحرى أقلها يتمثل في غياب الحاضنة التي يمكن أن تكون رافعة لحرب سواء مع إسرائيل أو غيرها. فالمواجهة تتطلب اقتصاديات حرب ومعها طاقات دعم وإسناد مجتمعي، تبدو غائبة ومنعزلة وترفض مغامرات الحزب العسكرية وتسعى لأن يكون قرار الحرب والسلم بيد الدولة والجيش اللبنانيين.
ولا تتوافر هذه الأمور بجملتها. وتأخر الرد يكشف عن الاستراتيجية الإيرانية التي تلجأ إلى كسب الوقت والمماطلة، للبحث عن وسائل تفاوضية، والاستمرار في ماكينة الدعاية السياسية التي تضج بها وسائلها الإعلامية، وخطابات مسؤوليها وفي قمتهم زعيم “حزب الله” حسن نصر الله. ناهيك عن حسابات الحرب التي تبعث بتخوفات عديدة، وتبدو الرهانات فيها صعبة ومعقدة للأطراف كافة. فلن تكون نزهة مؤقتة.
تخوفات الحزب المدعوم من إيران في لبنان، ليست صريحة أو علانية، غير أنه عمليا تبطنها خطابات المسؤولين والنتائج الميدانية، حيث تباعد الأيام والوقائع المختلفة بين إيران ووكلائها، من جهة، والرد المزعوم، من جهة أخرى. فثمة إدراك من تلك الأطراف بأن الاغتيالات التي نفذتها إسرائيل، لا يمكن بحال أن تتم من دون استغلال أجهزة الرصد والتنصت ومناطيد المراقبة، وكذا المسيّرات والأقمار الصناعية، لجهة الحصول على وفرة معلوماتية تمكن العملاء على الأرض من الرصد والمراقبة واختراق أنظمة الاتصالات والإنترنت التي سبق وطالب نصر الله بعدم استخدام الهواتف المحمولة.
ولهذا، يُعنى الحزب بترميم جبهة الداخلية، وتأمين الصراعات، أو تأميم الانفجارات المحتملة، وتجسير الفجوات. فأكثر من ثلاثمئة شخص بـ”حزب الله”، بعضهم ونسبة ليست بالقليلة منهم في الصفوف الأولى وقيادات عسكرية مؤثرة ولها أهميتها الميدانية والاستراتيجية، تم تصفيتهم بواسطة مسيّرات إسرائيلية استخدمت فيها صواريخ دقيقة.
وهي مهمة لا يمكن لها أن تحدث من دون وفرة المعلومات التي سبقت الإشارة لها، وتوظيف قدرات استخبارية وشبكة عملاء. ففي منتصف تموز/ يوليو الماضي، كشف تقرير لوكالة “رويترز” بأن “حزب الله” تخلى عن استعمال وسائل الاتصال اللاسلكية والإلكترونية، بينما لجأ لوسائل اتصال قديمة، تحديدا السلكية منها.
وإلى جانب اعتراف “حزب الله” وجود عملاء، فقد حذرت الأجهزة الأمنية الرسمية عدة مرات بوجود محاولات إسرائيلية وإغراءات مالية في إدارة عمليات التجنيد، خاصة مع الأزمة المالية والاقتصادية.
“عمالة رخيصة”
إقرار “حزب الله” وزعيمه بوجود جواسيس في صفوفهم، إذا، ليس بالأمر الجديد، وإن كان يتم التقليل من شأنه، في فترات سابقة، كما حدث عام 2015، مع شخص وأفصحت عن هويته وكالة “رويترز” مرجحة أن يكون محمد شوربا.
إن وجود عملاء وجواسيس يتم تعيينهم في بيئة “حزب الله” بلبنان، يؤشر إلى ضعف تماسك هذه الجبهة في العشرية الأخيرة. وبلغ مجموع ما تقاضاه العميل من مشغّليه (إسرائيل) 7500 دولار، وفق ما كشفت عنه صحيفة “الأخبار”.
وهذا الشخص الذي اعتبر نصر الله قصته تحمل مبالغات جمّة بوجوده ضمن القوات المعنية بتأمينه الشخصي، أو في وحدة الصواريخ التابعة للحزب، انطوت مبررات على تناقضات فجة، لا سيما أنه عاود الحديث عن وجوده التنظيمي في “وحدة من الوحدات الأمنية التي لها طابع حساس”.
وتكرر الأمر ذاته، مؤخرا، حيث ذكرت صحيفة “الأخبار” اللبنانية المعروفة بصلاتها بـ”حزب الله”، أن الأجهزة الأمنية اللبنانية أوقفت عددا من المتعاملين مع العدو، من بينهم ممرض زود مشغليه الإسرائيليين بمعلومات أمنية وصور وإحداثيات، قبل أن يتمكن فرع المعلومات من توقيفه.
وقد عرض المشغل على محمد ش. (مواليد 1995)، الانتقال إلى إسرائيل، وطلب منه التوجه على متن دراجته النارية إلى الشريط الحدودي على أن يعمل “الموساد” على إدخاله إلى الداخل الإسرائيلي، حيث سيمكث نحو أسبوعين لتدريبه على جهاز إلكتروني يحضره معه لدى عودته.
غير أنه رفض ذلك خشية من افتضاح أمره، عندها عرض عليه “أمير” السفر للقائه في دولة أخرى، وفق الصحيفة اللبنانية. واعترف بأنه تواصل مع “الموساد” خلال عامي 2023 و2024 وعمل لمصلحته.
كما أبلغ المحققين بأنه زود مشغليه بمعلومات عن مراكز لـ”حزب الله” في بلدة الخرايب وإحداثيات جغرافية لمركز في محلة تُعرف باسم المطرية وإحداثيات لمسجد الإمام علي وصور لمدخل المسجد ومن داخله، ففعل. وإحداثيات لحسينية البلدة وكاميرات المراقبة فيها. وقال إن مشغليه طلبوا منه الانتقال إلى الضاحية الجنوبية للإقامة والعمل ممرضا في أحد مستشفياتها، ولما أبلغهم بعدم رغبته بذلك، طلب منه الإقامة في بلدة ميس الجبل وتقديم طلب للعمل ممرّضا في المستشفى الحكومي في البلدة.
بعد اندلاع حرب غزة، طلب المشغل من محمد معلومات عن الأعمال الحربية التي تحصل في محيط سكنه وعن تحركات عناصر “حزب الله” في المنطقة.. ومع اشتداد الحرب، زوده المشغل بإحداثيات لموقعين جغرافيين لنقطتين تقع بينهما مجموعة كبيرة من المحال في بلدة الخرايب، طالبا منه معلومات عن هذه المحال وأصحابها.. وبلغ مجموع ما تقاضاه العميل من مشغّليه 7500 دولار، إضافة إلى 4000 دولار كان يُفترض أن تصله بالبريد الميت في محلة الرميلة، لكنه لم يعثر عليها.
- فصائل المعارضة تسيطر على مدينة درعا.. وتقدم في السويداء وحمص
- فصائل المعارضة تبسط سيطرتها على معظم محافظة درعا.. ماذا عن السويداء؟
- ضغط تركي روسي على الأسد للرضوخ لحل سياسي.. ما السيناريوهات المحتملة؟
- تشكيل “غرفة عمليات عسكرية” في درعا.. ما دور السويداء والقنيطرة؟
- نضال حماة مع عائلة الأسد: تاريخٌ من الدم انتهى بالأمس؟
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.