يشهد الاقتصاد السوري ظاهرة غير مألوفة بارتفاع السعر الرسمي لصرف الليرة السورية مقابل سعرها في السوق الموازية، ليسود المشهد حالة من الغموض، وسط مضاعفة لمعاناة السوريين.

التفاوت بين السعرين؛ الرسمي للمصرف المركزي والسوق الموازي، أثار التساؤلات حول الدور الذي يلعبه “المصرف المركزي” وجدوى السياسات المالية التي يتبعها، إضافة إلى انعكاس ذلك على الاقتصاد السوري المُنهك والذي يواجه جملة من التحديات حتى يستعيد توازنه. 

سياسات ضاعفت معاناة السوريين 

من المألوف أن تحسّن العملة المحلية يبدو إيجابيًا لاقتصاد الدول، وبالنسبة للوضع السوري فهو ظاهريٌّ جيد، فيبدو أن “المركزي” يتبع سياسات نقدية صارمة كحبس السيولة مستهدفًا الحدّ من تدهور سعر الصرف وضبط سعر الدولار، لكن استمرار تلك السياسات له تداعيات اقتصادية قد تشمل ركودًا اقتصاديًا بالبلاد. 

في سوريا تخضع قيمة سعر الصرف لقوانين العرض والطلب، أي وفقًا لحجم المعروض من العملة الأجنبية مقابل الطلب عليها، فعندما يزداد الطلب على الدولار يرتفع سعره مقابل الليرة، بينما على العكس، عندما يزداد المعروض من الدولار في السوق نتيجة لتحويلات المغتربين أو التدفقات المالية الخارجية، ينخفض سعره. 

ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تحسّن سعر صرف الليرة السورية بصورة لافتة، من مستوى 28 ألفا في أواخر عمر “نظام البعث”، إلى 10 آلاف ليرة في السوق الموازية. 

وتهدف سياسات “المصرف المركزي” إلى خفض المعروض النقدي المحلي عبر حبس السيولة لتقليص كميات الليرة السورية المتداولة، مما يزيد من قيمتها مؤقتاً نتيجة لقلة المعروض منها، وبالتالي انخفاض سعر الدولار، ولكن هذا الإجراء يؤدي إلى انكماش اقتصادي، إذ يتراجع النشاط التجاري والاستثماري بسبب نقص السيولة في الأسواق. 

ركود اقتصادي 

تبنى”المصرف المركزي السوري” سياسة نقدية انكماشية تعتمد على تقليص الكتلة النقدية المتداولة، من خلال قطع التغذية النقدية عن المصارف التجارية وقنوات التمويل الأخرى، والتي تقلل المعروض من الليرة السورية، مما يزيد من قيمتها. 

في مقابل ذلك قد تؤدي هذه السياسة إلى ركودٍ اقتصادي نتيجة نقص السيولة التي تحدّ من القدرة على الإنفاق، وإضعاف حركة الأسواق بسبب تراجع القوة الشرائية. 

مؤخرًا ثبّت “المصرف المركزي السوري” سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية عند 13,200 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، لكن على الرغم من ذلك إلا أنه يحجم عن التصريف، وهو ما دفع السوريين نحو التعامل مع صرّافي البسطات لشراء الليرة السورية. 

فبعد أن أصبح مشروعُ تداول العملات الأجنبية، حيث منع النظام البائد التعامل بغير الليرة السورية، انتشرت ظاهرة الصِرافة العشوائية في الشوارع السورية ليتحكم السوق الموازي في الاقتصاد، خاصة وأنهم يصرفون الليرة بسعر أقل عن السعر الرسمي، وأصبحت قيمة دولار الشارع أقل بكثير عن قيمته وفقًا للسعر الرسمي. 

تحسن وهمي 

فسّر البعض تحليق الليرة السورية في السماء بالانفتاح السياسي الذي حققته “الإدارة السورية الجديدة”، لكن عادة ما يكون تحسّن سعر الصرف مرتبطًا بضخ استثمارات أجنبية أو رفع العقوبات وهو ما لم يحصل، ما يعني أن تحسّن الليرة السورية تحسّنٌ وهمي وسعرها غير ثابت وهو سعر مخادع. 

في السياق أرجع وزير الاقتصاد في “حكومة تصريف الأعمال السورية”، باسل عبد الحنان التذبذب الحاصل في سعر صرف الدولار مقابل الليرة إلى مضاربات التجار، مؤكداً خلال تصريحات صحافية، أن السعر وهميّ. 

سياسات “المركزي” جعلت الصرّافين يتحكمون بسعر الصرف، خاصة مع تجفيف السيولة وتحديد سقف للسحب قيمته 500 ألف ليرة سورية في اليوم، أي تقريبا 30 دولارًا، كذلك تأخر صرف الرواتب والاحتفاظ بودائع التجار المستوردين وعدم صرفها لبعد ستة أشهر، كلها عوامل أدت إلى زيادة الطلب على الليرة وزيادة الوفرة من الدولار نظرًا لأن العرض كبير، خاصة وأن تحويلات المغتربين إلى ذويهم في سوريا بالدولار الأميركي، وهو ما أدى إلى كارثة اقتصادية نظرًا لعدم استقرار الأسعار. 

هذا دفع “المصرف المركزي” نحو إصدار قرارا يسمح للمصارف المرخص لها بالتعامل بالقطع الأجنبي للأغراض التجارية وغير التجارية بما فيها الحوالات الشخصية، لتتمكن المصارف من بيع الدولار الأميركي في الحساب الخاص للعميل مقابل اقتطاع الليرات السورية من تلك الحسابات، بقيمة المبلغ المحوّل إليه باستخدام سعر صرف الوارد بالنشرة الصادرة عن المصرف بتاريخ تنفيذ العملية. 

إنهاك كاهل السوريين 

لم تسعف إجراءات “المركزي السوري” الهادفة إلى تحسين قيمة الليرة، وقف ارتفاع الأسعار الجنوني الذي أنهك كاهل السوريين، خاصة وأن التجار يقومون بشراء المواد الأساسية والغذائية والأدوية بالدولار، ثم يبيعونها بالليرة السورية للسكان، مع إضافة أرباح على قيمة الصرف وسعر المواد المباعة، ما يؤدي إلى ارتفاع مستمر في أسعار السلع. 

من جهته انتقد الخبير الاقتصادي، جورج خزام، القائمين على إدارة السياسات النقدية والاقتصادية في سوريا، وربطهم نجاح إدارتهم بمقدار الانخفاض الذي يحققونه بسعر صرف الدولار وبأسعار البضائع التي يشتريها المستهلك الأخير، مؤكدا أن النجاح الحقيقي يرتبط بمقدار الزيادة بحجم الإنتاج الوطني القابل للتصدير والبديل عن المستوردات، وتخفيض نسبة البطالة. 

إدارة “المصرف المركزي”، لم تتعلم الدروس من الخسائر السابقة التي تسببها سياسة تقييد حركة الأموال من أجل تجفيف السيولة بالليرة السورية وليس سحب فائض السيولة النقدية بالليرة السورية. 

الخبير الاقتصادي جورج خزام

ووصف إدارة “المصرف المركزي” لتلك المرحلة بـ”الفاشلة”، متّهمها بتسهيل المضاربة على الليرة السورية من خلال تجفيف السيولة بالليرة من الأسواق لتسهيل عمل الصرافين بتخفيض سعر الدولار إلى 7,000 ليرة، بعد انخفاض سعر صرف الدولار من 14,000 ليرة إلى 7,000، وعاود سعر الصرف للارتفاع مرة أخرى إلى 10,000 ليرة. 

كيف تورّط “المصرف المركزي”؟

الخبير الاقتصادي، أوضح خلال منشور له على صفحته بموقع التواصل “فيسبوك”، أيضًا أن تلك المضاربة عادت بأرباح تقدر بقيمة 75% أي مليارات الدولارات، قام الصرافين بالداخل والخارج بتحقيقها بالتعاون مع صفحات الفيسبوك المجهولة المصدر، مؤكدًا أنها خسائر دفع ثمنها كل الشعب السوري. 

وأشار إلى أن خروج تلك الأرباح بالدولار لصالح المضاربين يعني إضعاف الليرة السورية والاقتصاد الوطني والتجار والصناعيين، فضلًا عن المستهلكين. 

وأكد أن إدارة “المصرف المركزي” بسياسة تجفيف الليرة السورية جعلتها متورطًا بتسهيل عمل الصرافين للمضاربة على الليرة السورية ببيع كل 100دولار بسعر 1,400,000 ليرة، ليقوم الصرافين بإعادة شراء 200 دولار بسعر 1,400,000 ليرة. 

وأكد أن السياسة الفاشلة الهدامة التي كانت سائدة على عهد النظام البائد وما تزال الإدارة الحالية تتبعها بتجفيف السيولة بالليرة السورية لم تكون بأموال المصرف المركزي وسياساته النقدية، وإنما هي بأموال التجار والصناعيين والمواطنين من خلال منعهم من الوصول لأموالهم التي هي أمانة لدى المصارف بدون وجه حق وبطريقة غير قانونية. 

أدوات محدودة 

في تصريح خاص لموقع “الحل نت“، أكد الخبير الاقتصادي، عدنان عبدالرازق، أن أدوات “المصرف المركزي السوري” محدودة لعدم امتلاكه احتياطيًا من النقد الأجنبي، مشيرًا إلى أن كل ما يتوفر لدى المركزي وفق ما تسرّب بعد هروب نظام الأسد وسرقة الأموال نحو 200 مليون دولار. 

وأضاف أنه يُعد مبلغًا بسيطًا مقارنة مع الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى “المركزي” خلال الثورة السورية عام 2011، حيث كان لدى سوريا احتياطيًا يتراوح بين 18 و20 مليار دولار، لافتًا إلى أن عدم امتلاك الاحتياطي الأجنبي الكافي يعيق “المركزي” عن التدخل بشكل مباشر في السوق سواء عبر ضخ سيولة من خلال جلسات تدخل دورية أو سحب فائض السيولة من العملة المحلية. 

“المصرف المركزي” انتهج ما يسمى بحبس السيولة عبر تقليل عرض العملة المحلية بالسوق من خلال تقنين السحب وفرض شروط على سحب العملة المحلية، ومن تداعيات ذلك شكوى التجار والصناعيين بعد تقليل كتلة السحب لكل مودع. 

الخبير الاقتصادي، عدنان عبدالرازق

وأوضح أن “المركزي” حبس السيولة النقدية من الليرة حتى لا تزيد كتلة المعروض النقدي بالعملة المحلية ووفق العرض والطلب سيراجع سعر صرف الليرة السورية بشكل كبير، ولم يستجب إلى سعر السوق السوداء الذي أصبح الآن نحو 10,000 ليرة للدولار، في حين أنه يُسعر بقيمة 13,200 . 

مخاطر السعر الوهمي 

قال الخبير الاقتصادي، عدنان عبدالرازق، إن الفارق في السعر ربما يفسره البعض أن “المصرف المركزي” يتعامل كمُضارب أو كتاجر يريد أن يستفيد من فارق السعر، مشددًا على أنه لا يوجد أمامه حلول أخرى كمخزون الدولار أو العملات الأجنبية حتى يتدخل ويحافظ على سعر صرف الليرة. 

وأكد أنه كلما تحسن سعر صرف العملة المحلية كلما زادت الثقة من المُدخرين والمستثمرين وحتى المستهلك، ولكن ما نراه هو سعر وهمي متأثر بعوامل عديدة كعوامل سياسية نتيجة الانتصار وانفتاح سوريا على العالم الخارجي وتخفيف العقوبات الأميركية لستة أشهر، إضافة إلى الوعود الأوروبية برفع العقوبات أيضًا. 

أما بالنسبة للعوامل الاقتصادية، أشار إلى أن تأثيرها ضعيف، وأهمها ما يدخل من قطع أجنبي للسوق السورية نتيجة تدفق السائحين والوفود الأجنبية وعودة السوريين من دول الجوار وأوروبا، فكلما تحسن سعر صرف الليرة كلما انعكس على الاقتصاد السوري والثقة به. 

وبشأن مخاطر استمرار السعر الوهمي، قال إنها تتمثل في تأثّر السوريين في الداخل، مشيرًا إلى أن الدخل الشهري للعاملين نحو 300 ألف ليرة في حين أن الإنفاق الشهري يزيد عن 12 مليون ليرة، ويكسر السوريون هذا الفارق الكبير بين الدخل والإنفاق بالاعتماد على التحويلات الخارجية من ذويهم، مشيرًا إلى أن تلك الفجوة كان لها تأثير واضح على الأسر نتيجة تراجع سعر الصرف، فعندما كان يأتيهم على سبيل المثال حوالات بقيمة 100 دولار كانوا يصرفونها بـ 13.000 والآن أصبح  10,000 فاختلف الأمر وتراجع دخلهم نتيجة تراجع سعر صرف الدولار. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة