بين التكتيك والاستراتيجية.. ما دلالات الانسحاب الروسي من خيرسون الأوكرانية؟

الانسحاب الروسي من مدينة خيرسون الأوكرانية في الحادي عشر من الشهر الجاري، يُعتبر تحولا ميدانيا كبيرا في الحرب الروسية الأوكرانية، حيث أثار العديد من التساؤلات حول دلالاته وتأثيراته المستقبلية، لدرجة أنه يمكن اعتبار الانسحاب الروسي من خيرسون نقطة فارقة ستختلف الترتيبات والتفاعلات التي سبقتها عن تلك التي ستأتي بعدها.

الانسحاب المثير للجدل

ردود الفعل والرؤى التقييمية لعملية الانسحاب الروسي من مدينة خيرسون، تمثلت في اتجاهين متعارضين، حيث اعتبر أنصار الاتجاه الأول أن ما حدث يمثل تحديا كبيرا للاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وينظر هؤلاء للانسحاب كونه نقطة تحول ومحطة فارقة ضمن مساعي كييف لإحكام سيطرتها على جنوب البلاد.

معارك خيرسون الأخيرة “رويترز”

في هذا السياق، وصف سيرجي ماركوف، المستشار السابق لـ”الكرملين”، الانسحاب بأنه أكبر هزيمة جيوسياسية لروسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. فيما أشار الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى أن الانسحاب دليل على المشاكل التي يعانيها الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية، واعتبر الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، أن دخول وحدات من القوات الخاصة الأوكرانية إلى خيرسون يعد يوما تاريخيا لبلاده. كما رأت وزارة الدفاع البريطانية أن الانسحاب بمنزلة فشل استراتيجي لموسكو. ووصف مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، سيطرة أوكرانيا على خيرسون بالنصر الاستثنائي.

أما الاتجاه الآخر فيرى، أن روسيا لم تنسحب من خيرسون، وأنها لا تزال تسيطر على جزء كبير من المناطق الواقعة في شرق نهر دنيبرو، وأن ما حدث لا يخرج عن كونه تراجعا تكتيكيا تسعى موسكو من خلاله لإعادة انتشارها وترتيب أوراقها وأدواتها العسكرية والعمل على تعزيز مواقعها الدفاعية بهدف الاستعداد لمرحلة جديدة من الحرب. ويدعم أصحاب هذا التوجه رؤيتهم بشروع روسيا منذ فترة في نقل الجنود والمعدات وتغيير مواقع القيادة العسكرية، وهو ما يشير إلى أن الانسحاب الأخير لم يكن مفاجئا، بل كان مخططا.

دلالات الانسحاب من خيرسون

استمرار الصدمات العسكرية لروسيا، حيث تعكس التحولات الأخيرة في الحرب الأوكرانية أن روسيا لم تعد تمتلك القدرة المطلقة في توجيه دفة هذه الحرب والتحكم في مسارها، خاصة في ظل الخسائر الميدانية والعسكرية التي تعرضت لها القوات الروسية خلال الفترات الماضية. إذ يعتبر الانسحاب من خيرسون ضمن الصدمات الكبرى التي لحقت بموسكو، خصوصا بعدما نجحت أوكرانيا في السيطرة على مدينة خاركيف في أعقاب هجوم مضاد شنته قواتها في مطلع شهر أيلول/سبتمبر الماضي.

أيضا نجحت كييف في ضرب المواقع الاستراتيجية واللوجستية لروسيا على غرار استهداف جسر القرم في شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي. كما لا ينفصل التطور الأخير عن الإخفاقات العسكرية المتتالية لروسيا، ولعل عدم القدرة على إخضاع كييف لسيطرتها، وتراجع موسكو عن أهدافها العسكرية عدة مرات، وتبديل القيادات العسكرية المسؤولة عن إدارة المعارك؛ هي أدلة على حالة الارتباك والتخبط التي تسيطر على صناعة القرار العسكري في روسيا.

تصاعد الشكوك حول استراتيجية موسكو، حيث يضع الانسحاب من مدينة خيرسون، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وضع حرج، خاصة أن المدينة تعتبر محورا استراتيجيا لمجمل تحركات موسكو في مواجهتها العسكرية مع أوكرانيا، كما أن تركها خالية للقوات الأوكرانية جاء بعد فترة قصيرة من احتفال بوتين بضمها للاتحاد الروسي، وسط تعهدات من الكرملين بأن موسكو ستبقى في المناطق الأربع التي ضمتها للأبد.

من هنا لا يفي التراجع في خيرسون، حتى ولو كان تكتيكا، بهذه التعهدات التي كانت تؤكد أن أية اعتداءات أو هجمات على تلك المناطق تعد هجوما على روسيا يستوجب الرد بشكل حازم. كما أن خسارة الميزة الاستراتيجية التي كانت تمنحها خيرسون للقوات الروسية قد تزيد من الشكوك المثارة حول الاستراتيجية العسكرية لموسكو في أوكرانيا، وجدوى استمرار الحرب في ظل عدم قدرة موسكو على تأمين مكاسبها الاستراتيجية وتحولها من الوضع الهجومي إلى الدفاعي بمرور الوقت.

نجاح استراتيجية “التقدم البطيء” لأوكرانيا، ففي مفهوم الربح والخسارة، يبدو أن الاستراتيجية الأوكرانية قد حققت تقدما ملحوظا مقارنة بوضع القوات الروسية، حيث عمدت كييف إلى اتباع استراتيجية إسقاط المدن والقرى واحدة تلو الأخرى من خلال مهاجمة القوات الروسية ببطء. واستغرق إجبار روسيا على الخروج من خيرسون، ما يزيد على شهر ونصف منذ أن شنت القوات الأوكرانية هجوما مضادا في نهاية آب/أغسطس الماضي، بهدف الضغط على القوات الروسية وتضييق الخناق عليها.

من أجل تحقيق ذلك، عملت أوكرانيا على حرمان روسيا من عدد من المزايا اللوجستية، وذلك من خلال مهاجمة الجسور وطرق الإمداد الرئيسية، الأمر الذي ساهم في عزل القوات الروسية في خيرسون على الضفة الغربية لنهر دنيبرو، وفرض مزيد من التحديات والضغوط عليها. وهذا ما يمكن ملاحظته من تصريحات قائد القوات الروسية في أوكرانيا، سيرجي سوروفكين، في 19 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حيث قال إن “موقفهم في خيرسون صعب”، وألمح وقتها إلى أن الانسحاب بات ضروريا.

فعالية الدعم الغربي لأوكرانيا، لم يكن الصمود الأوكراني متوقعا منذ اندلاع الحرب، إلا أن عامل الوقت أثبت أن القوات الأوكرانية بإمكانها تحقيق نجاحات ومكاسب ميدانية شريطة استمرار الدعم الغربي لها. وبالتالي يدل الانسحاب الروسي من خيرسون وعدد من المدن في أوكرانيا، على فعالية المساعدات العسكرية الغربية وقدرتها على التأثير على مجريات الحرب، حيث استخدمت كييف في حملتها العسكرية لتحرير خيرسون أنظمة الصواريخ بعيدة المدى التي حصلت عليها من الولايات المتحدة، وهو ما فرض قيودا على المجهود الحربي الروسي.

نتيجة لذلك، يمكن أن يؤدي حصول أوكرانيا على مزيد من الدعم العسكري الغربي، إلى مواصلة المكاسب واستنزاف روسيا بشكل أكبر، حيث إن هذه المساعدات من شأنها إلحاق الضرر بالقوات الروسية، كما أن تزويد أوكرانيا بمنظومات دفاعية متطورة يُمكنها من الحد من تأثير الضربات الصاروخية الروسية مستقبلا، مما يصب في صالح كييف التي بدأت تقلص مساحات السيطرة العسكرية لروسيا خلال الفترة الماضية.

مسارات المرحلة المقبلة في الحرب

معارك مكثفة في شرق أوكرانيا، فمن المحتمل أن تسعى روسيا لرد الاعتبار ومحو الصورة السلبية المصاحبة للانسحاب من خيرسون، والعمل على تعويض الخسائر التي لحقت بها خلال الأشهر الماضية، وقد يكون شرق أوكرانيا مسرحا محتملا لمزيد من المعارك بين الطرفين خلال الفترة القادمة. ويُفترض هذا السيناريو إعادة روسيا نشر قواتها وعناصرها المنسحبة من خيرسون في شرق أوكرانيا، مع تكثيف الجهود العسكرية لحسم السيطرة على إقليم دونباس بشكل كامل، بما يحقق جزءا من أهدافها الاستراتيجية. ويمكن الاستدلال على التصعيد الكبير المُحتمل في شرق أوكرانيا من خلال تصريحات الرئيس زيلينسكي، في 14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، حيث وصف القتال في دونيتسك الشرقية بالجحيم، ما يشير إلى مستوى وصعوبة التصعيد القائم والمُحتمل شرقا.

خطوط مواجهة مجمدة، حيث يمكن أن يسعى كل طرف لضمان استمرار نفوذه على المناطق الجغرافية الواقعة تحت سيطرته، دون التعرض لأية خسائر عسكرية على الأقل في الوقت الراهن، في ظل قناعة الطرفين أن استمرار المعارك بذات المستوى مع دخول الشتاء سيكون أمرا بالغ الصعوبة. إذ تشير التقديرات إلى أن المجهود العسكري للطرفين سيتأثر بحالة الطقس وانخفاض درجات الحرارة، ما قد يفرض تحديات وقيود على العمليات العسكرية. وعليه، يُرجح أن تتراجع الهجمات والضربات العسكرية بين القوات الروسية والأوكرانية، مع تثبيت خطوط المواجهة خلال فصل الشتاء، وهو ما يمكن أن يكون سيناريو يشبه الهدنة الاضطراري.

إمكانية أن يكون هناك تدخلات دبلوماسية، وهذا المسار يرتكز على فرضية عدم قدرة طرفي الحرب على حسم المعارك بشكل كامل، مما يزيد من حالة الاستنزاف والخسائر لديهما، الأمر الذي قد ينتهي بتغليب الأداة الدبلوماسية على العسكرية، ومحاولة اختبار جهود الوساطة بين الطرفين. وفي هذا الإطار، يظل من الصعب تحقيق اختراق دبلوماسي وسط التصعيد الراهن، علاوة على عدم وضوح الرؤية بشأن التنازلات التي يمكن أن يقدمها كل طرف للآخر، وحدود المقبول والمرفوض بالنسبة لهما، فضلا عن شروط العملية التفاوضية، وطبيعة الوسيط. ومع ذلك، يبقى هذا الاحتمال قائما، خاصة بعدما تصاعدت الأحاديث بشأنه مؤخرا، حيث ألمحت عدة تقارير إلى مساعٍ أميركية وأوروبية للضغط على أوكرانيا للقبول بالجلوس على طاولة المفاوضات، وحثها على تقديم تنازلات فيما يتعلق باستعادة شبة جزيرة القرم، علاوة على إشارات مماثلة من قِبل روسيا بشأن الانفتاح على التفاوض. وعلى الرغم من أن نهاية الحرب الجارية ربما لن تكون إلا من خلال المفاوضات والدبلوماسية، فإن الوصول إليها قد يحتاج مزيدا من الوقت.

قتال عنيف بانتظار أوكرانيا

القوات الأوكرانية تواجه عقبات تهدد بإبطاء التقدم، حيث يستعد كل جانب لمواصلة القتال حتى العام المقبل، ولا يقترب أي من الجانبين مما يتصوره على أنه انتصار، حيث تمكنت روسيا من سحب أفضل وحداتها القتالية من خيرسون، مما يعني أنها ستتمكن على الأرجح من إدارة قتال أعنف على طول الجبهة.

كما أن روسيا عززت مواقعها الدفاعية مما أجبر الأوكرانيين على محاولة اختراق خطوط دفاع متعددة، وتجعل الظروف الجوية والأراضي الموحلة المناورة صعبة بشكل خاص كما أن الأوكرانيين، مثل الروس، يصارعون مع إمدادات الذخيرة والإنهاك الذي يؤثر على أداء الجنود.

قوات روسية منسحبة من خيرسون “وكالات”

صحف غربية نقلت عن عسكريين أوكرانيين قولهم إن “المعركة الصعبة ستكون خارج سفاتوف” وهي مدينة على أطراف خيرسون، مبينين أن وحداتهم حاولت مؤخرا الدخول إلى قرية لكنها وجدت نفسها في كمين، كما أن مجموعات من القوات الخاصة الروسية تختلط بالقوات التي تم تعبئتها حديثا.

أيضا فإن موسكو تمكنت من تعزيز دفاعاتها إلى حد ما، بينما أطلقت أيضا حملة قصف لا هوادة فيها على البنية التحتية الأوكرانية الحيوية، وقد أدى هذا الوضع إلى اقتراحات، أبرزها من رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال، مارك ميلي، بأن الوقت قد يكون قد حان لأوكرانيا للتفاوض على حل سياسي للصراع مع روسيا، الأمر الذي من شبه المؤكد أنه سيتطلب تسليم بعض الأراضي.

في مؤتمر صحفي مؤخرا، قال ميلي إن الخطوط الأمامية من خاركيف وصولا إلى خيرسون “بدأت في الاستقرار”، وأشار إلى أنه على المدى الطويل من غير الواقعي الاعتقاد بأن أوكرانيا يمكن أن تستعيد الـ 20 في المئة المتبقية من أراضيها التي تسيطر عليها موسكو، “ما لم ينهار الجيش الروسي تماما، وهو أمر غير مرجح”.

في الوقت نفسه، وعد وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، بمواصلة مساعدة أوكرانيا على حماية سكانها وتحقيق أهدافها في ساحة المعركة، التي حددها القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني، على أنها استعادة جميع الأراضي الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم، التي تم ضمها بشكل غير قانوني في عام 2014.

محللون عسكريون يرون أن كييف قد لا تكون قادرة على تنفيذ هجوم آخر واسع النطاق حتى يناير أو فبراير، لكن من المرجح أن تشن عمليات أصغر لاستعادة الأراضي بحلول نهاية العام، في حين تقوم القوات الروسية بحفر خنادق جديدة على طول حدود شبه جزيرة القرم وبالقرب من نهر سيفرسكي دونيتس في شرق أوكرانيا على بعد 60 كيلومترا خلف خط الجبهة الحالي، مما يشير إلى أنها تستعد لمزيد من التقدم الأوكراني.

أيضا فإن ما يصل إلى 200 ألف جندي روسي إضافي يجري تدريبهم وسيصلون في الأشهر المقبلة، ومن المرجح أن يكونوا في حالة أفضل قليلا على الأقل من الرجال غير المجهزين تجهيزا كافيا وغير المستعدين الذين وصلوا إلى أوكرانيا حتى الآن.

في الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون جاهدة للحفاظ على تزويد أوكرانيا بما يكفي من الأسلحة والذخائر، الأمر الذي مكّن أوكرانيا من تحقيق نجاحات في ساحة المعركة في الأشهر الأخيرة.

بالنتيجة يمكن أن تؤثر التطورات المرتبطة بخيرسون على مسار التفاعلات العسكرية والميدانية القادمة، حيث إن سيطرة القوات الأوكرانية عليها تمنحها عدة مزايا، أهمها حرمان روسيا من موقع استراتيجي مهم، وجعل شبة جزيرة القرم في دائرة نيران المدفعية الأوكرانية، وأيضا في الوقت نفسه فإن روسيا تستعد للمرحلة المقبلة، ما يجعل المعارك القادمة أشد قسوة.

قد يهمك:الرئيس الأوكراني يصف منطقة دونيتسك بـ“الجحيم“.. هل تكمل كييف تقدمها العسكري بعد خيرسون؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة