“المهدئات” و “مضادات الاكتئاب” فواتير السوريين الجديدة وسط غياب الطب النفسي

“المهدئات” و “مضادات الاكتئاب” فواتير السوريين الجديدة وسط غياب الطب النفسي

أسامة الأزهري- دمشق:

لطالما تسببت الحروب والأزمات التي تمر بها المجتمعات والدول بانتشار الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والاضطراب والقلق والانفصام لتصل إلى 25% من السكان بحسب تقديرات أهل المهنة من الأخصائيين الاجتماعيين والأطباء النفسيين، فماذا عن السوريين بعد قرابة الستة أعوام من الحرب؟.

 

وما يزيد “الطين بلة” بالنسبة إلى المصابين، الفقر المدقع الذي يعاني غالبيتهم منه، وندرة الأطباء الأخصائيين والعيادات النفسية، إضافة إلى عدم توافر الدواء، ما دفع أكثرهم إلى “اللجوء” إلى تناول “المهدئات”.

تقول الصيدلانية صفاء موصلي، في منطقة #المزرعة  في #دمشق في حديثها لموقع #الحل_السوري “أواجه عشرات الأسئلة حول أدوية لأمراض نفسية، وخصوصاً مضادات الاكتئاب، فاضطر للاعتذار من الزبائن لعدم وجود وصفة من طبيب، حيث يمنع صرف الأدوية المضادة للاكتئاب إلا بوجود وصفة طبية”.

كذلك الحال بالنسبة للصيدلاني موفق نقاوة في صيدلية الميدان بالجزماتية، حيث شرح الدكتور لموقع الحل ” الكم الهائل من الأسئلة التي يتلقاها عن المهدئات والمسكنات النفسية”، كما لفت إلى نقطة وصفها بـ”الخطيرة”، حيث “باتت أسماء بعض الأطباء تتكرر كثيراً في الوصفات الطبية التي يشترط تقديمها من قبل المرضى للحصول على غالبية تلك الأنواع من المسكنات”.

وأكد نقاوة أن “الكثير من المصابين بهذه الأمراض لا يذهبون إلى العيادات وإنما يلجؤون إلى الصيدليات لشراء المهدئات المنخفضة الثمن التي يمكن أن يؤدي تناولها إلى أن ينام المريض لمدة 15 ساعة، لكن الخطورة في هذا الأمر أن بعضهم أدمن على هذه المهدئات”.

21 الف ليرة شهريا أدوية مريض واحد!!

تحتاج عائلة أبو محمود تخصيص 24 ألف #ليرة لشراء #الأدوية_العصبية ومنشطات الدوران الموصوفة لابنهم المريض عدنان، 14 سنة، يقول أبو محمود: “يحتاج عدنان إلى دواء فوستان وهو مرخي عضلي لمنع تنج المريض كان ثمن علبة الدواء الوطنية 200 ليرة بداخلها 10 حبات والمريض يحتاج يوميا 3 حبات على أقل تقدير، إلا أن انقطاع الدواء الوطني والاعتماد على الدواء الأجنبي المهرب والذي يبلغ ثمن العلبة الواحدة 2100 ليرة، بات يرهق الكاهل، والمشكلة الأكبر أنه غير متوفر كل الأحيان.

وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنة عائدة الخارجة من #الغوطة_الشرقية والتي اضطرت في الآونة الأخيرة على الاعتماد على دواء “موتيفال”، بعد ان وصفه لها أحدد الأطباء بسبب معاناتها من حالة متوسطة من القلق المختلط مع حالات اكتئابية، لكن “موتيفال” انقطع من السوق المحلية وناب عنه البديل المهرب حيث يبلغ ثمن الحبة الواحدة 150 ليرة سورية.

عيادات الطب النفسي

يعد موضوع الطب النفسي في المجتمعات الشرقية موضوعا رفاهي، بل هناك حاجات أكثر إلحاحاً وخطورة يجب النظر فيها قبل الوصول إلى الطب النفسي، ففي مجتمع بات 85% من أبناءه تحت خط الفقر، لا يمكنك الحديث علاج المشاكل النفسية،  أو ربما يرجع البعض عدم انتشار الأمراض النفسية في ظل عادات اجتماعية تقف حائلاً أمام انتشار حالات الاكتئاب والهذيان والتوهم المرضي والاضطرابات العاطفية والنفسية، والرهاب، إلا أن مشاهد العنف والدمار والقتل والتهجير كان لها بالغ الأثر على الجانب النفسي للسكان يفوق التأثير على الجانب الجسدي والذي يتمثل بفقدان الأطراف والاعاقات والتشوهات، بحسب ما صرح الطبيب النفسي خلدون طباع لموقع “الحل السوري”.

وأكثر ما يلفت الانتباه في صالة انتظار في عيادة الدكتور خلدون في #الجسر_الأبيض وسط دمشق، مجادلات لا تنتهي بين الممرضة والمرضى سواء على الهاتف أو في العيادة، لحجز موعد للمعاينة، بينما كانت الجملة الأكثر ترديداً على لسان الممرضة: “ليس هناك موعد قبل 10 أيام”.

وفي حديثنا عن تكلفة الكشف عن المريض، أوضح أن “تكلفة المعاينة هي ألفي ليرة للمرة الاولى وحسب حالة المريض، ربما يحتاج إلى عشرة جلسات او أكثر، لكن غالباً ما يأتي المرضى إلينا للحصول على وصفة طبية وأخذ الدواء دون المعالجة الفعلية”.

الواقع عندما يفوق الخيال غرابة!!

الحل السوري كان متواجداً في أحد عيادات الطب النفسي، حيث كان من بين المنتظرين في غرفة الانتظار، امرأة متقدمة في العمر تصطحب معها صبية في العقد الثاني من العمر، ومن خلال الحديث معها روت لنا سبب مجيئها للعيادة حيث تقول: “تتدلى ابنتها من شرفة المنزل، محاولة القفز، فهي لم تعد تخشى الارتفاعات كما كانت من قبل، أو بالأحرى فقدت معظم مشاعرها، فهذه هي محاولتها الثانية للانتحار”.

وأضافت “في المرة الأولى حاولت تناول كمية من الأدوية، وقمنا بإسعافها وخضعت لغسيل معدة”.

وبالعودة إلى إضبارة تلك المريضة، وكان اسمها غالية، تبين أن غالية حوصرت في إحدى المناطق مع زوجها وطفلها الرضيع، وقتل زوجها أمامها وبقيت مع جثته لليوم التالي في الغرفة نفسها، ومنذ ذلك الوقت، ترفض مقابلة الأصدقاء والأقارب، وخاصة ممن هم من طرف زوجها.

في العيادة تسمع قصص غريبة، حيث روى لنا عبد السلام كما عرف عن نفسه، قادما من أحد مراكز الإيواء في منطقة #الكسوة، أنه يعاني من أعراض اكتئاب حادة، فقرر فريق المتابعة النفسي في مركز الإيواء أن الجلسات التي يقيمها الفريق في المركز غير كافية لعلاج حالته، حيث بات عدوانياً جداً تجاه زوجته وأطفاله.

يصف عبد السلام وضعه: “تهدم منزلي وهجرت من بلدتي #نوى في #درعا، فقدت عملي، وقطعت ساقاي نتيجة سقوط قذيفة بجانبي، عانيت من آلام في صدري وأصبحت عصبياً جداً، إضافة إلى أنني عدت إلى التدخين”.

ويضيف: “مثلي لماذا يعيش، أنا عاجز وأصبحت عالة على عائلتي، الموت لمثلي يكون أشرف من الحياة”.

مشهد آخر لشاب في العقد الرابع من العمر، يجلس ويسند رأسه، وعيناه تحدقان في ضوء الغرفة، مستغرق في التفكير، دون أن ترمش أجفانه لفترة طويلة، وفجأة يسأل بعصبية: “هل سيأتي الطبيب أم لا”، لتجيب الممرضة: “سيأتي ولكن لا اعرف متى”، فضرب الطاولة أمامه وخرج مع مرافقه، إلى حديقة مجاورة، وهناك رفض التحدث إلينا، لكن مرافقه، تحدث بكلمات قليلة وقال: “صدم ابن عمي جداً بمقتل خطيبته منذ ثلاثة أعوام بقصف تعرض له منزل أهلها في #مسرابا، ومنذ ذلك الحين قطع تواصله الاجتماعي عن محيطه، وقل طعامه. ووفق الطبيب هو مصاب بـ”الاضطراب الاكتئابي الكبير الحاد”.

وإن كان غالبية المرضى يعتبرون من سعيدي الحظى كونهم يعيشون في دمشق “الآمنة نسبياً”، وبين من يعينهم للوصول إلى الأطباء النفسيين، فإن الكثير من أقرانهم بباقي المحافظات والمناطق  لا يستطيعون الذهاب إلى الطيبب بسبب العوز المادي الحاصل لغالبية السوريين على خلفية تراجع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي (الدولار يساوي نحو 525 ليرة) وغلاء المعيشة.

أصبح من المألوف في العاصمة رؤية إعلانات تحمل صور مرضى نفسيين اختفوا بعد أن شردوا من منازلهم، وتروي سيدة في العقد الرابع من العمر قصة زوجها البالغ من العمر 51 عاماً والمفقود منذ 2012. وتقول: “كنا نعيش في بيت تحيط به أشجار الفاكهة في بلدة المليحة، لكن بعد النزوح إلى منطقة معربا، انقلب وضعنا جذرياً، الرجل لم يتحمل الوضع الجديد، بات يتحدث مع نفسه وطار عقله، ولم نعرضه على طبيب نفسي بسبب التكاليف المادية التي لا نستطيع تحملها، وفي يوم من الأيام خرج ولم يعد حتى الآن!!”.

نقص في الكوادر الطبية

تشكو سوريا من نقص حاد في أخصائيي الأمراض النفسية، حيث قال مدير الصحة النفسية في وزارة الصحة رمضان محفوري في تصريح لوسائل إعلام محلية: “إن عدد الأخصائيين النفسيين على مستوى البلد بلغ 40 طبيباً فقط، في حين تحتاج سوريا إلى أكثر من 500 طبيب نفسي”، معتبرة أن “النقص يعود إلى عدم الإقبال على التخصص في الطب النفسي”.

لا توجد إحصائية للمصابين بالأمراض النفسية، إلا أن زيادة الإقبال على أدويتهم يعكس مدى تفشي تلك الأمراض بشكل كبير، حيث أكد أحد موزعي الأدوية أن الطلب من قبل الصيدليات ارتفع بشكل قياسي مقارنة بالوضع الذي كان سائداً قبل 2011، بمعنى اذا كانت نسبة المصابين قبل الأحداث تبلغ 1.5%، فالطلب على الأودية حالياً يوضح أن نسبة المصابين وصلت إلى 70%.

وأضاف أن “المشكلة لا تقتصر على قلة عيادات الطب النفسي التي لا تتجاوز الفعلية خمس عيادات، وإنما تتعدى ذلك إلى عدم توافر أكثر من 50% من الأدوية، وأن الأدوية البديلة غالباً لا تعطي المفعول ذاته، بينما المماثلة ذات المنشأ الأجنبي أسعارها مرتفعة جداً وقد يصل ثمن العلبة الواحدة ما بين 15 الى 20 ألف ليرة سورية وهو أمر لا يقدر عليه عموم الناس”.

من جانب آخر، لا تتوافر إحصائيات رسمية لعدد الأطباء الذين غادروا سوريا بشكل نهائي منذ اندلاع الاحتجاجات، إلا أن التقديرات تشير إلى أن نحو نصفهم قد غادر، علما أن عددهم قبل الأحداث كان نحو 40 ألف طبيب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.