بعد الحرب الطويلة في غزة وفتح جبهة في لبنان، تزايدت وتيرة الهجمات الإسرائيلية على سوريا في الأيام الأخيرة. ويبدو أن إسرائيل تسعى إلى إنهاء مهمة معينة، وسط تساؤلات حول هدفها من هذه الهجمات المتتالية على سوريا. 

لكن، كيف يمكن تفسير هذه الهجمات في الوقت الذي حاولت فيه دمشق تجنب الانخراط المباشر في الحرب مع إسرائيل؟ وما الذي سيحدث بعد ذلك؟

اعتراف إسرائيلي بالهجمات

لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيرًا ليفهم أن هناك تصعيدًا في الجبهة السورية في إطار الحرب بين إسرائيل وأذرع إيران في المنطقة، فالتحركات الأخيرة لكل الأطراف تعطي مؤشرات على أن سوريا هي الجبهة الجديدة لإسرائيل.

تصعيد إسرائيلي غير مسبوق على سوريا: لاريجاني ومسؤول سوري ضمن الأهداف؟
صورة التُقطت من الجانب السوري للحدود مع لبنان تُظهر آثار غارة إسرائيلية على معبر جوسية الحدودي مع القصير في محافظة حمص يوم 25 تشرين أول/أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

ذكرت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) أن 15 شخصًا قُتلوا وأصيب 16 آخرون في الهجمات الإسرائيلية على دمشق، نقلاً عن مصدر عسكري، وذلك في نهاية الأسبوع الماضي، في واحدة من أعنف الضربات التي استهدفت العاصمة السورية منذ أشهر.

وقال الجيش الإسرائيلي في بيان، إنه قصف موقعًا تابعًا لحركة “الجهاد الإسلامي” في سوريا في وقت سابق يوم الخميس الماضي، متسببًا في “أضرار جسيمة في مركز قيادة المنظمة الإرهابية وعناصرها”. وتضم منطقة السيدة زينب، الواقعة جنوب مدينة دمشق، وجودًا لـ “حزب الله”، وقد تعرضت لهجوم من إسرائيل في الأسابيع الأخيرة.

كما أعلن الجيش الإسرائيلي أنه هاجم معابر تابعة للحكومة السورية على الحدود مع لبنان، والتي كانت تُستخدم لنقل الأسلحة إلى “حزب الله”. وذكر الجيش أن هذه الهجمات تهدف إلى إضعاف قدرة إيران على نقل الأسلحة عبر سوريا إلى الحزب في لبنان، موضحًا أن الغرض من الهجمات هو الحد من قدرة “حزب الله” على إلحاق الضرر بإسرائيل.

وأوضح الجيش الإسرائيلي أن “الهجوم على المعابر يلحق ضررًا بقدرات الوحدة 4400 التابعة لحزب الله، وهي الوحدة المسؤولة عن نقل الأسلحة من إيران عبر سوريا وصولاً إلى لبنان، والتي تُستخدم في تنفيذ مخططات ضد الجبهة الداخلية الإسرائيلية”.

تصريحات الجيش الإسرائيلي أعطت انطباعًا بأن إسرائيل – على غير عادتها – تتبنى الهجمات وتعترف بها، على عكس ما كانت تقوم به في السنوات الماضية حيث كانت تلتزم الصمت حيال ضرب مواقع متعددة في سوريا دون اعتراف رسمي. يمكن تفسير هذا التحول بأن إسرائيل ترسل رسائل واضحة إلى الرئيس السوري بشار الأسد وإلى “حزب الله” وإيران بأنها ستستمر في ضرباتها دون أن يوقفها أحد.

نشاط إسرائيلي في سوريا

بالتوازي مع تصعيد الهجمات، هناك تحركات لا يمكن تجاهلها من جانب إسرائيل، ففي أوائل تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه حدّث التعليمات المتعلقة بقيادة الجبهة الداخلية ورفع مستوى التأهب في منطقتي الجليل الأدنى وجنوب الجولان من “جزئي” إلى “كلي”، مع السماح بتجمعات تصل إلى ألفي شخص في بعض التجمعات السكنية.

دمار في بناية سكنية جراء غارات إسرائيلية على حي المزة الدمشقي 14 تشرين ثاني نوفمبر 2024 - انترنت
دمار في بناية سكنية جراء غارات إسرائيلية على حي المزة الدمشقي 14 تشرين ثاني/نوفمبر 2024 – انترنت

وخلال الشهر الجاري، جاء التطور الأكبر عندما واصلت إسرائيل مشروع بناء كبير على طول ما يسمى الخط “ألفا”، الذي يفصل مرتفعات الجولان المحتل من إسرائيل عن سوريا. وأظهرت صور التقطتها شركة “Planet Labs PBC” في 5 نوفمبر لصالح وكالة “أسوشيتد برس” ما يزيد عن 7.5 كيلومترات من أعمال البناء على طول خط “ألفا”، على بعد حوالي 3 كيلومترات جنوب شرق بلدة “مجدل شمس” الدرزية التي تسيطر عليها إسرائيل. 

وتظهر الصور خندقًا بين سدين، ويبدو أن أجزاء منه قد تم رصفها بالأسفلت، بالإضافة إلى وجود سياج يمتد باتجاه الجانب السوري. واعتبرت قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك أن هذا العمل يؤدي إلى تأجيج التوترات في المنطقة.

هذا بالإضافة إلى الهجمات التقليدية على سوريا. ففي الثامن من أيلول/سبتمبر الفائت، نفذت القوات الخاصة الإسرائيلية، عملية خاصة داخل الأراضي السورية واعتقلت متعاونا مع “الحرس الثوري” الإيراني، كما نفذت غارة نادرة بالقرب من بلدة مصياف في محافظة حماة، استهدفت ودمرت مصنعًا للصواريخ الدقيقة تحت الأرض، الذي تزعم الولايات المتحدة وإسرائيل أن إيران بنته بالتنسيق مع “حزب الله” في عام 2018.

وفي العام الأخير منذ بدء الحرب في غزة، نفذت إسرائيل أكثر من 220 قصفًا وهجومًا جويًا على الأراضي السورية، واستهدفت أحيانًا بشكل مباشر أعضاء “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني، وهو ضعف عدد الهجمات التي نفذتها في العام السابق.

في هذا الصدد، علق كميل البوشوكة، الباحث في معهد “الحوار”، لـ “الحل نت”: “في رأيي، تسعى إسرائيل إلى مهاجمة كل الجماعات التابعة لإيران في المنطقة، بما في ذلك العراق وسوريا ولبنان واليمن وإيران نفسها، مثل استهداف الحرس الثوري، حيث تريد إسرائيل إضعاف إيران”.

وأضاف البوشوكة لـ “الحل نت”: “الحكومة السورية غير راضية عن أجندة النظام الإيراني في المنطقة. لقد تعاونت سوريا مع إيران لمحاربة أعدائها خلال فترة الحرب الأهلية، لكن هذا لا يعني أنها تتفق مع إيران في مشاريع سياسية وعسكرية تهدد أمن واستقرار سوريا، حيث يدرك السوريون أن أي صدام مباشر مع إسرائيل يعني صدامًا مع الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، لذا فإن أجندة تغيير النظام ستكون مطروحة على الطاولة الغربية”.

سوريا تتجنب الحرب

على الرغم من النشاط الإسرائيلي المكثف في سوريا، كان الموقف السوري واضحًا؛ إذ لم يرغب الأسد في الانخراط في الحرب. فمنذ بداية الصراع بين إسرائيل و”حماس” في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وبينما توقع البعض أن تنضم سوريا إلى الحرب ضد إسرائيل وتفتح جبهة أخرى، لم يحدث ذلك، بل أصبحت الجبهة السورية هي الأهدأ مقارنة بجبهتي لبنان واليمن.

ميليشيات إيرانية في مدينة البوكمال بدير الزور – انترنت

من جانبه، علّق بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق، لـ “فورين بوليسي” عبر الهاتف من واشنطن العاصمة، حيث يعيش منذ انشقاقه: “إن الحكومة السورية تصور نفسها وكأنها تحارب إسرائيل، لكن هذا كان دائمًا كذبة. لقد عقد بشار، ووالده من قبله، اتفاقًا صامتًا للحفاظ على السلام على الحدود مع إسرائيل، ولهذا السبب لن تتورط سوريا في الصراع في غزة”.

وبحسب دبلوماسي غربي لم يكشف عن اسمه وتحدث لوكالة “فرانس برس”، فإن إسرائيل حذرت حكومة الأسد من أنها “ستدمر نظامه إذا استخدمت سوريا ضدها”. وأشار تقرير إلى أن منزل شقيق الأسد تعرض للقصف من قبل إسرائيل، رغم عدم وجود تأكيد لذلك، بحسب “فورين بوليسي”.

لكن في الوقت الذي حاولت فيه سوريا الابتعاد عن الصراع وتجنب إثارة غضب إسرائيل، سعت أيضًا إلى استرضاء إيران بالسماح لها باستخدام الأراضي السورية لتوريد الأسلحة إلى “حزب الله”.

ورغم ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن عدم مشاركة سوريا في “حلقة النار” التي تريد إيران أن تحيط بها إسرائيل أدى إلى فشل استراتيجي لـ “وحدة الساحات” التي تنتهجها إيران، والتي تتصور استجابة منسقة من جانب جميع شركائها في المنطقة. يكشف الغياب السوري أن البقاء السياسي يأتي قبل التوافق الأيديولوجي، وأن سوريا في وضعها الحالي لن تشكل مشكلة لإسرائيل.

لكن خلال الأيام الأخيرة، يمكن رصد تغيير في الموقف السوري، حيث اجتمع الرئيس السوري بشار الأسد، الأحد الفائت، بوزير الدفاع الإيراني عزيز نصير زاده، وذلك عقب أيام قليلة من لقائه علي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي. 

وكان الأسد قد بحث مع لاريجاني، نهاية الأسبوع الماضي، “التصعيد الإسرائيلي” في المنطقة و”ضرورة إيقاف العدوان” المستمر على غزة ولبنان، حسب ما ذكر بيان الرئاسة السورية. وبالنسبة لزيارة لاريجاني، فقد اتضح بعد يومين من زيارته إلى لبنان وسوريا أن هذه الزيارة جاءت في أعقاب التهديدات الإسرائيلية للرئيس السوري بشار الأسد، إذ تم اختيار لاريجاني كمبعوث خاص للمرشد الأعلى علي خامنئي. وبالفعل، زار لاريجاني سوريا في هذه المهمة الرسمية أولاً، ثم توجه إلى لبنان، وذلك من أجل نقل رسالة إيران “السياسية-الأمنية”، حيث تضمنت الزيارة لقاءات بارزة، من بينها اجتماعات مع الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري. 

وفي تعليق على ذلك، أفاد الدبلوماسي السابق بوزارة الخارجية الإيرانية، عبد الرضا فرجي راد، أن الرسالة التي حملها لاريجاني ما زالت غامضة، إذ لم تكشف تفاصيلها بعد، إلا أنه اعتبر اختيار لاريجاني لهذه المهمة أمراً يعكس الأهمية البالغة لهذه الرسالة. وكشف فرجي راد أن من بين أهداف زيارة لاريجاني كان نقل رسالة إيران وتقييم مواقف سوريا، وأنه في ظل التهديدات الإسرائيلية لسوريا، ترغب إيران في دراسة أبعاد هذه التهديدات وتحديد مدى جديتها.

سوريا وأهداف إسرائيل

ما يجري في سوريا يؤثر بشكل واضح على خطة إسرائيل حيالها؛ فالأسد لا يتمتع بسيطرة إقليمية مطلقة حتى على المناطق الخاضعة لحكمه ظاهريًا، إذ يعتمد على الدعم الإيراني والروسي من أجل بقائه. فالنظام السوري اليوم هو محمية لإيران وروسيا.

ونتيجة لذلك، أصبح الرعاة اليوم هم الشركاء الكبار، ما يعني عمليًا أن الإيرانيين ووكلاءهم من الميليشيات يسيطرون على معبر البوكمال الحدودي الجنوبي الشرقي بين العراق وسوريا، والطرق المؤدية إلى الغرب، ولا يدخل الجيش السوري هذه المنطقة إلا بإذن إيراني.

وبذلك، فإن جنوب سوريا يشكل حلقة في سلسلة السيطرة الإيرانية المتجاورة الممتدة من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط، وهي محطة ذات أهمية لإسرائيل، حيث تمر عبرها الأسلحة إلى “حزب الله” في لبنان.

من ناحية أخرى، لا يستطيع الأسد طرد الإيرانيين بشكل مباشر، لكنه ينظر إليه على أنه يقلل من دعمهم للحرب، ويُعد الحلقة الأضعف في محور “المقاومة” الإيراني.

تشير بعض التقارير إلى أن إيران سحبت قواتها من جنوب سوريا – معقل الجماعات التابعة لها، وخاصة حزب الله – لتقليل خسائرها مع عودة القوات الروسية إلى المنطقة، ظاهريًا للحد من انتشار العنف من إسرائيل إلى سوريا. وقد أُنشئت القواعد الروسية بعد أن قتلت إسرائيل جنرالات إيرانيين كبارًا في سوريا في نيسان/أبريل الماضي، مما أثار مخاوف من احتمال امتداد الحرب إلى سوريا. ويشكل تراجع الوجود الإيراني في سوريا ميزة لراعي الأسد الروسي، الذي لا يرغب في تقاسم السيطرة على سوريا مع طهران، بينما تغض روسيا الطرف عن الهجمات الإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية في جنوب سوريا، كما فعلت في المجال الجوي السوري، لأن فكرة إضعاف إيران في سوريا تعتبر ميزة لروسيا على المدى الطويل.

ما هي الخطوات المقبلة؟

من جانبها، قالت إيفا كولوريوتيس، الخبيرة المستقلة في شؤون الشرق الأوسط ومقرها لندن، لـ”دويتشه فيله”: “الأيام المقبلة ربما تكون الأكثر تعقيدًا بالنسبة لنظام الأسد. فسوريا تقف بين حليف إيراني يجد نفسه مضطرًا إلى استخدام كل أوراقه الاستراتيجية لحماية أمنه القومي ومصالحه الإقليمية، وحكومة إسرائيلية تريد إعادة رسم خطوط النفوذ في الشرق الأوسط، وخاصة النفوذ الإيراني”.

وحتى الآن، لم تطلب إيران من الأسد السماح لها بمقاتلة إسرائيل عبر الجولان. وتضيف كولوريوتيس: “لن تتخذ طهران هذا القرار الخطير إلا إذا واجهت تهديدًا لأمنها القومي، مثل استهداف برنامجها النووي. ولكن إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، فلن يكون أمام الأسد خيار سوى الامتثال لطلب إيران. لا أعتقد أن الأسد قد يضحي بهذه العلاقات إلا إذا كان هو ونظامه في خطر وجودي”.

ورغم أن سوريا تحاول التقرب من الدول العربية التي كانت تتجنبها في السابق أثناء الحرب الأهلية، فإنه من الصعب أيضًا على سوريا أن تتخلى عن تحالفها مع إيران لصالح علاقات أفضل مع دول الخليج. ومن المرجح أن يحاول الأسد الحفاظ على التوازن بين إسرائيل وإيران بالطريقة نفسها التي اتبعها والده من قبل.

أما من ناحية إسرائيل، فإن الهجمات الإسرائيلية على سوريا في الأسابيع الأخيرة هي جزء من سلسلة هجمات أوسع تستهدف، كما يبدو، ضرب كل أذرع إيران في المنطقة، بدءًا من حماس في غزة، مرورًا بحزب الله في لبنان، وصولًا إلى سوريا. ولا يمكن استبعاد أن تكون العراق و”الحوثيون” في اليمن المحطة المقبلة لإسرائيل.

فإسرائيل ترى أن لديها الآن فرصة نادرة كانت تستعد لها منذ سنوات، وهي الحرب على جبهات مفتوحة في وقت واحد، وهي الفرصة التي قد تستغلها لضرب كل أذرع إيران في المنطقة. ويبدو أن واشنطن تقبل بهذه الخطة، ولكن قد ترغب في إنهائها قبل دخول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير المقبل، والذي قد تكون لديه خطة جديدة لشرق أوسط خالٍ من “صداع” إيران. كما لن يكون مستبعدًا أن يعيد ترامب فتح ملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل، ليتفرغ لمهامه الأخرى وعلى رأسها الصين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات