تكاد ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد أن تكون فارغة تماماً من الساعة الثامنة صباحاً حتى السادسة مساءً، بسبب ارتفاع درجة الحرارة وتفشي فيروس “كورونا”، إلا أن المحتجين يتوافدون إليها بالعشرات عند المساء للهتاف وللاجتماع والتّغنّي بالأيام الأولى للثورة واستذكار الضحايا وعنف السلطة، كما يجتمع المعتصمون في خيامهم التي بانت عليها ملامح الشيخوخة وعوامل التعرية والحزن والدم عليها طيلة الأشهر التسعة الماضية.

هذا الفراغ ليس في ساحة التحرير فقط، حيث المكان الذي انطلقت منه شرارة الفرصة الأخيرة لتغيير نظام الأحزاب التحاصصية، بل ينطبق على ساحتي الحبوبي في الناصرية والصدرين في النجف، ولكن يؤكد المعتصمون على قلّتهم أن الاحتجاج لن ينتهي، وأن المطالب لا تزال قائمة وبانتظار تنفيذها.

يعترف بعض المحتجين القدامى، من الذين نجوا من رصاص القناص والطرف الثالث والدخانيات والهراوات والسيارات المضللة للخاطفين، أنهم في موقفٍ لا يسر، فقد تكالبت عليهم المشاكل إلى جانب القمع، إضافة إلى الفيروس، أضخم الأسباب التي أخمدت الحراك الجماهيري الرافض لقاطني المنطقة الخضراء.

غير الجائحة، تعرض المتظاهرون للخذلان، من تسلق بعض الناشطين إلى مواقع هامة في حكومة مصطفى الكاظمي، ويعمل بعضهم حالياً بصفات متقدمة، وبات منهم “مستشارين ومقربين وطبّالين وعمّال في غرفة الجهد الإعلامي لرئيس الوزراء”، وهذه النكسة حمّلت المتظاهرين وزراً لا ذنب لهم به.

ما زاد طينة المتظاهرين بلّة، هو الظن بأن الكاظمي قادر على تحويل العتمة إلى ضوء بلمحةٍ، خصوصاً وأنه رئيس جهاز المخابرات الذي يعلم خفايا الأحزاب وما ظهر منها وما بطن، وهذا الظن كان نكسة أكبر، وتبيَّن أنه شبيه المالكي ووزيره.

مطالب المتظاهرين صعبة على الكاظمي، إذ أن كشف 10 أسماء من قتلة المحتجين ينتمون إلى جهة معينة هو انتحار للعملية السياسية وإعلان رسمي بفشلها في احتواء تظاهرة كانت في مطلعها بسيطة ورشيقة ولكن ما زاد من نارها هو القمع، لذلك لن يتحقق هذا الملف في حكومة الكاظمي، ولا في الحكومات التي ستجيء بعده.

ولعل أبرز أسباب صعوبة كشف هوية القتلة، أنهم من أكثر من جهة، كما في الإثر القديم: ربما أخذت السلطات من كل قبيلة رجل، ليضيع دم القتيل بين القبائل، هذه الرواية هي الأقرب لما حصل في تشرين الماضي، وبالتالي لا توجد حكومة تستطيع مواجهة كل القبائل، ولا سيما أن هذه القبائل هي الحاكمة.

بالمقابل، تمكّنت الأحزاب من ركوب موجة ثاني أهم مطالب المتظاهرين، فقد أعلن السيد عمار الحكيم تأسيس تحالف “عراقيون” وأعلن أيضاً أنه يعمل على تحقيق الانتخابات المبكرة، ولكن لم يعلن إن كانت هذه الانتخابات ستكون مثل ما يريد المحتجون أم على مقاسات “عراقيون”.

شُتّت المتظاهرون، منهم من غادر العراق ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ويبدو الفرصة الأخيرة تضيع عليهم شيئاً فشيئاً، لأسباب عدة، لعل أبرزها الرفض الجامح لكل شيء، فقد كان المتظاهرون غاضبون لدرجة أنهم رفضوا كل شيء، وأضاعوا من أيديهم كل شيء، بعد أن كان العالم ينتظر منهم قراراً بتعيين شخصيات لو اتفقوا عليها لما جرى ما جرى، لكنهم أصرّوا على الرفض، حتى ضاع كل شيء، وربما الفرصة الأخيرة.

كما أن الأحزاب التي عجزت عن تهدئة المتظاهرين في أشهرها الأربعة الأولى، باتت اليوم تمتلك من الخيام أكثر من المتظاهرين أنفسهم في الساحات، وصارت كل خيمة تمثل جهة سياسية معينة، تضرب جسد التظاهرات ببيانات ملفقة ومواقف لا علاقة لها بالمطالب الأصلية والحراك المدني.

مع ذلك، تبقى التظاهرات التي انطلقت في تشرين الماضي، هي الأبرز في تاريخ العراق الحديث وأنها تمكنت من تحويل الفكر الاحتجاجي إلى ممارسة اعتيادية، وبات من الممكن تحدي الدولة والنظام، ولم يعد هناك حاجة للموافقات الأمنية للخروج بتظاهرة، وصار الاحتجاج عادة.

قصارى القول، لم يبق سوى ثلاثة أشهر على تشرين الأول المقبل، ويحتفل المحتجون بمرور سنة على بدء تظاهراتهم وسيوقدون 700 شمعة احتفالاً بالمناسبة العظيمة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.