لا يمكن اعتبار الانشغال بالملفات السياسية وتشكيل الحكومات والأزمات الأخرى مثل التظاهرات وأخيراً جائحة “كورونا”، تبريراً لعدم الاهتمام بقضايا العنف ضد المرأة ومشاكل الأسرة، من قبل الصحافيين وصُنّاع الرأي والمهتمين بالشأن العراقي، كما أن وفاة “ملاك الزبيدي” النجفية جرّاء عنف أسري، لابد أن يخلق عين ثالثة تفتح هذا الملف، وتحديداً القسوة داخل المنازل التي تؤدي في النهاية إلى الوفاة.

في صحافتنا، تُعد المادة السياسية هي الأهم، ولا أدري كيف سادت هذه الفكرة، ومن الذي أفتى بأهمية بيان الحزب الفلاني والكيان العلاني على قضايا العنف والإرهاب المنزلي. هل لأن ممول المواقع والصحف والوسائل الإعلامية عموماً جهات سياسية؟ أم الإثارة وجمع القراءات والزيارات التي يتعب لأجلها المحررون لا تأتي إلا من المنشورات السياسية؟، أم أن العلّة في الصحافي نفسه؟.

واقعياً، لا تتدخل الجهات الممولة والراعية لوسائل الإعلام حتى وإن كانت سياسية بكل تفاصيل العمل، وأنها تُقحم نفسها ببعض المحاور الاسترتيجية الخاصة بها، وتفرض أحياناً بعض المحاور واجبة التنفيذ تبعاً لمصالحها، ولكن هل تمنع الكتابة عن “ملاك” وأخواتها، قطعاً لا، هذا يعني أن الكتابة عن “ملاك” وأخواتها المعنفات لن تُزعج الجهة صاحبة التمويل، وهذا مؤكد ويعرفه الصحافيون في العراق، إذاً لماذا لم نكتب؟

كما أن قضية حادثة حرق “ملاك” النجفية، احتلت مواقع التواصل الاجتماعي التي تُعد رجع الصدى الأهم للعراقيين خلال الأيام الماضية أكثر من ملف مصطفى الكاظمي وتشكيل الحكومة الجديدة، وأكثر من القصف التركي لمناطق شمال العراق، وليست مبالغة إن قلت أن حادثة “ملاك” أخذت حيزاً أكبر من جائحة “كورونا”، وهي الأكثر تداولاً منذ أشهر، فلماذا لم نكتب؟ ولماذا بقينا ننتظر البيانات الرسمية بشأنها؟.

يعرف الزملاء من الصحافيين أن المواد السياسية المكتوبة، لم تعد ذات أهمية كبيرة للقارئ، ولعل بعض الصحف العربية استشعرت هذا الأمر قبل صحافتنا المحلية، حتى لجأت إلى استقطاب صحافيين لكتابة الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية ورصد الحالات الغريبة والمدهشة، في المقابل قلّصت المساحات المخصصة للمواد السياسية التي باتت مستهلكة ومملة إلا ما رحم ربي، ومن هنا لماذا لم نكتب؟

عبر كشف هذه الكواليس الصحافية، يتضح أن العلة أو الخلل بالصحافي العراقي نفسه، فهو يتوارى عن “ملاك” وأخواتها، لأسباب يمكن إيضاحها بأنها خاضعة لاهتمامته الشخصية وتوجهاته الفكرية وربما العقائدية وليس بعيداً أن تكون عقليته العشائرية والقبلية، فالصحافي لا يختلف عن غيره، فهو ابن هذه البلاد الحزينة والغاضبة والخجولة والعنيفة، ويتأثر بكل ما يمكن التأثر به، وربما من الصعب عليه أن يكتب عن “ملاك” وأخواتها ويُطالب بوقف العنف ضد المرأة، ولكن من السهل عليه أن يكتب مادة سياسية غير حيادية يتهم فيها جهة سياسية بالفساد والإرهاب والرجعية، لسبب واحدٍ فقط، هو أن هذه الجهة تختلف مع مموليه.

المشكلة الأكثر إيلاماً، أننا نخضع أحياناً إلى النمطية الساذجة التي أوجدها مدونون ونشطاء على مواقع التواصل، فيقول أحدهم: أنت تدافع عن المرأة في محاولة للتقرب منها. وكأن المرأة استراحة سياحية في جزيرة خضراء، والكتابة عنها بمثابة حفلة تملق أو تودد ينتهي بانتهاء الفيزا لهذه السفرة، والحق قد تكون هذه النمطية تُهدد في أحيان كثيرة الشروع بالكتابة عن “ملاك” وأخواتها.

لابد من إدراك أن المنشورات والتغريدات وحدها لن تدفع البرلمان العراقي أو المنظمات المدنية باتجاه تعديل قوانين العنف الأسري المعمول بها في العراق، كما أن مطالبات المواطنين العادية على مستوى شاشات التلفاز لن تؤثر بسلاطين المنطقة الخضراء، وأن التوثيق الصحافي الاحترافي والمهني وحده قادر على انقاذ المعنفات في المنازل والمفجوعات من صمتنا نحن القادرون على الكتابة والحديث.

ماتت “ملاك الزبيدي” بسبب العنف والقسوة والأمراض النفسية والعقد الاجتماعية والقبلية والدينية، كما ألف “ملاك” قبلها، وستموت “ملاك” مع أخواتها، من دون أن يتحرك الصحافي الذي يُصر على البقاء جملة تابعة بدلاً من سلطة رابعة، ونأسف إن بقيت “ملاك” وأخواتها، عند الصحافي العراقي مثل القلم الإضافي والفائض عن اللزوم أيام الدراسة الأولية.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.