إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رغبته في تشكيل “تحالف إسلامي ضد إسرائيل”، يفضح محاولاته المحمومة لجهة بلورة موقف جديد يولد من خلاله سياسات لا تبدو جديدة بقدر ما يتم شحنها بطاقة دعائية، تجدد الولاء لحكومته و”حزب العدالة والتنمية” في ظل النكبات والإخفاقات وانحسار حواضنه.

ورغم أن تركيا يحفل سجلها التاريخي بالتحالفات التي تكون طرفا رئيسيا فيها، بما يتناسب مع طبيعتها الوظيفية بين المحاور المختلفة على المستوى الإقليمي وبين اللاعبين الدوليين، إلا أن السياق الدلالي للدعوة الأردوغانية له محددات جوهرية تتعلق بترميم أوضاعه الداخلية سواء في ما يخص الاستقطاب السياسي والحزبي، لا سيما بعد خسارته الانتخابية في المحليات، وكذا تخفيف حدة الاتهامات بالعنصرية على خلفية استمرار الاعتداءات التركية على السياح بخاصة العرب والخليجيين، فضلا عن اللاجئين السوريين، ونهب ممتلكاتهم، ثم الوضع الخارجي الذي ينطلق من رغبته في الاعتماد البراغماتي على المسألة الفلسطينية للعب دور إقليمي، ويكاد أن يكون التصريح بهذا التحالف مبادرة ابتزاز للغرب والولايات المتحدة باتجاه السعي إلى حجز حصة في مرحلة ما بعد الحرب، بما فيها إعادة الإعمار.

أردوغان والاستهلاك الإعلامي

وقد صرح الرئيس التركي بطريقة لا تخلو من شعبوية كما هي العادة بقصة تهييج الشعور الديني، ورفع درجة حد الغليان لينفجر على فوهة الحرب بغزة، بأنه “يتعين على الدول الإسلامية تشكيل تحالف ضد التهديد التوسعي المتزايد لإسرائيل”، بينما برر انعطافته للتهدئة مع مصر وسوريا بأنها “تهدف إلى تشكيل خط ضامن” في مواجهة ذلك التهديد.

لا يكف أردوغان عن حصر الصراع في غزة عند مستوى ما يخدم مشروعه الحزبي- “أ ب”

بالتالي، يبدو خطاب أردوغان ومبرراته لهذا التشكيل المتزامن مع زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتركيا، ضمن الاستهلاك الإعلامي المحلي الذي يهدف من خلاله إلى ترويج إنجازات على المستوى الخارجي والدبلوماسي، وأن النداء الأردوغاني للعواصم العربية الإسلامية بالمصالحة إنما لبناء “تشكيل إسلامي” لمواجهة “التهديد التوسعي يهدد لبنان وسوريا أيضا”، وفق أردوغان، وقال إن “خطوة تشكيل التحالف هي الوحيدة التي ستوقف إرهاب الدولة الإسرائيلي”.

ولا يكف أردوغان عن حصر الصراع في غزة عند مستوى ما يخدم مشروعه الحزبي، ويتماهى مع سياسات “العثمانية الجديدة”، إذ يضغط على فكرة الصراع الديني الديني، وتفجير الأزمات الطائفية والشحن العقائدي، الأمر الذي يوفر بيئة مواتية لصعود الأصوليات المتشددة، مثل “حماس” ورديفاتها من فصائل موالية لجماعة “الإخوان” المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، ومن ثم، يجعل من إعادة إنتاج سياساته العنصرية وحروبه الخارجية مبرراتها، كما يحدث في شمال غرب سوريا وفي ليبيا وحتى ناغورني قره باغ، فوصف الحرب المحتدمة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي بأنها “ليس حربا بين إسرائيل وفلسطين، بل صراع بين الصهيونية التوسعية والمسلمين المدافعين عن وطنهم”.

وفجر أردوغان في مؤتمر طلاب مدارس الأئمة والخطباء بولاية قوجا إيلي، شمال غربي تركيا، دعوته إلى “جميع الدول الإسلامية إلى اتخاذ موقف مناهض للاحتلال الإسرائيلي الذي من غير المعروف الحد الذي سيقف عنده”. مؤكدا على حد زعمه أنها “الخطوة الوحيدة التي ستوقف الغطرسة والبلطجة وإرهاب الدولة الإسرائيلي هي تحالف الدول الإسلامية..”؟

وألح أردوغان على ضرورة “تيقظ للدول الإسلامية في مثل هذه الفترة الحرجة، وإدراك الخطر المحدق وتعزيز التعاون فيما بينها”. فيما اعتبر أن “الخطوات التي نتخذها (في علاقاتنا) مع مصر وسوريا، تهدف لتأسيس محور تضامن ضد التهديد التوسعي المتزايد”، وأن “المرحلة الجديدة التي أطلقتها تركيا في علاقاتها مع مصر ستكون لصالح غزة وفلسطين.. والاتصالات الأخرى التي تجريها أنقرة مع دول الجوار، ستكون لصالح المنطقة أيضا”.

“تقويض الأنظمة المعتدلة”

تصريحات أردوغان لم ترق بأن تكون لها صدى جاد في إسرائيل، بمعنى أنها لم تحفز ضده الحكومة في تل أبيب، ولم تر فيها تغييرات جمة في السياسات القائمة بين البلدين. فالعلاقات الخفية والمستترة التي تفصح عنها أرقام المبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية المتينة، هي على النقيض من الخطاب السياسي لأردوغان الذي يبدو مثل فقاعات هوائية بأكثر ما يعبر عن اتجاهات سياسية محضة. 

ولهذا عقّب وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بقوله: “تصريحات إردوغان كذبة خطيرة وتحريض”. وقال إن “الرئيس التركي يعمل منذ سنوات مع إيران لتقويض الأنظمة العربية المعتدلة في المنطقة”، وأن “بيانه يرتبط بتصعيد الوضع”. متهما الرئيس أردوغان بمواصلة “إلقاء الشعب التركي في نار الكراهية والعنف، من أجل أصدقائه في حماس”، واعتبر دوره يؤدي “لتقويض الأنظمة المعتدلة”.

عزا مراقبون خطاب أردوغان بأن حزبي بامتياز، وعبارة عن استثمار سياسي، بينما لا يختلف عن سوابقه التي تتبنى الرؤية الإسلاموية والقومية المتشددة وترويج فكرة “العثمانية الجديدة”.

ويمكن القول إن أردوغان كان خطابه تجاه الحرب في غزة منذ الهجمات التي شنتها حركة “حماس” ضد إسرائيل، له تباينات عديدة وأخذ انحناءات مختلفة، حيث بدأ الخطاب يمسك العصا من المنتصف، ولا يتصف بالشعبوية المعتادة، وقد كانت مفرداته عامة وفضفاضة، وتعمد إلى تفادي الهجوم على إسرائيل، ورفض فقط “العدوان على المدنيين” سواء كان فلسطينيا أو إسرائيليا. 

غير أن تأثيرات عديدة في الداخل التركي لعبت على وتر الاستجابة للاستقطاب الداخلي، تحديدا مع الخسارة الانتخابية، حيث حاولت أنقرة بشكل غامض القول إنها حظرت التصدير لإسرائيل، وسرعان ما أوضحت إسرائيل على لسان وزير خارجيتها بأن تركيا تراجعت عن ذلك، في حين أن “الشرق الأوسط” اللندنية كشفت عن مصدر في وزارة التجارة التركية حيلة ليكون القرار مجرد حديث سياسي في الفراغ من دون تطبيق عملي يأخذ مساراته في التنفيذ. إذ سيتم السماح للشركات بالاستجابة للطلبات المتعاقد عليها لمدة ثلاثة أشهر عبر بلد ثالث وسيط. مع الأخذ في الحسبان أن حجم التجارة بين البلدين يسجل 9.5 مليار دولار.

“مبادرة إنشاء ميثاق القدس”

ولهذا، تأتي دعوة أردوغان الأخيرة بتشكيل هذا التحالف، متزامنة أو رد على دعوة مماثلة لحليفه في “الحركة القومية” المتشددة، دولت باهتشلي، الذي طالب بتدشين “مبادرة إنشاء ميثاق القدس”، تكون بقيادة أنقرة، وتشترك فيها سوريا ولبنان، والعراق، ومصر، وتركيا.

رهانات أردوغان كلها تبدأ عند نقطة تقليل الخسارات التي يتكبدها بعد خسارته الانتخابية- “وكالات”

والأرجح أن الدعوة التركية لن تخرج عن نطاق الحيز التركي، على مستوى ما يعبر عنه ذلك سياسيا في الداخل أو الخارج. ولذلك، لم تعقب القاهرة على تلك المسألة أو تلمح لها من قريب أو بعيد كما لم يتناولها الرئيسان في اللقاء الذي جمعهما مؤخرا. فضلا عن تحاشي الدولة المصرية الدخول في أحلاف وتحالفات عسكرية، ورفضها التام الصبغة الإسلامية أو الدينية في بناء مقاربتها بالسياسة الخارجية والإقليمية.

والمسألة في غزة بالنسبة لمصر، تتجاوز أي استغلال شعبوي سياسي وخارجي، بل هي مسألة تأتي في قمة ثوابتها السياسية والإقليمية وتتصل بشكل عضوي مع أمنها القومي نظرا للبعد الأمني والجيواستراتيجي، والعلاقة التاريخية التي تجمع مصر بالقضية الفلسطينية برمتها. فالدور السياسي والدبلوماسي للقاهرة في هذا الاتجاه وتلك المسألة لا يمكن أن يكون عرضة لنزوات مؤقتة، أو خطابات دعائية لأغراض مرحلية تقوم على الابتزاز أو المزايدة وحوادث عرضية، بل تعتمد على آليات تنفيذية قانونية وسياسية ضمن الشرعية الدولية، واحترام كافة المواثيق والاتفاقات الأمنية وغيرها. وفي عبارة واحدة، ليس من السهل أن تبدل السياسة الخارجية المصرية دفة قرارتها لمجرد اعتبارات حزبية كما في تركيا. 

ومن هنا، عزا مراقبون خطاب أردوغان بأن حزبي بامتياز، وعبارة عن استثمار سياسي، بينما لا يختلف عن سوابقه التي تتبنى الرؤية الإسلاموية والقومية المتشددة وترويج فكرة “العثمانية الجديدة”، حيث ردد قبل فترة وجيزة أمام كتلته النيابية بالحزب بأن إسرائيل لها مطامع في الأناضول، و”حماس تقدم في جبهة متقدمة وخط دفاع أمامي.. للدفاع عن الأناضول” على حد تعبيره. 

ويقول المحلل السياسي الفلسطيني زيد الأيوبي إن تركيا بهذا الموقف تمارس مناورة سياسية في إطار التجاذب الإقليمي الذي يحدث نتيجة الصراع في غزة، في حين تتبنى خطابا إسلامويا يتناسب وهويتها “العثمانية” لبناء استراتيجيات تضمن لها أهدافها ومصالحها في السلطة وخارجيا.

وأشار الأيوبي في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن رهانات أردوغان كلها تبدأ عند نقطة تقليل الخسارات التي يتكبدها بعد خسارته الانتخابية، والتي لم تكن فقط بسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسية إنما لضعف مواقفه تجاه غزة، ومن ثم، يتحرك أردوغان من جديد لاستعادة حوامله الحزبية والسياسية والاستفادة من أي زخم شعبي ليكون رصيده السياسي وفي الاستحقاقات الانتخابية.

غير أن تركيا لن تذهب أبعد من ذلك، فليس في مقدورها أن تمارس لعبة “عض الأصابع” مطولا مع إسرائيل، فحتى قطع العلاقات كان عملية شكلية واستمرت المبادلات والتجارة من “بوابات خلفية” إلى أن تحصل على مكتسبات من تلك الضغوط. يقول الأيوبي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة