نشرت مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» الأمريكية تقريراً مطولاً للباحثة (إليزابيث تسوركوف) تناولت فيه حال «العلويين» في سوريا وموقفهم من النظام والسلطة. إذ استغرق التقرير أشهراً لإتمام اللقاءات الشخصية والمقابلات الهاتفية مع أشخاص من الطائفة #العلوية لم تُذكر أسمائهم الحقيقية في التقرير خوفاً على سلامتهم.

نشرنا منذ أيام، الجزء الأول والجزء الثاني، وهنا الجزء الثالث والأخير من السلسلة:

 

ارتياب بين الطوائف

لم تنجُ العلاقات الطائفية من الحرب، فقد تغيرت هي أيضاً وبشكلٍ خاص بين الغالبية العربية السنّية والطائفة العلوية. فقد خلقت الإيديولوجية البعثية الرسمية مظاهر خارجية للتعايش، لكنها كانت تخفي ارتياباً ضمنياً كان يظهر بشكلٍ غير مباشر. فعلى سبيل المثال، كانت شائعات منتشرة بين السنّة بأن الشباب العلويين الذين يركبون الزلاجات النفاثة سوف يختطفون الزوار السنة من على الشواطئ على طول الساحل. وبالرغم من أن تلك الشائعة تبدو بعيدة المنال إلا أنها انتشرت على نحوٍ واسع بين السنة. وقد اشتدت مثل هذه المخاوف والشكوك المتبادلة منذ أمدٍ طويل بعد انتفاضة الإخوان المسلمين، والتي ميّز الإسلاميون السنة خلالها الجنود العلويين بفظائعهم. وقد كثّفت المخابرات جهودها، في أعقاب ذلك التمرّد العنيف، من خلال اتخاذها إجراءات صارمة لقمع أي من مظاهر المشاعر الطائفية. فهي لم تعمل على استئصالها فقط، بل دفنتها تحت الأرض. 

وتقول المعلّمة لبنى: “يبدو أنه لم يعد هناك ثقة”. وتضيف قائلة: “لا تزال هناك صداقات مشتركة هنا وهناك، لكنها ليست بالقدر الذي كانت عليه قبل العام 2011″، في حين تحمّل السنّة المسؤولية الأكبر تجاه هذه المشكلة. من جانبه وصف طارق العلاقات الحالية، وهو احتياطي سني من قوات الدفاع الوطني، بقوله: “يرحّب بعض العلويين بنا بشكلٍ كبير، لكن هناك شعور منتشر بأنهم ودودون أكثر مع “بني جلدتهم” إن صحّ التعبير، بالرغم من أننا جميعنا سوريين”.  وحتى قبل اندلاع الحرب كان الأمر مشابهاً، فيقول طارق: “الاحتياطي السني من قوات الدفاع الوطني كان دائماً يواجه تحدياً بالنسبة للأصدقاء العلويين في مناقشتهم بخصوص وجهة نظرهم. تشعر وكأن حجابٍ يفصل بيننا”. 

 

«الثورة زادت الانقسامات الطائفية»

لكن اليوم، فقد تحوّل ذلك الحجاب إلى حاجز حديدي. “عندما بحثت في مدينة حمص عن شقة لأشتريها في العام 2010، بالكاد كان بإمكاني تمييز الأحياء العلوية عن السنّية”. يقول عبود دندشي، لاجئ سوري من مدينة حمص يعيش الآن في كندا. ويضيف قائلاً: “بعد بضعة أشهرٍ فقط من اندلاع المظاهرات في العام 2011، بدأت أحياء مثل بابا عمرو والخالدية وباب السباع تشعر بالعزلة نوعاً ما عن بقية أجزاء المدينة”. حيث تجنّب سكان المناطق الثائرة الأحياء التي تُعتبر موالية للنظام. “بحلول أول رمضان بعد المظاهرات، لم تعد حمص تبدو كمدينة، إنما كمجموعة من الأحياء المنعزلة”، يقول عبود واصفاً. 

وسرعان ما أدت عسكرة الثورة وتطرف قسم منها وتقسيم المناطق بين الأطراف المتنازعة في البلاد إلى تعزيز الانقسامات الطائفية. فمعظم الأفراد المنتمين إلى الأقليات غير السنية فرّوا من المناطق التي تسيطر عليه المعارضة. ويعيش اليوم أفراد الطوائف المختلفة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، حيث يعيش حوالي 70% من سكان سوريا اليوم، جنباً إلى جنب، إلا أن ذلك لم يساهم في التخفيف من حدّة توتر العلاقات فيما بينهم. من جهتها، تتبنى سميرة رواية الحكومة في تصاعد الكراهية والانقسامات الطائفية وتلقي باللائمة على المعارضة، فتقول: “لقد تعمدوا اللجوء إلى ورقة الطائفية في لعبتهم، وجعلوا مكونات المجتمع المختلفة تكره بعضها البعض. وعمليات القتل التي كانوا ينفذونها كانت لزيادة حدة الكراهية وتعزيز الانقسامات الطائفية بين مكونات المجتمع المختلفة”. 

 

تصاعد «خوف العلويين من السنّة»

وبالرغم من استخدام النظام للقوة والترهيب في حفاظه على الطابع العلماني للدولة السورية كما يدعي، إلا أن خوف العلويين وانعدام ثقتهم بالسنة من السوريين، والذين يُنظر إليهم على أنهم متطرفون، دفع بالطائفة العلوية لدعم حكم الأقلية في النظام. من جهته يصف المهندس سهيل تأثير الحرب على الطوائف بقوله: “إن كنا نخاف من السنة أو غيرهم بنسبة 10%، فإن خوفنا اليوم تبلغ نسبته 90%”. ويضيف معرباً عن عدم رغبته بتولي سني السلطة فيقول: “إذا كان الشخص الذي سيتولى الحكم سنياً، فلا بد أنه سيكون متأثراً ببعض الحركات السنية المتعصبة. أود أن يكون الشخص الذي سيتولى زمام الأمور أن يكون منفتحاً بقدر الإمكان وأن يكون أقل تأثراً بطائفته”. ومن وجهة نظره، فإن الحرب قد عززت فكرة أنه من الذكاء أن تكون البلاد وتلك المكونات الأخرى للمجتمع تحت حكم شخص علوي. 

 

امتياز للعلويين بالولاء المفترض… والسني يحتاج «واسطة»

وبالرغم من سعي النظام إلى السيطرة الكاملة على البلاد، إلا أن المجتمع العلوي لا يخلوا من مؤيدي فكرة التقسيم، أو الاتحاد، على أساس طائفي. فقد أعرب الكثيرين عن تأييدهم إما لدولة علوية مستقلة أو لسوريا فيدرالية. حيث يقول ليث، وهو ضابط في المخابرات: “يمكن للأقليات في سوريا أن تعيش بدون نظام، ولكن في دولتهم الخاصة، وليس في سوريا الموحدة”. ويضيف: “نحن كعلويين نعيش آمنين سواء كنا تحت سيطرة هذا النظام أو في دولتنا المستقلة”. 

ويتضايق الكثير من العلويين من الفكرة السائدة بأنهم أصحاب امتيازات مقارنة ببقية أفراد الشعب، إلا أن البعض منهم يعترفون بوجود تلك الاختلافات خاصةً فيما يتعلق بالتعامل مع جهات الدولة. فسوريا اليوم تملأها نقاط التفتيش التي يتم فيها التدقيق بشدة على الهويات. عبود، اللاجئ السني الذي هرب من حمص، التي سيطر عليها الثوار، إلى طرطوس ذات الغالبية العلوية وصف تجربته بقوله: “كنت دائماً موضع شكٍّ عندما يتم تدقيق هويتي في نقاط التفتيش. فمدينتي التي أنتمي إليها والمسجلة على الهوية كانت تستخدم كدليل ضدّي من قبل المخابرات ليتم اتهامي بالخيانة وعدم موالاة النظام”. 

وبحسب اللقاءات التي أجريت، فإن غرب سوريا الخاضع لسيطرة النظام شهد الكثير من حالات الإدانة الكاذبة، والتي غالباً ما كانت لتصفية حسابات شخصية. “تعرض صديقي للضرب بالرغم من أنه علوي”، يقول خضر واصفاً عملية اعتقال صيدلي في اللاذقية لأن منافس له ادعى بأنه يبيع العقاقير الممنوعة. أما بالنسبة لطارق، سني مؤيد للحكومة، فالأمر ببساطة يتلخص ببعض العلاقات، فيقول: “إذا ما كنت سنياً، فيجب أن تكون لديك علاقات جيدة مع أشخاص مهمين في المخابرات”. 

فبشكلٍ عام، الولاء المفترض من قبل العلويين للنظام يوفر لهم الحصانة ضد أي تفاعلات عدائية مع قوات الأمن مقارنة بالمواطنين السوريين الآخرين. وكما هو معروف، فإن النظام يقوم بعمليات اعتقال وتعذيب وإعدام واسعة النطاق بحق أولئك الذين يعتبرهم معارضين سياسيين. وبالنسبة للعلويين، فإنهم يقومون بدور المخبرين أو العاملين لدى النظام، وليس ضحايا له. 

 

«إيران وحزب الله متطرفون… لا نريدهم»

وقد ضمن نظام الأسد بقائه من خلال التدخل العسكري للحليفتين روسيا وإيران (من خلال الميليشيات التابعة لها). وأفراد الطائفة العلوية الذين يربطون وجودهم إلى حدّ كبير ببقاء النظام ممتنون لهذه التدخلات ويقرون بضرورتها. لكن في ذات الوقت، يعرب الكثير منهم عن قلقهم بشأن التواجد طويل الأمد لهذه القوات على أرض البلاد. ويخففون من تلك المخاوف بتعزيز أملهم أنه بمجرد تحقيق الهدف من تواجدهم وضمان انتصار النظام، فإن المقاتلين الأجانب سوف يغادرون البلاد. 

ويقول المهندس حسين: “نحن بحاجة إلى التواجد الروسي على الأرض، ولكن هل أتمنى بقاءهم عليها؟ بالتأكيد لا. لأن ذلك يعتبر احتلالاً حتى لو لم يكن بصورته الاستبدادية”. إلا أن الناشط الموالي للحكومة، حسين، يعارض هذا الرأي. فهو يدعم التواجد الروسي طويل الأمد معتبراً إياه ضماناً للأمن، فيقول: “لقد كانت روسيا هنا في الساحل على الدوام، منذ السبعينيات. الروس هم القنبلة النووية للعلويين، بمعنى أنهم يشكلون درعاً لنا”. 

ومع ذلك، فإن الموقف تجاه إيران مختلف تماماً، غالباً بسبب المخاوف من الطبيعة الثيوقراطية للنظام في طهران. وتوضح ذلك فدوى، وهي سياسية علوية تولت مناصب رفيعة المستوى في الحكومة السورية في فترة ما قبل الحرب وتعيش الآن في المنفى، بقولها: “كان العلويين في الفترة التي تسبق التدخل الروسي قلقين جداً من النفوذ الإيراني وكانوا أشد فرحاً بتدخل الروس العلمانيين”. أما ضابط المخابرات ليث فقد تحدّث بصراحة، قائلاً: “نحن لا نريد إيران ولا حزب الله، نحن لا نريد الإسلام السياسي. إنهم ليسوا مثلنا… لست أدري لماذا لا يزال هذا التحالف قائماً حتى اليوم”. كما رددت سهى ذات الرأي بقولها: “نحن لا نريد بقاء إيران وحزب الله على وجه الخصوص، لأنهم يتبنون وجهات نظر دينية متطرفة”. 

وباعتبارهم أقلية عرقية دينية علمانية، فإن العلويين حذرين بشأن الجهود المبذولة لتغيير هويتهم وتقريبهم من الإسلام الشيعي. كما تواجه هذه الجهود تحديات أكبر في المجتمعات السنية التي عانت لسنوات من العنف الممارس على أيدي الميليشيات المدعومة من قبل إيران. ما يشير إلى أنه وبمجرد شعور العلويين بأن النظام لم يعد يواجه مخاطراً في تواجده في السلطة، فسوف يكون لديهم قضية مشتركة واحدة على الأقل مع المجتمعات الأخرى في البلاد وهي السعي لإخراج القوات الأجنبية من البلاد، إيران والقوات التابعة لها على وجه الخصوص. 

 

حضور إيران شكل حديث للاستعمار

وقد أزعج التأثير الإيراني والاهتمام الكبير بالمذهب الشيعي لبنى، فتقول: “لقد لاحظت الجهود التي تبذلها إيران في تحويل العلويين إلى المذهب الشيعي. هناك مراكز ومعاهد خاصة يتم فيها تعليم اللغة الفارسية ونشر شريعتهم. بالتأكيد أنا ضدّ هذا. أعتقد أن حضور إيران في سوريا هو فقط شكل حديث ومدني بعض الشيء للاستعمار”. وتضيف: “روسيا أيضاً”. 

وبالرغم من أن العلويين يشكلون القاعدة الداعمة للنظام السوري، إلا أن معظمهم غير راضين عن ظروفهم. فقد ضحّوا بالآلاف من أبنائهم فقط ليجدوا أنفسهم غارقين في فقرٍ أشد وفي ظل حكم نظام أكثر فساداً وقمعاً. يقول خضر: “لقد خابت آمال عائلتي بالنظام، لكن لا أحد منهم يتحدث حول هذا الموضوع”. ويضيف: “حتى في المنزل، عندما نتحدث بسرية ننظر إلى اليمين وإلى اليسار”. فليس لديهم أي طريقة آمنة للتعبير عن استيائهم، ولا حتى أي بديل سياسي. “لا أحد مستعد للمخاطرة بإسقاط الأسد من السلطة”، تقول فدوى مشيرةً إلى الجهود التي بذلها بشار الأسد ووالده من قبل لاستبعاد أي منافسين محتملين لحكمهم ضمن الطائفة العلوية سواء بالاغتيال أو التهميش أو إجبارهم على مواجهة النفي.  

إن العيش لأجيالٍ متتالية في كنف نظام استبدادي جداً قد علّم معظم السوريين البقاء صامتين متجنبين السياسة مركّزين على حياتهم الشخصية. لذلك فكانت ثورة الـ 2011 غير مألوفة. ويقول خضر: “أنت تعطي الأولوية لتأمين الطعام، لأطفالك، ولتعليمك”. ويضيف: “العيش في ظل الدكتاتور حدّ من منظورنا. أعتقد أن بعض الناس كانوا مدركين في أعماق أنفسهم أن مثل هذه العيشة خاطئة. لكن.. عندما تحصل بالكاد على الطعام والوقود، سوف لن تفكّر بموضوع حريّة التعبير”. 

 

العقوبات ومفعولها في إنهاء حكم الأسد

في استطلاع للرأي أجري في العام 2016، كان أعضاء الطائفة العلوية المجموعة الوحيدة التي عارضت إلى حدّ كبير حلّ جهاز المخابرات في الدولة وهي خطوة تدعمها الغالبية العظمى من الطوائف الأخرى. وجاء رفضهم ذلك من الاعتقاد السائد، بين العلويين المنتقدين للنظام أيضاً، بأنه لو فازت المعارضة بالسلطة، فإن هؤلاء الذين سيتولون الحكم قد يكونون من السنة المتطرفين. إضافةً إلى ربط العلويين بقاءهم بالحفاظ على نظام الأسد في السلطة. ويقول سهيل: “لو لم يكن بفضل الرجال العلويين الذين ضحوا بأنفسهم من أجل الدولة، كان يمكن أن يكون هناك حزب إسلامي متطرف في السلطة”. 

وقد راقب المجتمع الدولي الثورة السورية السلمية وتحولها إلى حرب أهلية طائفية بصمت نابع عن عدم رغبته في حماية السوريين من بطش النظام. بينما أصرت الولايات المتحدة وأوربا أنه ليس هناك حلّ عسكري للصراع، في حين كانت تراقب كيف غيّرت التدخلات العسكرية لروسيا وإيران من ميزان القوى في الحرب. الأمر الذي يضمن بقاء الأسد وانتصاره في نهاية المطاف. كما يبدو أن الإستراتيجية الأمريكية المتمثلة بسحب قواتها من سوريا وخفض التمويل المتعلق بجهود تحقيق الاستقرار، إلى جانب فرضها عقوبات خانقة على الاقتصاد السوري، الهدف منها إثارة السخط في الداخل السوري. أما من الناحية النظرية، فترى الولايات المتحدة أن ذلك قد يجبر الحكومة على تقديم تنازلات ويعدّل من سلوكها مقابل تخفيف العقوبات أو إلغائها. 

إلا أن المشكلة التي تواجه هذه النظرية هي أن الأسد قد قضى سنوات في إرهاب معظم الفئات السورية المتمردة للاستسلام من خلال التفجيرات العشوائية والهجمات باستخدام السلاح الكيميائي وعمليات الإعدام الجماعية في السجون والحصار والتجويع وتهجير السكان. وبالرغم من الخسائر الهائلة ضمن أفراد الطائفة العلوية والإحباط الشديد الذي تعاني منه، إلا أن سارية راية النظام سوف لن ترفع رايةً أخرى. “العقوبات لن تجدي نفعاً”، يقول ليث. ويضيف: “لن يثور الناس لأي سبب كان مرةً أخرى. لم ندفع بالدم لتسليم البلاد إلى أعدائنا”. 

تحرير: سامي صلاح

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.