العقوبات الأميركية الأخيرة على عدة شخصيات سورية داخل حكومة دمشق ومرتبطة بها يؤشر إلى دلالات سياسية لا سيما أنها تتزامن مع محاولات التطبيع بين الرئيس السوري بشار الأسد وعدة دول خليجية، وخاصة السعودية. واللافت أن مِن بين هذه الشخصيات المفروضة عليها تلك العقوبات شخصية تقود ملف التطبيع بين دمشق ودول خليجية، ووفق ما تمّ تسريبه، فإن تلك الشخصية هو ماهر الأسد شقيق بشار، حيث زار سرا الرياض مؤخرا، بينما حمل شروط التطبيع السعودية مع دمشق.

السيناتور الأميركي، جيم ريش، عقب الزيارات المتبادلة بين الإمارات ودمشق، قال إن التطبيع العربي مع الأسد سيفتح الباب أمام عقوبات محتملة سواء على الدول العربية أو دمشق نفسها، لأن الحكومة السورية لا تزال متعنّتة بسياساتها القمعية. ولم تغيّر من سلوكها إطلاقا، وفوق ذلك لا تزال خاضعة بالكامل لكل من إيران وروسيا، بحسب ما تقوله واشنطن. وهذا ما حدث بالفعل اليوم.

من هنا تبرز عدة تساؤلات حول معاني هذه العقوبات وفي هذا التوقيت بالتحديد، والأثر السياسي للعقوبات على الحكومة في دمشق، بجانب الرسائل التي تبعث بها هذه العقوبات للأطراف المنخرطة، تحديدا السعودية والإمارات، في التطبيع وتبدو أنها تخرج عن الطوق الأميركي.

معاني العقوبات

نحو ذلك، فرضت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، يوم الثلاثاء الفائت، عقوبات على أقارب للأسد ومقرّبين من “حزب الله” اللبناني الموالي لإيران، لدورهم في إنتاج “الكبتاغون” أو تصديره، وقالت إن “سوريا أصبحت رائدة عالميا في إنتاج الكبتاغون ويتم تهريب الكثير منه عبر لبنان”، إلا أن دمشق تنفي ذلك وكذلك “حزب الله”.

موقع “وزارة الخزانة الأميركية” نشر بيان رسمي قال فيه إن الولايات المتحدة فرضت عقوبات جديدة على ستة أشخاص، بينهم اثنان من أقارب بشار الأسد، لدورهم في إنتاج منشط “الكبتاغون” المخدر، مضيفا أن الاتجار بـ “الكبتاغون” يحقق ربحا يُقدر بمليارات الدولارات، وأن العقوبات ستُنفَّذ تحت قانون “قيصر” لحماية المدنيين السوريين.

الوزارة الأميركية أردفت أن قائمة العقوبات الجديدة من شأنها أن تسلّط الضوء على “الدور المهم لمهربي المخدرات اللبنانيين، الذين تربطهم علاقات وطيدة بحزب الله، في تسهيل تصدير الكبتاغون”، كما تؤكد على هيمنة عائلة الأسد على الاتجار غير المشروع بـ”الكبتاغون” المنشط الخطير الذي يُسهم في تمويل الحكومة السورية.

الباحث في العلوم السياسية والمتخصص في الشأن الأميركي، زياد سنكري، يقول إنه من الواضح أن السياسة الأميركية تجاه سوريا تتسم بعدم الوضوح وصولا إلى عدم الاكتراث في ظل انفتاح عربي على الأسد واحتضان قيادته بعد سنوات من العزل دون معالجة الأسباب المسببة للمقاطعة العربية لهذا النظام.

قد يهمك: السيناريو الجديد للعالم العربي.. إمكانية فرض عقوبات بعد التطبيع مع دمشق – الحل نت 

الدول العربية التي أعلنت علانية عودة العلاقات مع دمشق تعتقد أنه باستطاعتها فك الارتباط العضوي بين سوريا وإيران وهذا للعديد من المراقبين يشكل ضربا من الخيال تكشفه الوقائع على الأرض في ظل وجود مناطق شاسعة من سوريا تحت سيطرة أو حماية إيران والقوى الميليشياوية التابعة لها، وفق ما يقدره سنكري أثناء حديثه لموقع “الحل نت”.

الضبابية وعدم وضوح المقاربة الأميركية، دفع بالعديد ممن يُعتبرون من النخبة في واشنطن إلى توجيه رسالة واضحة وصريحة للإدارة الأميركية وخاصة الرئيس ووزير الخارجية محذرين من تبعات “اللاسياسة” الأميركية تجاه سوريا. ولا يمكن تجاهل هذه الرسالة في مطبخ السياسة الخارجية خصوصا أن الذين وقّعوا على هذه الرسالة هم من مخضرمي الدبلوماسية الأميركية الذين تسلموا الملف السوري في الإدارات السابقة. كما قام العديد من العسكريين المتقاعدين بالموافقة على الرسالة لما تشكله سوريا من أهمية جيوستراتيجية، وفق تعبير سنكري المقيم في واشنطن.

بالتالي هذه السلسلة من العقوبات الأميركية ضد شخصيات بارزة في حكومة دمشق تبدو جوابا أميركيا غير مباشر على هذا التقارب، أي أن التركيز في هذه الحزمة الجديدة من العقوبات ضد أركان الأسد على تجارة “الكبتاغون”، ربما يحمل معنى مفاده أن لا فائدة أو جدوى من التعامل وإعادة العلاقات مع هكذا نظام، لما له من علاقات مع إيران و”حزب الله” الضليع والمعروف بهذه التجارة اللا مشروعة، ومن ثم تحديد أشخاص مقربين من ماهر الأسد، يعزز من هذه الفرضية.

رسائل لدول الخليج

المتابع للسياسة الأميركية يلاحظ غض النظر الدائم للإدارة الأميركية عن كل ما يجري، حتى أن الانتقاد الموجه للخارجية الأميركية الدائم هو عدم تطبيق عقوبات “قيصر” بالحزم والفعالية لتحصيل تنازلات من الأسد ونظامه. الملف السوري شائك جدا، ولكن مع وجود شبه إجماع على بقاء الأسد في سدة الحكم، يجب أن يكون بحساب وتنازلات من جانب دمشق، سواء من جهة القيام بإصلاحات ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري وحماية الأقليات العرقية والدينية وهنا يظهر أهمية ملف الأكراد والخوف من أن يكون أي تقارب مع أنقرة على حسابهم، وفق ما يقوله سنكري.

هذه الانتقادات للسياسة الأميركية وحّدت الحزبين “الجمهوري والديمقراطي” وهو ما يُعتبر أشبه بالمعجزة في ظل الانقسام الأميركي الداخلي. فرئيس لجنة العلاقات الخارجية في “مجلس الشيوخ”، وهو من “الحزب الديمقراطي”، وجه انتقادات علنية لغياب مقاربة أميركية فاعلة في الملف السوري في وقت تسعى الدول العربية بإعادة الأسد إلى المسرح العربي والدولي وكأن شيئا لم يكن، ووجه انتقادات لعدم توجيه المساعدات إلى المناطق الأخرى، الخارجة عن سيطرة دمشق، وتكثيف العمل الدبلوماسي وبلاغ الأتراك بالخطوط الحمر والضغط المتواصل على الأسد لوقف الفظاعات بحق شعبه، وفق ما يقوله سنكري.

لذلك تحمل العقوبات الأميركية في طياتها رسائل غير مباشرة لدول الخليج التي أغرقها “حزب الله” اللبناني، بالتعاون مع حكومة دمشق بالمخدرات. وهذا ما يقلق ويمثل حساسية للخليج وخاصة أبو ظبي والرياض.

وتأكيدا على ذلك، قالت أندريا إم جاكي، مديرة مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في “وزارة الخزانة الأميركية”، إن سوريا أصبحت رائدة عالميا في إنتاج “الكبتاغون” المسبب للإدمان، ويتم تهريب الكثير منه عبر لبنان، والمقصود هنا هو تواطؤ “حزب الله” مع الشخصيتين اللبنانيتين المشمولتين ضمن هذه العقوبات وهما حسن دقو ونوح زعيتر، اللذان تربطهما علاقات بالحزب.

الإدارة الأميركية لديها العديد من الوسائل لمجابهة الحكومة السورية ومحاولات التطبيع معها ولكن سياسة الإهمال المتّبعة هي قصيرة النظر ولا أفق لها وستكون لها تبعات وخيمة. فإذا لم تغير إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، من سياستها فالتوتر بين تركيا والقوات الكُردية سيكون له عواقب دموية وستزيد روسيا وإيران من نفوذهما وتنظيم “داعش” سيعود للحياة وأزمة النازحين ستتعمق وستستمر ومعاناة السوريين ككل. كل هذا يأتي في ظل تقارب خليجي مع الصين وما لهذا من تبعات خطيرة على المصالح الأميركية، على حد وصف سنكري.

من بين الذين تعرضوا للعقوبات الأميركية، سامر كمال الأسد، ابن عم الرئيس السوري الذي قالت وزارة الخزانة إنه يشرف على منشآت إنتاج “الكبتاغون” الرئيسية في اللاذقية بسوريا، ووسيم بديع الأسد، ابن عم آخر اتهمته وزارة الخزانة بدعم الجيش السوري وبأنه شخصية رئيسية في شبكة إقليمية لتهريب المخدرات.

كما عوقب خالد قدور، الذي قالت وزارة الخزانة إنه رجل أعمال سوري وشريك مقرب من ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة بالجيش السوري. كما عاقبت وزارة الخزانة عماد أبو زريق، وهو قائد سابق في “الجيش السوري الحر” ويقود الآن ميليشيا تابعة للمخابرات العسكرية السورية، ولعب دورا مهما في تمكين إنتاج المخدرات وتهريبها في جنوبي سوريا، ويقود مجموعة ميليشيا تسيطر على معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن.

وزارة الخزانة استهدفت لبنانيين أيضا، وهما على صلة بـ “حزب الله” اللبناني، نوح زعيتر وحسن دقو. وقال مصدر أمني إنه صادر في حق زعيتر عشرات مذكرات الاعتقال في لبنان لكنه لا يزال طليقا. ولم يرد زعيتر على طلبات من وكالة “رويترز” للتعليق. وصدر حُكم في 2021 بسجن حسن دقو سبع سنوات في لبنان بتهمة تهريب “الكبتاغون”، بحسب المصدر نفسه.

إجراء العقوبات الجديدة يجمّد أي أرصدة أميركية للمستهدفين ويمنع الأميركيين عموما من التعامل معهم. ومن ينخرطون في تعاملات معينة معهم يواجهون احتمال فرض عقوبات عليهم.

رأس هرم “الكبتاغون”

في ذات السياق، قالت المتحدثة باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، روزي دياز، إن ماهر الأسد، يُشرف شخصيا على تجارة “الكبتاغون” خارج سوريا. وفي سلسلة تغريدات عبر حسابها الرسمي على منصة “تويتر” أشارت إلى أن عائدات تجارة “الكبتاغون” لدمشق تبلغ نحو 57 مليار دولار أميركي سنويا وتمثل 80 في المئة من إمدادات العالم.

المتحدثة باسم الحكومة البريطانية ترى إن استعداد دمشق للتعاون مع “حزب الله” وجهات إجرامية أخرى، يؤجج عدم الاستقرار الإقليمي ويخلق أزمة إدمان متنامية، مؤكدة أن هذا النظام لا يبالي طالما أنه يواصل جني مليارات الدولارات من عمليات المخدرات غير المشروعة.

مسؤولون إقليميون يقولون إن “حزب الله” اللبناني، المدعوم من إيران وأيضا الجماعات المسلحة السورية المرتبطة بحكومة دمشق تقف وراء تصاعد تجارة “الكبتاغون” الذي يُهرّب إما عبر الأردن إلى الجنوب أو عبر لبنان إلى أوروبا.

كل ما تقوم به أميركا هو رسالة لكل ديكتاتور أنه بإمكانه القيام بجميع الفظاعات بحق شعبه وأن يقوم بالتحالف مع الأنظمة القمعية، وفق سنكري. وأنشطة دمشق بالتعاون مع إيران في هذه التجارة تعتبر مخالفة لمبادئ واشنطن ومشاريعها في المنطقة، ولهذا فإن المقاربة الأميركية تجاه الملف السوري حتى الساعة هي رفض فكرة إعادة تعويم الأسد وحكومته.

هل خفضت واشنطن خطوات التقارب؟

خلال الفترة الماضية، زار رئيس إدارة المخابرات العامة السوري حسام لوقا، السعودية لبدء عملية التطبيع بين الدولتين. وكشفت مصادر دبلوماسية لـ”الحل نت”، وكذلك صحف أخرى ومنها سعودية لم تنكر وصول حسام لوقا إلى القاهرة قادما من مطار حميميم الذي تتوطن فيه القوات الروسية، للإشراف شخصيا على ترتيب رحلة وزير الخارجية السعودي، فيصل الفرحان، إلى دمشق بعد أن كشفت المساعدات السعودية عن عملية “تطبيع سرية” بين الدولتين.

كما وقد أكدت صحيفة “عكاظ” السعودية، مؤخرا، أن رئيس الأمن الوطني في سوريا علي مملوك ومدير المخابرات العامة حسام لوقا، قد زارا الرياض مطلع الأسبوع الماضي، وأجريا محادثات مع مسؤولين سعوديين حول العودة التدريجية للعلاقات بين البلدين، بعد أن تتعهد دمشق بحزمة من الإصلاحات على مستوى الوضع الداخلي والعلاقة مع المعارضة السورية، إضافة إلى تعهد دمشق ألا تكون مصدرا لتصدير” الكبتاغون” إلى الأردن ودول الخليج.

إلا أنه خلال الفترة الماضية تداولت أخبار عدة عن زيارة مرتقبة لوزير الخارجية السعودي لدمشق ومن ثم فتح السفارات بين الدولتين، إلا أن كل هذه الأمور تقلصت لتنحصر بين فتح القنصليتين فقط بين دمشق والرياض، وليس على مستوى فتح السفراء وتعيين سفير لكل منهم.

عليه فإن هذا يؤدي إلى نتيجة واحدة وهي أنه طالما أن التطبيع العربي في الإطار السياسي والدبلوماسي والإعلامي فقط. وحتى الآن، لم ترفع الإمارات مستوى التمثيل إلى مرتبة سفير في دمشق، باستثناء سلطنة عُمان، بجانب عدم قيام وسائل الإعلام العربية بفتح مكاتبها مباشرة في المناطق التي تسيطر عليها دمشق، يبدو أن هذا التطبيع العربي يأخذ في الحسبان الموقف الأميركي جيدا، ثم بعد رفض الأخير لتعويم الأسد سرعان ما تقلّص مستوى التقارب بين السعودية ودمشق ليقتصر على فتح القنصليتين فقط.

شرط الخليج في الوقت الراهن للتطبيع مع الأسد يركز على إعادة الدولة السورية إلى مكانها الطبيعي لتقوم بدورها الإقليمي والدولي بشكل كامل. وسوريا المقصودة الدولة والشعب وليس شخص بشار الأسد بحد ذاته، بالتالي لن يكتمل هذا التطبيع إلا بإيجاد حل للأزمات السياسية السورية ككل، وهذا مطلوب من الحكومة السورية قبل فتح الخليج أبوابها بالكامل لها، أي أن تساعد في إبعاد ما يدعو الآخرين إلى القلق على أمنها واستقرارها، ويتمثلون في إيران وميليشياتها، ولكن يبدو أن الأسد لن يغير سلوكه العدائي، وفق ما يبعثه الجانب الأميركي برسائل غير مباشرة اليوم، فقرار العقوبات الأخيرة يشير بوضوح مدى صحة هذه الفرضية، فإذا كانت دمشق جدية في محادثاتها مع الخليج، فلماذا ترسل ماهر الأسد، رأس هرم تجارة المخدرات. لذا يبقى التساؤل الأهم، هل ستعاود الخليج حساباتها جيدا وتراجعها مع واشنطن قبل إكمال خطوة التطبيع هذه مع الأسد على أكمل وجه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات