هي المرة الأولى في تاريخ تركيا التي تتجه فيها الانتخابات الرئاسية نحو جولة ثانية، في أعقاب جولة أولى متنازع عليها، وفي ظل عدم تمكن الرئيس الحالي، مرشح “حزب العدالة والتنمية”، رجب طيب أردوغان، ولا منافسه رئيس “حزب الشعب الجمهوري” كمال كليجدار أوغلو من تجاوز عقبة الـ 50 بالمئة.

لا بد أن هذه الانتخابات تحمل في طياتها أهمية قصوى، فهي تأتي مع إتمام أردوغان عامه العشرين في السلطة، وسط تضخم اقتصادي ونزاع حول السياسية الخارجية لأنقرة، وإثر الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد في السادس من شباط/فبراير الماضي، حيث إن احتمالات هزيمة أردوغان واردة جدا وإذا حدث ذلك حقًا في الجولة الثانية ، فهذا يعني إمكانية عودة أنقرة إلى السلك الديمقراطي، كما تعهّد بذلك كليجدار أوغلو، وتعهّد بإعادة بسط سيادة القانون في يومه الأول في سدة الرئاسة. بيد أن التوجه الجيوسياسي الفعلي لتركيا يبقى في فلك التكهنات، وهذا يوفر للشركاء الغربيين، وفق بعض التحليلات، فرصة للمساعدة في توجيه تركيا ما بعد أردوغان في الاتجاه الصحيح، خاصة على مستوى علاقة أنقرة بروسيا في الآونة الأخيرة.

لذا تبرز هنا بعض التساؤلات حول التغيرات التي يمكن أن تطرأ على العلاقات التركية الروسية في حال خسر أردوغان في الانتخابات الرئاسية، وإذا ما فاز كليجدار أوغلو، هل يمكن لتركيا التحالف بشكل كامل مع الغرب وتعيد النظر في علاقاتها مع روسيا، والعقبات التي تقف أمامها، بجانب كيفية حدوث تقارب تركي غربي حقيقي، وسط العلاقات التركية الروسية الوطيدة في الوقت الحاضر، وتداعيات ذلك.

التغيرات المحتملة

خلال السنوات الماضية أقام أردوغان علاقات وثيقة مع كل من روسيا وإيران ولا سيما في تقاسم النفوذ في بعض الدول، مثل سوريا وليبيا وجنوب القوقاز. كما وأبعد أردوغان تركيا عن الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، إلى حدّ التوتر في بعض السلوكيات، ولا سيما عندما قام بإصدار قرار بشأن شراء نظام الدفاع الصاروخي “إس-400” من روسيا، فضلا عن إقامة علاقات جيدة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

شوارع تركيا- “إنترنت”

تحليل لـ”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى“، يقول إن زعيم “حزب الشعب الجمهوري” المعارض، تعهّد في بسط سيادة القانون وتحقيق الديمقراطية ولهذه الغاية، تعهد تحالفه الكبير الذي يضم ستة أحزاب بالإفراج عن المسجونين ظلما في عهد “حزب العدالة والتنمية” بزعامة أردوغان، وبرفع القيود المفروضة على الحريات الأساسية. كما وعد أيضا بإعادة استقلالية المؤسسات التي تعرّضت لضغوط من حكومة أردوغان، بما في ذلك القضاء. ونظرا لالتزام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بدعم الديمقراطيات ضد الاستبداد، ستكون كل هذه التغييرات موضع ترحيب حار من دون شك.

غير أن الحسابات الجيوسياسية ما زالت غير واضحة، بالنظر إلى سياسة أردوغان في بناء علاقات مع الطرفين؛ الغرب وروسيا، فمثلا على الرغم من تقديمه طائرات بدون طيار “المسيّرات” ومعدات عسكرية أخرى لأوكرانيا، لكنه في الوقت ذاته رفض المشاركة في العقوبات الغربية على روسيا.

الكاتب والباحث السياسي والمتخصص بالشأن التركي، محمود علوش، إنه من الواضح أن أردوغان تمكن من الحصول على نسبة جيدة في الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم أمس الأحد، لكن تبقى الكلمة الأخيرة في جولة الإعادة. وفي ضوء ذلك، يعتقد علوش وفق حديثه لموقع “الحل نت”، أن العلاقات التركية الروسية ربما تكون قد أخذت نفسا عميقا الآن، بعد نتائج الانتخابات الحالية، ذلك لأن هناك مخاوف كبيرة في روسيا من احتمال انتصار المعارضة التركية، التي تريد إعادة تأكيد هوية تركيا كجزء من “حلف الشمال الأطلسي” (الناتو) وغيرها.

لكن مع عدم فوز المعارضة التركية بعد، حسب تقدير علوش، تبدو روسيا مرتاحة بشكل جيد عن النتيجة الحالية. أما فيما يتعلق بالعلاقات مع الغرب  يتوقع علوش في الفترة المقبلة أن تكون هناك حالة توازن في العلاقات التركية الخارجية، وإذا فاز أردوغان فسيواصل نهج التواصل مع الغرب وروسيا معا، لكن أنقرة ستبقى عامل مزعج للدول الغربية في العديد من القضايا الإشكالية.

إلا أن تركيا تدرك جيدا أن لها مصالح كثيرة مع الغرب، وهي ليست بوارد التخلي والتنازل عنها، فما تسعى إليه تركيا ربما هو الحصول على هامش الاستقلالية في تحركاتها ومحاولة الحفاظ على مصالحها مع روسيا وهي كثيرة وفي مجالات عديدة، على تعبير علوش.

يرى بعض الخبراء أن فشل أردوغان في الفوز بالانتخابات التركية يظهر مدى تراجع شعبيته وحضوره في البلاد، إضافة إلى أن نقل الانتخابات إلى الجولة الثانية يعزز فرص فوز كليجدار أوغلو بالرئاسة، الأمر الذي سيتأثر به أصوات الناخبين في جولة الإعادة، التي تقرر بحسب “رئيس الهيئة العليا التركية للانتخابات”، اليوم الإثنين، أن تجري في 28 أيار/مايو الجاري، وسط فشل أردوغان في تحقيق نصر مبين، كما كان يتزعم ويتوهم.

فرص تركيا الضئيلة

كليجدار أوغلو ليس صديقا مقرّبا لموسكو. وهو نفسه قد صرّح في السابق خلال مقابلة مع صحيفة “وول ستريت جورنال” بأن أنقرة ستمتثل للقرارات الغربية بشأن العقوبات ضد روسيا. كما تعهد بتقريب تركيا من “الناتو”و”الاتحاد الأوروبي”، بجانب الموافقة على انضمام السويد لـ”الناتو” قبل انعقاد قمة الحلف المقررة في تموز/يوليو المقبل.

على الرغم من توعّد أردوغان، أواخر العام الماضي، وفي احتفالية حاشدة، أعلن أردوغان رؤية حزبه “العدالة والتنمية” للـ 100 عام المقبلة تحت عنوان “قرن تركيا” أو “مئوية تركيا” أمام الآلاف من أنصاره، بتحقيق نصف هذه الأهداف التي يقولها كليجدار أوغلو، التي وعد بها أردوغان الشعب التركي، وهو أنه ستتم عضوية “الاتحاد الأوروبي”، ولن تكون هناك مشكلات في مجال حقوق الإنسان، وما إلى ذلك.

إلا أن هذا لم يحصل، بل وازداد حالة القمع والحريات بالبلاد ولا سيما بعد الانقلاب الذي حدث في عام 2016، وهو ما خلق توترات تركية غربية.

بالعودة إلى علوش، يعتقد أن العقبات التي تحول دون تحقيق اتفاق تركي كامل مع الغرب عديدة وتشمل تلك المتعلقة بقضايا عميقة وتاريخية في العلاقات التركية الغربية، على سبيل المثال قضية قبرص والنزاعات التركية اليونانية المزمنة.

في حين، يرى بعض المراقبين أن العلاقات الاقتصادية القوية بين تركيا وروسيا يمكن أن تشكل عقبة أمام التوصل إلى اتفاق كامل مع الغرب، وهو ما أشار إليه كيليجدار أوغلو في مقابلة مع “وول ستريت جورنال” عندما تحدث عن مدى صعوبة تحقيق هذا التوازن. وقال إنه سيحاول الحفاظ على الاستثمارات التركية في روسيا، بينما يدعم سياسة العقوبات الشاملة ضد روسيا. لذلك يبدو واضحا أن واقع الأعمال سيحدّ من قدرة كليجدار أوغلو على المناورة.

علوش يستبعد أن يكون هناك تقارب تركي غربي كبير خلال هذه الفترة، إذ ستكون هناك حالة توازن في العلاقات مع الغرب وروسيا، في حال نشوء الوضع السياسي الجديد وفق نتائج الانتخابات الحالية.

هذا يعني أنه في حال هُزم أردوغان أو خسر، فإن تركيا أمام جملة من العقبات في التوصل إلى توافق تام مع الغرب، وهو ما يعود لتشابك تركيا في علاقاتها الخارجية، واتباع استراتيجية تعدد العلاقات وفق مصالحها. كما واتباع أنقرة مؤخرا وقُبيل الانتخابات الرئاسية الجارية اليوم، سياسة “صفر مشاكل”، مع دول الجوار، مثل السعودية وإسرائيل ومصر ومؤخرا الحكومة السورية في دمشق، بغية تلميع صورة أردوغان، يظهر مدى تحركها وفق أهدافها المؤقتة وسياستها غير الجدية.

تداعيات التحالف مع الغرب

صحيح أن لتركيا مشاكل مع “الناتو” والاتحاد الأوروبي، لكن هذا لا يعني أن العلاقات مقطوعة تماما أو أنها سيئة للغاية. على الرغم من أن أردوغان أدلي بتصريحات سابقة تبدو أنها مناهضة لهم أمام الجمهور، إلا أنه يواصل التدريبات العسكرية مع “الناتو” ويحافظ على العلاقات الاقتصادية مع الغرب.

الانتخابات التركية في الـ14 من أيار/مايو 2023- “إنترنت”

في العموم وخلال الفترة المقبلة، لا يعتقد علوش أن تركيا ستشهد تحولات دراماتيكية في علاقاتها الخارجية سواء مع الغرب أو روسيا، ولا يرى أن ثمة  رغبة غربية في وصول التوترات مع تركيا لمستوى خطير، فالغرب حريصة أن تبقى في الوسط في حال لم تكسبها، أي زيادة ضغط على تركيا فإن أنقرة تأخذ خطوات نحو روسيا، وهو ما لا يريده الغرب.

لكن في حال تحالف تركيا مع الغرب بشكل كبير، بغض النظر عمّن سينتصر في الانتخابات التركية، فمن المرجح أن تلجأ موسكو إلى سلاحها التجاري لاستهداف الاقتصاد التركي، وهو ما سيؤثر كثيرا على أنقرة. خاصة وأن تركيا لديها علاقات تجارية كبيرة مع روسيا، ولا سيما في مجال الطاقة، وهو ما سيجعل منها أن تفكر مليئا في اتخاذ أي خطوة من شأنها أن تأزم وضعها الاقتصادي الهش أصلا.

الدول الأوروبية والولايات المتحدة، قد يستطيعون سد هذه الفجوة الاقتصادية، بزيادة التعاون الاقتصادي من الجانب الأوروبي، والتعاون الدفاعي من جانب واشنطن، ولا سيما في إحدى المسائل الشائكة، وهو التزم كليجدار أوغلو في حال فوزه بالانتخابات بعدم تفعيل صواريخ “إس -400″، ووضعها تحت حراسة مشتركة مع “الناتو”، فيتعين حينها على واشنطن الموافقة على طلب أنقرة شراء طائرات مقاتلة من طراز “إف-16″ و”إف-35”.

إجمالا، الجولة الثانية من الانتخابات التركية ستحدد مرحلة جديدة لتركيا أو البقاء في سياسة أردوغان القديمة، التي لا طائل منها، سوى استنزاف في العلاقات الخارجية، دون تحقيق أي نتائج مستقبلية كبيرة لتركيا.

أما في حال فاز كليجدار أوغلو في الانتخابات فسيتعين على تركيا أن تعيد التخطيط لجميع استراتيجياتها وسياساتها من الصفر تقريبا من أجل إعادة تأسيس العلاقات الدولية، والأهداف التي فاتتها، والبنية الاجتماعية التي فقدتها في السنوات العشر الماضية. فضلا عن تحوّل تركيا لدولة أكثر اعتدالا وغير عدوانية، ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى. لكن هذا ليس مضمونا أيضا لأن الميول اليمينية المتطرفة لا تزال قوية في البلاد وهذا ما يحتاج إلى كبح جماحها في البداية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة