انتحار، أو نحر الخوري، جورج حوش، في مدينة اللاذقية، في مساء يوم الأربعاء 6-4-2022. ليس أمراً هينّاً هذا، ولا فعلا اعتياديا، ولهذا أثار انتحاره ضجةً كبيرة، وما زالت تتفاعل الآراء حول الحادثة. ليست المؤسسة الكنسية في سوريا عادلة ومنصفة لعموم التابعين لها، وكذلك لحقوق رجال الدين.

 المطرانية والبطريركية، عادة ما ترتبك حينما تُواجِه مسألة إشكالية، كَكَفِ يد رجل الدين عن الصلاة أو خلع لباسه الديني، وإعادته إلى شخصٍ مدني وعادي.

 الملفت أن ينتحر الرجل في الهيكل المقدس. هذا غريب للغاية، ويتطلب دراسة نفسية اجتماعية عميقة، وهذا متعذر في بلادنا “التعيسة”؛ فالمكان ليس للشيطان بل للمسيح وللإعداد وللتهيئة قبل خروج رجل الدين إلى المؤمنين واللقاء معهم وقيام الصلاة، فهل يكون جورج قد اختاره بسبب كل تلك المسائل وللتكفير عن سلوكيات “مشينة” قد يكون ارتكبها.

إميل دوركهايم، يؤكد أن الانتحار ليس فعلاً فردياً، وإنما نتيجة عوامل اجتماعية أيضاً. الخوري جورج لديه عائلة، وواجبات دينية أمام الله والسيد المسيح، أي منظومة قيم اجتماعية ودينية، ومع ذلك يقوم بالانتحار! أيضاً، هو من يتلقى الاعترافات، ويقينه الديني يساعده على تخليص المؤمنين من المشكلات والأخطاء.

 وللتوضيح هنا، فلقد كُفت يده منذ أكثر من ستة أشهر عن القيام بأية أعمال تخص رجال الدين، بل ومُنع من دخول دار المطرانية، وهذا مؤلم للغاية له، لكن ذلك يعني أن غضباً شديداً يتملك قادة المؤسسة الكنسية من مواقفه وسلوكياته، وبالتالي هناك اتهامات كثيرة ضده، وبالتأكيد سيكون منها أكاذيب للتشهير به وإدانته مجتمعياً.

الإيمان واليقين والالتزام الكنسي، أو الديني بعامة، يجعل رجل الدين قوياً، متماسكاً، صبوراً كًجَمَلٍ تجاه البلاء، ومهما تعاظمت المظلوميات.

إذاً هناك ما هو أكبر من أن يُحتمل ويدفع برجل الدين إلى الانتحار، وربما للتكفير عن ممارسات تخصه هو بالذات، ويصير حينها الانتحار من أجل التخلص من الذنوب، وكذلك احتجاج ضد المؤسسة الكنسية، التي لم تبادر إلى محاكمته مثلاً، وتركته للعذاب الذاتي، وبالنهاية طرده خارج أسوار خدمتها، وتم تهديده بذلك بالفعل.

المؤسسة الكنسية وتقرير وزارة الداخلية السورية أكدوا أنها حادثة انتحار، وليس النحر. ولكن، هل يمكن أن يكون قُتل؟ ربما أيضاً، ولكن ما هي رسالة القاتل ليقوم بجريمته داخل الكنسية والمصلين بها. يمكن أن يفعل ذلك خارجاً، في شارعٍ فرعيٍّ، وهذا يناسب العمل الإجرامي. وبالتالي، أغلب الظن أن القتل تمّ انتحاراً، وهذا أقرب للمنطق والعقل وللحالة النفسية السيئة التي وصل إليها الخوري.

في سورية، أصبحت درجات التعاسة واليأس والتعب النفسي أكثر من أن تحصى، أو أن تحدّد بدقة؛ هي إحدى عشر عاماً من الألم المستمر، من الموت الرهيب، من التأزم، من الفساد والنهب وانعدام المسؤولية؛ من الجحيم.

 هذه الأوضاع وَلّدت أزماتٍ أخلاقية كبرى، ووجدانية غير قابلة لسبر أغوارها. ما يسري على الإنسان العادي يسري على رجال الدين، والقيم الأخلاقية والدينية لا تقي المرء حينما تتغلب عليه المشكلات النفسية، أو إن كان رهيف النفس، متألم لما أصاب الناس. نعم، هناك ما لا يطاق، ولا يُحتمل، وبالتالي، يمكن للمسؤول عن رعيته ومكفوف اليد عن التواصل الروحي معها، ويرى الكثير من التأزم، ويشعر بعظمة أخطائه، ومؤسسته الكنسية ليست عادلة، أن ينتحر.  

ليس من سابقة للانتحار بين رجال الدين في سورية. وهم عادة من المستقرين نفسياً ومادياً واجتماعياً. كونه رجل دينٍ يجب ألا يمنعنا من التفكير الشديد والشك السيئ بالرجل، ولو تطابق الأمر مع اتهامات وجهتها له الأوساط الكنسية، كأن يحصل على أموالٍ “فساد” للمساعدة في الهجرة أو تسهيل القيام بالتعميد لغير المسيحيين من أجل السفر”مخالفة لقواعد المؤسسة الكنسية” أو مساعدة المتزوجين من أديان مختلطة “عمل جيد”، وهناك اتهامات له بالابتزاز المالي “احتيال” من عائلات لديها أشخاص مفقودين وسواه.

 إن الموت المشهدي ذاك، وضمن الهيكل المقدس يتضمن رسالة للمصلين وللمؤسسة الكنسية بأكملها ولأهل سورية كافة، وربما هي للتكفير عن الذنوب! وأيضاً هناك رسالة إن كان الرجل منحوراً وليس منتحراً.

 لا يمكن عدم رؤية هذا التعقيد في الانتحار ذاته وفي شخصية الرجل، وبالتالي ما هي رسالة الانتحار أو النحر؟ إن كنت تعيش في سوريا، وفي مدينة اللاذقية، فكل الاحتمالات ممكنة، كل أشكال الموت ممكنة.

 أن “يشق” رجل الدين ثوب الطاعة، ويقوم بأعمالٍ تتجاوز دوره الرتيب في الصلاة والواجبات الدينية والتراتبية الدينية ليس أمراً محبذاً بل ومكروها أيضاً من المسيطرين على المؤسسة الكنسية، وسيكون محطَ نقدٍ شديدٍ أيضاً، وعادة ما يتم مراعاة هؤلاء المسيطرين من قِبل السلطة، وهذا ليس بعد 2011، بل قبل ذلك، ومنذ السبعينيات.

الرجل مأزوم ومتألم بشدّة؛ فهو ينظر لنفسه كرجل دين، وليس من السهل أن يتقبل النبذ الديني الكامل، وانهيار موقعه الاجتماعي بشكل كبير، وبالتالي دُفع للانتحار. إن وصوله إلى هذه النتيجة، يدفعه للتفكير بطريقة مشهديه ومؤثرة للغاية، وكرسالة احتجاج تهز أركان المؤسسة الكنسية، التي هي مسؤولة عن أحواله السيئة ولم تسعفه، بل نبذته، ولم تجد له حلاً، يبقيه رجل دين ولا تتلطخ سمعته.

 وهي بدأت ذلك بكل الأحوال عبر كف يده عن القيام بالصلاة بالناس! إذاً هناك غايات لفعلته، ولم يعد قادراً على المتابعة، والمشكلات تثقل كاهله، وأجوبته لم تعد تُسكّن آلامه وآلام رعيته عما أصبحوا عليه، أو عما هو فيه من عزلة وتعاسة.

سوريا المتألمة بكثرةٍ بين المنافي والإفقار والقمع والإذلال والانهيار شبه الكامل، مقبلة على انتحارات كثيرة وأمّا النحر فهو لم يتوقف أبداً بتاريخها ولا سيما بعد 2011، وكلما اتسع الزمن للفوضى ولانعدام الأمل بالتغيير زاد منسوب الانتحار والنحر، وعكس ذلك إن وُضِعَ برنامجاً عملياً للانتقال السياسي، أو لأي شكلٍ من أشكال التغيير. أن ينتحر رجال الدين يعني أن سوريا مقبلة على مزيد من التأزم والتعاسة والألم والموت، وأن يُنحَر، فهذا مما كان يحدث دائماً في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.