الشعب

عمّار ديوب ـ الحياة

طرح السوريون قضية الحرية كرد على كل منظومة الاستبداد؛ أي هم مع كل حرية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة والدين وفي كل شيء. طُرح مفهوم الحرية كمطلق يحتمل كل شيء، ولكن كذلك أن يكون بلا أي محتوى. واقعياً، سورية حتى ربيع 2011 لا تعرف أبداً أي شيء عن الحرية. محاولات السياسة والمثقفين كلها باءت بالفشل الذريع منذ بيان الألف وإلى انطلاقة الثورة.

الخلافات المتعاظمة بينهم ولأسباب هامشية كانت توضح رأي هوبس في الإنسان كـ «ذئب لأخيه الإنسان»، وكان روسو مجرد فيلسوف يحب أن يكون الناس خيري الفطرة، أما كانط فليس له أي مكان بين السوريين، وبخاصة معاييره الأخلاقية التي ترفض سعادة البشرية قبالة موت طفل واحد. تجربة السنوات الأربع للثورة السورية، تبيّن أن السوريين مقطوعو الصلة بكل معايير الأخذ بالمواطنة ومنظومة حقوق الإنسان كمعايير أولية في تنظيم أي عمل مجتمعي، سياسي وسواه.

مناسبة الكلام، تصدّع كل القوى السياسية القديمة، وفشلها الذريع في قيادة الثورة. وبالمثل تصدّعت كل الحركات الجديدة، وكيفما دقّقنا بأي تجربة من التنسيقيّات إلى المعارضات إلى الكتائب المقاتلة ومؤسسات الحكومة الموقتة، وجدنا أنفسنا أمام حالة من التفتت والفوضى والشللية والتبعية للدولة الإقليمية والعالمية وفساد واسع يماثل فساد النظام.

كانت قضية حرية المعتقلين من أخطر القضايا، والتي نشرت عنها تقارير كثيرة توضح كارثة ما يحصل. حتى هذه القضية لم تسلم من المفاضلة بين معتقل ومعتقل وفقاً لطائفته أو تياره السياسي ومؤخراً وفقاً لقوميته، وسوى ذلك. يعلم الجميع ما يحصل في المعتقلات، ولكنهم يتعاملون مع كل القضايا بما فيه هذه القضية كمسألة للاستقطاب والصراع السياسي وما هو أدنى من ذلك. إذن المعارضة لم تقدم بديلاً سياسياً أفضل من النظام بما يخص مفهوم الحرية والحقوق التي تتضمنها.

هذه قضية لعبت وتلعب دوراً في انزياحٍ كبير عن الثورة وهناك من يلتحق بالجهادية وهناك من يغرق بالسلبية والتشاؤم، وهناك من يعود ليتصالح مع النظام، وهناك من يعود لأعماله السابقة. هذا الانفضاض، يتحقق شعبياً عبر مصالحات يعقدها النظام مع أهالي المناطق الثائرة والتي أنهكت كلية وتركت من المعارضة لكل أشكال الموت؛ النظام يعتمد هذه القضية كسياسة عامة كي يقوى تدريجياً ويتفرغ لاحقاً لدعسها بالأقدام، والعودة عنها، وإنهاء كل مظاهر التمرد؛ أي هو الآن يُبقي السلاح بيد المقاتلين ويعطيهم الحق بالسيطرة على داخل أحياء المصالحة، وليس لتثبيت حقهم في ممارسة حريتهم بل ليقتلها لاحقاً.

ليس هذا ما خرج إليه السوريون؛ فهم خرجوا للانتقال إلى حياة أفضل، وها هم الآن يعقدون مصالحات معه في كثير من المناطق. ما دفعهم نحو ذلك تركهم «فرادى» في مواجهة عارية معه، وفشل المعارضة في تمثيل قضيتهم وعدم احترامها تضحياتهم، وخضوع الدعم لشروط خارجية.

عكس الأحلام التي رافقت السوريين، أي تحقيق حياة أفضل؛ فإن المناطق «المحررة الآن» تعيش بخوف شديد من المحاكم الشرعية، وفشل السلطات الثورية الجديدة وفساد كثير من ناشطيها، ويقرأ الناس جيداً نتائج المال السياسي الفوضوي، والشخصنة، والذاتيات المتضخمة، وانبثاق العائلية والعشائرية والطائفية والجهادية في شكل واسع. أي أن حلمهم بالحرية والخبز والعمل تقلص كثيراً؛ هذا دفعهم ويدفعهم للهجرة ولإنهاء كل علاقة بالداخل، أو اعتباره مما لا يتغير أو دخلت سورية بالمجهول، ولا آمل يرتجى من أي فعل.

الحرية لا تتحول إلى حقوق للناس، ما لم تقرّ كما هي كحقوق عامة للناس على المعارضة وهدف لثورتهم ضد نظام ينفي أي وجود لها؛ من دون حق الناس بتمثيل أنفسهم في هيئات ومجالس وتجمعات، والأخذ بآرائهم، ستستمر حالة الشعور بالخذلان، وربما التصالح مع النظام أو الانسياق نحو الجهادية. قرأت مؤخراً على «فايسبوك» من كتب: من «الموت ولا المذلة» كتعبير عن صرخة الحرية ضد النظام في 2011، إلى «المـــوت أو تركيا 2014»، كتعبير عن فشل المعارضة والنظام في إبقاء أي روح وطنية لدى الشعب ودفعهم للتمسك بالخارج لحل الكــوارث التي يعيشونها وتتكاثر يومياً.

عرّف ماركس يوماً الحرية بأنها وعي الضرورة، ولاحقاً وحينما تتوافر شروط معنية لا بد من تغيير تلك الضرورة. هذه القضية، أي تشكيل وعي سياسي بأهداف الثورة، وبمعايير معينة ضابطة لممارسة الثوار وفقها، أصحبت أكثر من ضرورة، أي من دونها لن تتحقق أبداً الحرية وبقية أهداف الثورة. يقف حائلاً دونها تبسيط شديد لأهداف الثورة، وانفلات عشوائي في الممارسات المعبرة عنها.

وهذا أدى ويؤدي، إضافة لدور النظام المركزي في كل ما يحصل وحصل، إلى «الكفر» بالثورة والحرية. إذاً التوحش الذي تتعامل فيه المعارضة مع تياراتها، ومع النظام كذلك، وكردّ على النظام وكتعبير عن ممارسات شبيهة فيه، توضح أثره الشديد فيهم؛ وهنا تصح مقولة إن الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقة السائدة؛ إن كل ذلك، كان سبباً في انتقال الثورة من الحرية إلى الجهادية، ومن إخفاء كل ما هو سلبي في بداية الثورة إلى ممارسة كل ما هو سلبي وضار بالثورة في السنوات التالية لها.

الشروط الواقعية للحرية لن تتحقق قبل بداية المرحلة الانتقالية لسورية ولن تتحقق كذلك من دون تشكل وعي سياسي ومجتمعي كما أوضحنا من قبل، حيث سيشعر الناس بالأمان، والبدء بممارسة أحلامهم وأفكارهم وحياتهم كما يشاؤون، حينها فقط سيسقطون ليس الخوف من النظام فقط بل ومن المعارضة ومن كل أشكال السلطات التي انبثقت في المناطق «المحررة الآن»، ومارست أفعالاً تماثل أفعال السلطة التي يريدون التحرر منها!.

 

[wp_ad_camp_1]

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.