حديث صحفيّ للشَرعيٍّ في “هيئة تحرير الشام” أبو عبد الله الشامي، مع صحيفة سويسريّة، يدعو فيه إلى “تطبيع العلاقات” مع الدُول الأجنبية، يَعودُ لاحقاً ويُعقّب عليه، مُوَضّحاً مَعانِيه، ومُلملِماً تأويلاته!. تفاوُضٌ فرنسي مع “حزب الله” اللبناني/الإيراني، بهدف إصلاح الأوضاع في لبنان، تخلله انسحاب نائب للحزب من مأدبة غداء على شرف رئيس فرنسا، بسبب زجاجة نبيذ، بالتزامن مع انسحاب آخر يُفّكر به أتباع “سماحة السيد” من سوريا!.

وإعلانٌ تركي عن إلقاء القبض على “أمير تنظيم داعش في البلاد”، أعقبته محاكمة “الداعشي” الآخر؛ منفذ هجوم مطعم “رينا” في إسطنبول عام 2017!. وَفدٌ من حركة “طالبان” الأفغانية بعقيدته الصلبة يَفرِضُ نفسه طرفاً تفاوضياً مَرِناً مع حكومة بلاده، وسط جهود دولية لدفع محادثات السلام الأفغانية!. في الأثناء يتم تفكيك “خليّة” في المغرب، وتقَعُ عملية طعن “إرهابية” في تونس تُسيلُ دماء رَجُل أمن، بعيداً عن فرنسا المَشغولة بمحاكمة المتّهمين باعتداءات “شارلي إيبدو”!.

هذه “الأخبار” ليست حصيلة عام كامل، بل أقل من شهر!. فهل نحن أمام فترة تجاذب جهادي شرق أوسطي- غربي، أم موسم تصفيات لتنظيمات، تحضيراً لغربلتها ثم للحَجر على ما يتبقى منها، مع اشتراط احتفاظها بمَحليّتها، وتبرّؤها من نُسَخِها العالمية، لتصبح جديرة بالاعتراف والدعم والحصول على القروض؟.

في مسألة النطاقات الجغرافية لا يمكن الجزم بشيء، فالبعيد قريبٌ، والعكس صحيح!. وعلى سبيل المثال حين قرّرَ نظام الأسد يوماً ما أن يلفت نظر الولايات المتحدة، ويقول لها:” أنا موجود ففاوضوني”، أرسلَ مقاومين/مجاهدين سوريّين إلى الجارة العراق حيث القوات الأميركية.

هذا لا يعني بالضرورة أنّ وَقائِع شهرٍ من الزمن ينبغي إقحامها كلّها في قراءات أبعد، ونزعها من سياقها المكاني وظروفها المحددة بكل دولة، بما فيها “دولة إدلب” و”دولة ضاحية بيروت الجنوبية”. لكنّ خلاصة تلك الأحداث تلتقي في نقطة تَجمَع مختلف الأفرقاء (الجهاديين والمتحدثين باسمهم) عندَ تنازع موقع سلطوي تدعمهُ إمكانية تحريك أصحاب الرؤوس الحامية وتبريدهم، كوَرَقة محتملة لابتزاز الآخرين.

يبدو “الجهاد” هنا وكأنه يتجاوز العقيدة الإسلامية بمصادرها النصيّة والتراثية، وبألوانها الطائفية، نحو مسألة أكبر ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية وثقافية مُتصلة بفكرة الهجرة، وبـ “صِدام الحضارات” أو تمازجها.

لكنْ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا ترتعدُ اليونان من احتمال استخدام تركيا لمجاهدين في الحرب ضدها؟ هل لأن الإغريق شاهدوا تغريدة للمقاتل في صفوف “الجيش السوري الحر” سهيل أبو التاو، يُعلِن فيها استعداده لقتالهم، كنوع من ردّ الجميل لـ” الشهداء الأتراك” الذين قُتلوا على أرض بلاده؟

“أبو التاو” السوري كما مقاتلَا ميليشيا “حزب الله” “أبو علاء البوسنة” و”أبو محمد الإقليم”، الذَين قاتلا خارج الحدود. هو صاحب مأساة أو شعور بظُلم، وإحساس بالامتنان لمَن خفّفَ عنه!. وكالعادة يتحوّل الامتنان إلى أسوأ أشكال الاستعباد وضمان الولاء، ليكون اللاجئون وسكان الهوامش والمُقيمون في مظلومية تاريخية، وقوداً للحروب بعد انتهاء فترة احتضانهم العاطفي من قبل “السيّد الطيّب” أو “الوَليّ آية الله”.

إذاً لا مُصادفة، بل استعادة لفكرة العِراك بين الدول بقُفازات تُستخدم لمرّة واحدة، قبل أن تتّسِخ وتُرمَى. واليوم لا يبدو أنّ هناك مشكلة باستمرار هذه الصيغة بشرط ألّا تتعدى حدودها، وأن تظهَر أكثر براغماتية وأقل توحشاً، كما هو الحال بالنسبة للمرتزقة أصحاب العُقود المؤقتة.

وفيما يَخصّ خريطة انتشار المجاهدين فهي محكومة بخطوط تماس الغاز والنفط، وبالتزام الإيديولوجيا بدورها في خِدمَة الشركات والمقاولين، ليبقى الصراع الديني الفعلي نزاعاً على “الإسلام الحقيقي”، وعلى إعادة ترتيب قائمة الأعداء (يهود، صليبيين، روافض، نواصب، ملاحدة، مُطبّعين مع العدو..).

وفي حال الإخلال بالتوازنات أو تجاوز المسموح به، فالتقارير جاهزة حينها للخروج من الأدراج، وكشف تورّط جمعيات خيرية إسلامية-أوروبية بـ “تمويل الإرهاب”، تمهيداً لإجراءات حظر وتقليم أظافر، والفرز بين أجنحة سياسية وعسكرية. ولربما تصل الأمور إلى مرحلة طرح قانون ضدّ “التيارات الانفصالية الإسلاميّة” كما حدثَ في فرنسا، بحيث تتمّ مراقبة خُطَب المساجد، والتوقف عن استقبال أئمّة ترسلهم وتموّلهم “دول أجنبية”!.

ثمّةَ مَشاهِد وحوادث لا يريدها الغرب أن تتكرّر على أرضه إلا ضمنَ “الحاجة”، وبالتالي فلن يُمانع تَداول فيديوهات للمُغنّية الأميركية جنيفر جراوت، وهي تُرتّل آيات من القرآن، وصُوَر للمصارع النمساوي فيلهلم أوت، ينطق الشهادتين، فهؤلاء يُطفِئون بعض النار المشتعلة في الصدور نتيجة إحراق نُسخ من المصحف من قبل متطرفين أوروبيين، مثلما جرى في السَويد مؤخراً.

بالمقابل ستتواصل رسائل الغزل السياسي واستعراض القوة عبر مناوشات إعلامية، وتفجيرات انتحارية، وإطلاق سراح رهائن، وخطف آخرين. وبينَ هذا وذاك سيزداد السعي لنماذج “إسلام سياسي محلّي” يقدّم نفسه كشرطيّ مرور يضبط تنقلات الجهاديين (بلا ضمانات نهائية)، مع احتفاظه بحقه في اتخاذ واجهات سلطوية عسكرتارية أو مدنية أو سلفيّة، وبفرض سطوته على مجتمعاته باستخدام عصا “الفضيلة”، ووفقَ أولوية واضحة لـ “واهجُرُوهُنَّ في المَضَاجِع واضْربُوهُنَّ”، على “وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعتُم مِن قُوَّة”.

وكلّما اتضحَ حجم التفاوت في المقاربات الغربيّة (الأميركية والفرنسية والألمانية خصوصاَ) لأزمات الشرق الأوسط، ستتدفق أخبار قادمة من إيران وسوريا ولبنان وتركيا، وعموم مناطق النشاط الجهادي، وستتنافس أنظمة وميليشيات على بثّ رسائل إمّا لتجميل وَجهها العُنفي، أو لعَرض عضلاتها، في محاولة منها لحجز مكان لها كطرفٍ لا ينبغي تجاهله.

ومما سيزيد حِدّة المنافسة، استمرار السقوط الحرّ لـ “التومان” و”الليرة” وللاقتصادات القائمة عليها، لتَضِيقَ الخيارات على من تعوّدوا اللعب بوَرقة “الجهاد العالمي”، ويَجدوا أنفسهم في تصفيات يفوز فيها مَن يكتفي بنزاعاته الإقليمية، دون أن يكترث بتعجيل ظهور “المهدي”، أو برثاء قتلى الطائرات المُسيّرة من “حرّاس الدين”، بل يَغسل يديه من آثار الدماء والتحالفات السريّة، استعداداً لأي مصافحة تُنتِج اتفاقاً مع دُول كبرى.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.