نشرت صحيفة «لاكروا» الفرنسية تقريراً تناول خطر استعادة بشار الأسد السيطرة على كامل الأراضي السورية لاسيما بعد الهجوم التركي في شمال شرق البلاد. فبعد أن خذلهم الأمريكيون وفقدوا مساحات كبيرة من الحدود السورية التركية، لم يبقى أمام أكراد سوريا اليوم سوى طريق دمشق كي يتجنبوا التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي لمناطقهم. 

فالرياح تعصف من كل الجهات بمخيم «واشوكاني» الذي يبعد حوالي خمسين كيلو متراً من خط الجبهة مع الأتراك ومن معهم من مرتزقة المعارضة السورية المسلحة، حيث يلعب بعض الأطفال في الوحل في هذا البرد القارس. وفي الوسط، تتراكم مئات الخيام البيضاء التي أقيمت على عجل في وسط ذلك السهل الموحل. 

وقد بات ذلك منظراً مألوفاً في شمال شرق سوريا! فبعد الهجوم التركي الذي بدأ في شهر تشرين الأول الماضي، يعيش اليوم حوالي 4700 شخص في هذا المخيم بلا ماء ولا كهرباء. حيث يقول جوان سعيد، رئيس منظمة الهلال الأحمر الكردي، متأسفاً: «الوضع معقد جداً هنا، لأن القليل من المنظمات الدولية تقدم لنا يد المساعدة. نحن اليوم وحدنا! ينقصنا كل شيء: الطعام والتجهيزات الطبية والأدوية، في الوقت الذي يجب فيه أن نفعل كل شيء». ففي هذا المخيم الذي خرج لتوه من تحت الأرض، فإنه على ما يبدو فإن العملية العسكرية التركية فاجأت الجميع. 

وإن كان الهدف المعلن من الهجوم التركي على شمال شرق سوريا هو طرد مقاتلي وحدات حماية الشعب (YPG)، من المنطقة الحدودية، فإن عملية «نبع السلام» التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تسببت في نزوح سكان تلك المنطقة بالكامل. ففي مواجهة الجيش التركي ومرتزقته من ميليشيات سورية يسيطر عليها الجهاديون، اضطر حوالي 300 ألف شخص أن يفروا من أراضيهم وبيوتهم، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. والعديد من هؤلاء السكان النازحين وجدوا ملجأ لهم سواء عند أقاربهم أو في مدارس القرى التي لم تصلها نيران الحرب بعد، أما البعض الآخر، فلم يجد خياراً سوى أن ينحشر في المخيمات. مدنيون أكراد وعرب ومسيحيون يوحدهم المصير المأساوي ذاته، فكلهم ضحايا هذه الحرب الطاحنة التي امتدت منذ قرابة تسع سنوات. 

أخاطر بحياتي إذا ما عدت

«لقد عشنا الحرب بين الثوار والنظام والحرب ضد تنظيم داعش. والآن حان دور الغزو التركي»، تقول عائشة وهي تتنهد. فقد فرّت هذه الفلاحة العربية من قرية المناجير، التي تحتلها ميليشيات أنقرة اليوم، تحت وقع قصف الطيران التركي للمنطقة تمهيداً لدخول المرتزقة. وتضيف عائشة: «يدّعي أردوغان أن الهدف من عمليته العسكرية هذه هو طرد الأكراد، لكن كان على الجميع أن يرحل»، بحسب قولها. 

جالسة على الأرض، تقوم هذه الأم لأربعة أطفال بتحضير الطعام وهي تلف رأسها بغطاء ملون. وبيدٍ ترتجف، تقطع هذه المرأة قطعاً من الخبز اليابس وهي تحدّق في الأرض. «عمال الإغاثة في المخيم يقدّمون لنا الطعام مرة واحدة فقط في اليوم»، تقول عائشة وهي تمد يدها لتضيّف السجائر. وتضيف: «القليل من الزيت والطحين وقطعة من اللحم. فقط ما يكفي عائلتي بالكاد». ومن خلفها يتصاعد دخان موقد المازوت من خيمتها، حيث تسترسل قائلةً: «هذه الرائحة تتسبب بمرض أطفالي، لكن على الأقل الجو دافئ داخل الخيمة».

وكما هو حال معظم قاطني المخيم، ترفض عائشة العودة للعيش في المنطقة الخاضعة لسيطرة أنقرة والعناصر التي تحارب في صفها. 

«الميليشيات هناك تعلم أنني قد عملت مع الأكراد. لذلك حتى ولو كنت عربية، فإنني أخاطر بحياتي إذا ما عدت إلى هناك»، تؤكد عائشة. 

وفي خيمة مجاورة، يصّر أحد الشيوخ على أن يقدم لفريق الصحيفة الشاي، لكنه يرفض الكشف عن اسمه. «إن أنا قلت لكم اسمي، فإن الأتراك وأذنابهم سيقطعون رأسي»، يقول الشيخ. فقد كان هذا الرجل العجوز مالكاً لمنزل ولمتجر صغير في المنطقة «المحتلة». وقد تمكن من العودة إلى هناك عدة مرات بعد أن دفع للمهربين.

ويتابع الشيخ وعيناه منتفختان من الغضب: «في بيتي لم يبق شيء سوى الجدران! الجهاديون الذين يعملون في خدمة الأتراك سرقوا مني كل شيء: مدخراتي ودراجتي النارية وبرادي وحتى أسلاك الكهرباء سحبوها من الجدران. إنهم يقولون بأنهم جاؤوا ليحرروننا، لكن يحرروننا ممن؟ هؤلاء الناس ليسوا سوى لصوص وأوغاد. إنهم أسوأ من داعش».

الخوف من التطهير العرقي من قبل أنقرة

وما بين رشفتين من الشاي، يذر الشيخ كل أمل بالعودة أدراج الرياح. فوراء العملية العسكرية التركية، هناك مخطط جهنمي كبير لإعادة توطين مليون لاجئ سوري موجود في تركيا اليوم، وهذا المخطط قيد التنفيذ الآن. «أردوغان لن يسمح لنا بالعودة أبداً»، يقول الشيخ السبعيني. 

ويضيف: «سيأتي بالعرب من مناطق أخرى ليستوطنوا في قرانا». وهذا المشروع السكاني من شأنه أن يؤدي إلى تغيير ديموغرافي في المنطقة والتي كان يقطنها حتى الآن أغلبية كردية ومسيحية. ومن الآن وصاعداً، فإن النازحين باتوا يخشون أن تقوم أنقرة بتطهير عرقي كما فعلت في عفرين. فهذه الأخيرة محتلة منذ بداية العام 2018 من قبل أنقرة ومرتزقتها، حيث تم تفريغها من سكانها الأكراد تقريباً، وفق ما أوردته الصحيفة.

وبعد عامين على فقدان مدينة عفرين، يمثّل الهجوم التركي اليوم نكسة جديدة للإدارة الكردية لشمال شرق سوريا. فبعد أن تخلى عنهم الأمريكيون وخذلوهم، يجد أكراد سوريا اليوم أنفسهم غير قادرين على مقاومة القوة العسكرية التركية في مفردهم. لذلك وجدت هذه الإدارة، التي أعلنت عن نفسها في شهر تشرين الثاني من العام 2013 في ظل فوضى الحرب الأهلية التي اجتاحت البلاد، نفسها مضطرة إلى إعادة التواصل مع نظام بشار الأسد طلباً للمساعدة. «في الوقت الحالي، وجود النظام هو وجود عسكري بحت، لكن استعادة دمشق السيطرة على المؤسسات ليست سوى مسألة وقت»، يقول مسؤول إنساني. فبعد ستة سنوات من الحكم الذاتي، فإن الحلم برؤية ولادة كردستان سوريا مستقلة قد تحطّم. 

تركيا قدّمت خدمة عظيمة للأسد

وفي مكتبها في الرقة، حيث لجأت الإدارة الكردية، تحاول «بيريفان خالد»، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لشمال شرق سوريا، أن تحافظ على مظاهر الإدارة. حيث تقول: «الغزو العثماني لم يغير شيئاً. إدارتنا مستمرة في العمل بهدوء وبشكل مستقل تماماً». لكن وبالرغم من ابتسامتها الدبلوماسية، فإن السياسية الشابة وجدت نفسها مضطرة للاعتراف بأن على إدارتها أن تمتثل تدريجياً لمطالب دمشق. حيث تقول: «نحن منفتحون على الحل السياسي، لكننا سوف نضع شروطنا. إذا كان النظام السوري سيعود إلى المنطقة ولابد، فإننا سنطلب دمج مقاتلينا وأجهزة مخابراتنا في جيش بشار الأسد مع الاحتفاظ بوضع خاص لهم والحفاظ على شكل من الحكم الذاتي»، دون أن تحدد خالد شكل الحكم الذاتي الذي ستطلبه إدارتها. 

من جهتهم، فإنه لم يعد لدى مؤيدي النظام السوري أدنى شك بهزيمة الإدارة الكردية وسقوطها الوشيك. ففي أسقفية الأبرشية في القامشلي، أكبر المدن الكردية في سوريا، يبدو أن المطران أنترانيك إيفازيان قد أعلن النصر سلفاً. 

«في غزوها للمنطقة الحدودية، فإن تركيا قد قدمت خدمة عظيمة لسوريا. فحتى تاريخه، تصرف الأكراد وكأنهم أطفال مدللين وغير ناضجين مقتنعين بأن بإمكانهم أن يفعلوا شيئاً جيداً. لكن ومن المفارقات أنه ومنذ الغزو التركي لم يكن لديهم خيار سوى التفاوض مع النظام السوري. سوريا أمة عظيمة وستستعيد وحدتها»، يقول المطران إيفازيان مسروراً وهو يضرب قبضته على الطاولة. 

المطران يعلم أنه في الوقت ذاته وعلى بعد أقل من 500 كيلو متر يقوم جيش بشار الأسد بحرق محافظة إدلب بدعمٍ من الطيران الروسي وأنه سوف يستعيد عاجلاً أم آجلاً آخر جيب للمعارضة المسلحة في البلاد.  وبتدميره الوشيك لما تبقى من المعارضة المسلحة في غربي البلاد وبموقف القوة في مواجهة الأكراد في شمال شرقها، فإن نصر الديكتاتور بات وشيكاً. ويمضغ المطران إيفازيان قطعة من الشوكولا وهو يرافق فريق الصحيفة، حيث يقول لهم وهو يغلق الباب: «بالرغم من سنوات الحرب التسعة، فإن رئيسنا لم يركع أبداً..». 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.