منح الأمان لفادي صقر، القائد السابق في ميليشيا “الدفاع الوطني”، لم يمرّ مرور الكرام في الشارع السوري، فبعد المؤتمر الصحفي الذي عقده حسن صوفان، عضو اللجنة العليا للسلم الأهلي، وتصريحات صقر اللاحقة التي نفى فيها أي تورطه بانتهاكات، انفجر الشارع السوري من جديد، مطالبين بتحقيق العدالة.
ولكن كيف يمكننا الحديث عن سلم أهلي حقيقي دون عدالة، فلا سلم أهلي دون عدالة حقيقية، تمنح ذوي الضحايا حقوقهم وجبراً للضرر، تُعاد للناس ثقتهم بأن ما فُقد لن يُمحى بالسكوت، بل يُستعاد بالاعتراف والمحاسبة.
هل يكفي وقف العنف لنتحدث عن السلم الأهلي؟
بعد سقوط نظام الأسد، ظهر مفهوم “السلم الأهلي” في ساحة صراع السورية، بين من يريد استخدامه لفرض هدوء والاستقرار، ومن يطالب به كحق اجتماعي قائم على المساءلة والإنصاف.

ففي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة الجديدة تقديمه كشرط للاستقرار، يتمسك أهالي الضحايا بمبدأ العدالة الانتقالية لترسيخ أسس السلم الأهلي.
قبل أيام عقد عضو اللجنة العليا للسلم الأهلي حسن صوفان، مؤتمراً صحفياً قال فيه: إن الحكومة أعطت الأمان لفادي صقر (قائد ميليشيا الدفاع الوطني سابقاً)، ما أثار موجة استنكار بين السوريين خاصة أهالي الضحايا، الذين يعتبرون صقر واحداً من مجرمي الحرب في سوريا.
ولتحقيق السلم الأهلي في سوريا اليوم، يقول المحامي والناشط في الدفاع عن حقوق الإنسان ميشال شماس في حديثه لـ “الحل نت“: مصطلح السلم الأهلي في سوريا، لا يمكن اختزاله في وقف العنف، بل هو عملية أعمق بكثير ترتبط بإعادة ترميم النسيج الاجتماعي، وبناء الثقة بين المكونات المجتمعية، ومعالجة الجراح المفتوحة التي خلّفها العنف والانقسام، هو مساءلة من ارتكب الانتهاكات، والاعتراف بالضحايا.
وعن إعادة تعويم فادي صقر يقول المحامي عمار عز الدين: “قد يكون من وجهة نظر الحكومة أن هذا التعويم مقابل تسويات سياسية أو ترتيبات أمنية، ولكن نؤكد بشكل حازم لا يمكن أن يُختزل مفهوم العدالة الانتقالية، مقابل هذه التسويات فالعدالة الانتقالية ليست مجرّد عنوان للمصالحة”.
لا يمكن الحديث عن تحقيق السلم الأهلي دون البدء بتطبيق بنود العدالة الانتقالية، لأن منح الأمان دون محاكمة يقوّض ثقة الناس بالمؤسسات الانتقالية”.عضو مجلس نقابة المحامين فرع حمص
المحامي عمار عز الدين
عضو مجلس نقابة المحامين في حمص
وهنا نستطيع القول إن السلم الأهلي الذي لا يُبنى على الاعتراف والمحاسبة، يبقى شكليًا، هشًّا، مهددًا بالانفجار من جديد عند أول احتكاك أو صدمة مجتمعية.
هل يمكن أن يتحقق السلم دون محاسبة؟
من الواضح جداً أن العدالة التي ينتظرها المتضررون، وأهالي الضحايا، مازالت غائبة حتى اليوم في سوريا، فالسلام الذي لا يقوم على الاعتراف بالجرائم ومحاسبة مرتكبيها، ليس سوى هدنة مؤقتة.
وهذا ما نراه اليوم، في صفقات سياسية تجريها الحكومة مع شخصيات النظام السابق، يقول شماس: “المصالحة بدون محاسبة كمن يعطي مخدر لمريض لتخفيف الألم دون معالجة المرض، فبدون اعتراف أو مساءلة يبقى الجرح مفتوحًا في الذاكرة الجماعية”.
لكن المطالبة بالمحاسبة، وإن كانت مطلباً محقاً منصفا للضحايا، إلا أنه يصطدم بواقع قانوني هش، ومؤسسات قضائية منهكة بسبب الحرب وتسلط نظام الأسد عليها ونخرها من الداخل، وهذا ما يأخذنا للسؤال الجوهري: هل تملك سوريا أصلًا الأدوات والبنية القانونية التي تتيح الدخول في عملية عدالة انتقالية حقيقية؟
هل تملك سوريا مقومات العدالة الانتقالية؟
حين نتحدث عن العدالة الانتقالية في سوريا، لا يكفي رفع الشعارات أو تبني لغة تصالحية، دون أدوات قانونية واضحة تمكّن الضحايا من الوصول إلى حقوقهم، وتمنح الدولة القدرة على مساءلة الجناة.
فسوريا ليست طرفًا في الاتفاقيات الدولية مثل نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”ICC”، أو اتفاقية الاختفاء القسري، أو البروتوكول الإضافي لمناهضة التعذيب.
من الصعب الحديث عن عدالة انتقالية حقيقية، في ظل نظام قضائي مترهّل، وقوانين لا تعترف بأغلب الانتهاكات المرتكبة.
ميشال شماس
محامي وعضو جمعية خليل معتوق لحقوق الإنسان
ويرى شماس أنه “لابد من إصدار نص تشريعي يضم هذه الجرائم الى قانون العقوبات، وسن قوانين خاصة للعدالة الانتقالية وإنشاء محاكم خاصة سواء داخل سوريا”.
وهناك مثال حي أمامنا، حينما قال حسن صوفان، عضو لجنة السلم الأهلي أن “الحكومة أعطت الأمان” لفادي صقر، أحد أبرز قادة الميليشيات.
فنتساءل هنا هل هذا التصرف قانوني من اللجنة أو من الحكومة اليوم؟، المحامي عمار عز الدين، علّق على هذا التصريح قائلاً إن “لا وجود لأي نص قانوني يمنح الدولة الحق في العفو عن مجرمي الحرب، فهذا ـ بحسب المادة 49 من الإعلان الدستوري ـ حق حصري للضحايا، ولا يمكن التنازل عنه بقرار سياسي.
وبالنظر لتجهل السلطة اليوم لملف العدالة الانتقالية، يرى البعض أن ليس إغفال أو تقصير إداري، بل يعكس نهجاً سياسياً يهدف إلى تثبيت أركان الحكم وتفادي تفجّر ملفات قد تهدد تماسكها الداخلي في اللحظة الحرجة.
كل ذلك في ظل عدم وجود توافق وطني، ولا حتى ضمانات خارجية واضحة، ما قد يهدد استقرار البلاد، لكن في المقابل، المماطلة في الاعتراف بالضحايا وتجاهل العدالة، لن يؤسس لسلام دائم، بل لغضب قد ينفجر لاحقًا.
وهذا ما أصبحنا نراه في عدة مناطق من سوريا، حيث بدأت عمليات التصفية والاغتيال التي يقوم بها مجهولون ضد عناصر وضباط ومخبرين سابقين متهمون بجرائم حرب، إلا أنها تجري خارج إطار القانون ودون تقديم أدلة.
عبء الإثبات على ذوي الضحايا؟
بعد سقوط نظام الأسد، وفي محاولة لنقل عبء العدالة من كاهل الدولة إلى الضحايا أنفسهم، بدأ أهالي الضحايا يبحثون عن أدلة تدين المجرمين الذين ارتكبوا جرائم بحق أبنائهم.
وأصبحت الصور تتناقل لأهالي المفقودين في السجون وهم يبحثون وثائق أو أدلة تدل حياة أو وفاة أبنائهم، وكأن من فقد ابنه أو تعرّض للتعذيب في المعتقل، عليه أن يصبح محققًا.
المحامي عز الدين يقول: “إن العدالة لا تُبنى على إثبات الضحايا فقط، بل على عمل مؤسساتي كامل، لجان التحقيق، جمع أدلة، محاكم، جهات إدارية معنية باتخاذ قرارات تتعلق بتطبيق العدالة الانتقالية”.
ويضيف أن: “مهمة اللجان هي إجراء التحقيقات وجمع الأدلة وتحضير قوائم مرتكبي الانتهاكات بالتعاون مع الضحايا وذويهم”.
وفي ظل العدالة مؤجلة، يرى شماس أن “طمأنة ذوي الضحايا، يثب لهم أن معاناتهم لم تُنسَ، ويحمل قيمة رمزية كبيرة، لمنع الثأر والانفجار في المستقبل.
لماذا تتجنب السلطة اليوم فتح الملفات؟
كان من المتوقع بعد سقوط نظام الأسد، أن تبدأ الحكومة الجديدة بفتح أرشيف الانتهاكات، ورفع الغطاء عن المجرمين، إلا أنها تجاهلت مسائل مهمة، مثل وثائق سجن صيدنايا أو أرشيفات الأفرع الأمنية.
لذا يقول شماس إن تجاهل الإدارة السورية الجديدة لمسار العدالة الانتقالية ليس صدفة، بل “يعكس تركيزها على تثبيت سلطتها، وربما أيضاً خشيتها من أن تطالها عملية المحاسبة نفسها”.
ويضيف أن، “هناك بعض رموز النظام المخلوع موجودة، ولها بعض النفوذ في السلطة الجديدة، ومن مصلحتهم طمس الأدلة أو تأخير المحاسبة لحماية أنفسهم أو حلفائهم”.
ويتابع “الأهم هو أن السلطة ليس لديها رؤية متكاملة للعدالة الانتقالية، وليست لديها أية إستراتيجية واضحة لكيفية التعامل مع الانتهاكات، في ظل ما تعانيه من تحديات أمنية واقتصادية ضخمة”.
وهنا يحذر المحامي عز الدين، من عدم المضي في مسار العدالة الانتقالية، وعواقبه على الحكومة والشعب السوري بالقول: لا يمكن الحديث عن تعافي المجتمع السوري بعد سنوات النزاع، والكم الهائل من الانتهاكات.
ويضيف، “لا يمكن تحقيق السلام والاستقرار الدائم في سوريا، دون تحقيق العدالة الانتقالية فهي مطلب اساسي وليس رفاهية”.
في المعضلة السورية، يرى كثيرون أن الحديث عن العدالة الانتقالية ترف في بلد يُرزح فيه 90% من السكان تحت خط الفقر، فلا تبدو العدالة الانتقالية أولوية لدى كثيرين، فيما يرى ناشطون سياسيون وحقوقيون، أن تجاهل العدالة الانتقالية سيعيد البلاد إلى الحرب بشكل أو بأخر.
فالعدالة الانتقالية وحقوق الضحايا وذويهم، ليست خياراً سياسياً، بل حق إنساني، لا يمكن لأي طرف أن يستخدمها كورقة مقايضة، ولا هبة يمنعها وقت شاء ويمنحها وقت شاء.
- بين نارين.. الجنوب السوري يدفع ثمن الحرب بين إسرائيل وإيران
- كاتس يتوعد خامنئي بـ “حرق” طهران: إسرائيل تخطّط لتغيير النظام؟
- لجنة عليا لانتخابات “مجلس الشعب”: ماذا عن أعضائها والإطار الزمني لعملها؟
- استئناف الحركة التجارية بين العراق وسوريا لأول مرة منذ سقوط الأسد
- احتفالات جماعة “الحوثي” بيوم “الولاية” تثير غضب اليمنيين
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
اشترك الآن اشترك في قائمتنا البريدية ليصلك كل جديد من الحل نت
مقالات ذات صلة

عواقب تمييع العدالة الانتقالية: ماذا حصل في حريتان بريف حلب؟

تحذيرات من “انفجار شعبي” ونسف العدالة الانتقالية: ما سرّ تعويم فادي صقر؟

تعويم فادي صقر: استخفاف من الحكومة أم ضرورة مرحلية؟

هيئتان لـ العدالة الانتقالية والمفقودين… ما المطلوب لضمان عمل مستقل؟
الأكثر قراءة

وزير الخارجية السوري: تفاهمات جديدة مع قطر تشمل التعاون المصرفي والصحي وتوريد الغاز

واشنطن تقلّص وجودها العسكري في سوريا وتحتفظ بقاعدة واحدة.. تفاصيل

هل بات طرد المقاتلين الأجانب شرطاً لإعمار سوريا؟

مواطنون: فرحة العيد منقوصة في دمشق

منحة “الشرع” بمناسبة الأضحى.. دعم اجتماعي أم عبء اقتصادي جديد؟

مناسبة للتعبئة والتحشيد.. كيف غيّرت جماعة “الحوثي” أجواء عيد الأضحى في اليمن؟
المزيد من مقالات حول في العمق

بين السلم الأهلي والعدالة الانتقالية.. سرديات متناقضة في وطن واحد

تحذيرات من “انفجار شعبي” ونسف العدالة الانتقالية: ما سرّ تعويم فادي صقر؟

التوتر بين واشنطن وطهران: ضغوط تفاوضية أم إرهاصات حرب؟

عضو بالوفد الكُردي لـ”الحل نت”: سيتم التفاوض مع سلطات دمشق على محورين رئيسيين

في العمق الاستراتيجي.. كيف تُعيد أوكرانيا رسم معادلة الردع بهجماتها على روسيا؟

مخازن أسلحة “الحوثي” في قلب صنعاء: أدوات موت تهدد حياة المدنيين

«صواريخ الـ4000 كيلومتر».. مقامرة إيرانية تهدد أوروبا وتجرّ اليمن إلى الزوال
