كانت للكلاب مكانة جيدة في حياة البدو، لحاجتهم لها في حراسة المراعي والمواشي. فيما لم يألف الفلاحون في القرى؛ مجاورة الكلاب في حياتهم، إلا ما ندر، وبقي التشبيه الأكثر انحطاطا للكلاب مصدره؛ قصص الفلاحين إلى جانب فئة أخرى أشدَّ هولاً على الكلاب.

أحياناً تُسرد بعض القصص عن آغواتٍ أطلقوا كلابهم على فلاحين لم يدفعوا ضرائب، بالتالي كانت للكلاب حضور في مرابع الإقطاع، لكن كأداةٍ عقابية وليس صداقة، وبقيت كلاب الإقطاعيين رابضةً قرب مداخل بيوتهم الفخمة ولم تجد سبيلاً لقضاء وقتٍ في الغرف. تاريخياً، فقط لدى رعاة الأغنام تطورت العلاقة مع الكلاب إلى صداقة وعشرة اجتماعية.

لكن المتصوّفة عبر التاريخ الإسلامي، ألحقوا ضرراً كبيراً بسمعة الكلاب، حيث أنهم دأبوا على تشبيه الكافر بالكلب، وكذلك مقولات “كلاب أهل النار” وهي تشبيه مرعب لدى المؤمنين البسطاء، خصوصاً الفلاحين، وذلك رغم أن الكلب حيوان تم ذكره في القرآن، في سورة الكهف، لذلك احتج الكلب في رواية (اسمي أحمر) على التناقض بين الفقه والقرآن بخصوص مكانة الكلاب، والتحريف الذي أدخله الفقهاء للحط من شأن الكلاب والرفع من مقام القطط.

بالفعل هناك في سيرة عددٍ من المتصوّفة عادة إطعام القطط الجائعة، لكن الكلاب بقيت مجرد أداة لتشبيه الحقراء و الأوغاد والكفار بهم.

مع إقرار الإصلاحات العثمانية بدءاً من عام 1839، تغيرت الحياة الاجتماعية على نحوٍ ملحوظ، لكن الكلاب بقيت خارج ثمرات الإصلاح، بينما تكدّست القطط في منازل أثرياء وفقراء اسطنبول تدريجياً، خصوصاً عائلات الموظفين العائدين من فرنسا، لتعيش الكلاب حقبة سوداء جديدة في ذروة عصر الأنوار، من إمبرياليةٍ اختارت القطط على الكلاب.

في عام 1911، كانت الدولة على أبواب مذابح بشرية كبرى ستؤدي إلى تغيير تركيبة البلاد التي عاشت قروناً في ظل تنوّعٍ اجتماعي قومي ديني. في ذلك العام أمر حاكم اسطنبول، الموالي للاتحاد والترقي، بتنظيف شوارع اسطنبول من الكلاب المشردة، خصوصاً في أحيائها الطرفية، وذلك بهدف التخلص من نباحها المزعج في الليل، والذي يعكس صورة غير متحضرة للمدينة التي تعيش أزهى أيام ثورة الدستور.

شارك مئات المشردين، بالتعاون مع البلدية، في القبض على الكلاب، فأُرسِلت قافلةٌ ضخمة منها إلى جزيرة من جزر الأمراء في بحر مرمرة، وخلال أسابيع قُتِل 80 ألف كلب على الأقل، في الجزيرة القاحلة التي لا حياة فيها، وتخللت هذه المجزرة حرب أهلية مؤسفة، حيث أكلت الكلاب الجائعة بعضها البعض، لكن في النهاية مات الجميع بفارق أيامٍ قليلة، لتكون الحصيلة مئة ألف كلب قتيل على أرض الجوع والحرب.

في العام نفسه، تعرضت اسطنبول لزلزالٍ ألحق ضرراً بالمدينة، فتداول السكان فيما بينهم أن الله عاقب المدينة بسبب مجزرة الكلاب، لكن قلة فقط اقتنعوا فعلاً أن ما جرى عقابٌ إلهي، لأن مسلمي اسطنبول سرعان ما كثّفوا من استخدام اسم الكلاب لوصف أرثوذكس البلقان الذين انتصروا في حرب البلقان عام 1913.

عادت الكلاب للتجمع مرةً أخرى في اسطنبول، قادمة من ضواحي أبعد جهة البحر الأسود، فكان النباح قد عاد مجدداً كالأول حين دخلت قوات الحلفاء المدينة عام 1918.

لقد استفادت الكلاب من الحرب العالمية الأولى، حين كان سكان المدينة يحصون أيام أعمارهم الباقية في ظلّ حربٍ لم يشهدوا مثلها من قبل وتهدد بفناء أقوامٍ كاملة، فكان كل قوم مشغولاً بكوابيس الإبادة ولم تعد الكلاب تشغل بال أحد.

جاء إعلان الجمهورية كيومٍ سعد للكلاب جمعاً، فقد تخلص مصطفى كمال خلال السنوات الأولى المبكرة، من أشرس أعداء الكلاب، وهم رجال الدين الذي يطلقون تشبيهات الكلاب على الكفار ودعاة التغريب، مثلهم مثل الشيخ حصرت الأرضرومي في القرن السابع عشر. واستمتعت الكلاب وهي تشاهد إغلاق التكايا وملاحقة شيوخ النقشبندية ونفيهم، فيما باتت القطط تشعر بقلق شديد بسبب قرب دخول الكلاب إلى المنازل كأعضاءٍ محترمين في المجتمع أسوةً بهم.

بالفعل، لم يخب ظن الكلاب. فقام مصطفى كمال بحركة جريئة صادمة في سبيل تغيير العقلية التقليدية، وتبنى كلباً أطلق عليه اسم “فوكس”، وللمرة الأولى يدخل كلب قصر الحاكم ويقيم فيه، وينام في غرفة الزعيم نفسه. كان الحدث مزلزلاً لكل كلاب العالم التي اعتبرت ما جرى في تركيا من الفتوحات الكبرى في تاريخ الكلاب.

لكن “فوكس” لم يثبت جدارته، بسبب حداثة عهده بالمدينة والإقامة في المنازل المحترمة. باختصار لم يكن الكلب المناسب لهذه المهمة العظيمة. فحين كان مصطفى كمال يستقبل وزير التعليم، رشيد غالب، في مكتبه، قام الكلب “فوكس” بحركةٍ غبية، وحاول عضّ ساق الوزير، ومزق بنطاله. قام مصطفى كمال بتعويض الوزير بنطالاً آخر من خزانته، لكنه لم يصب جام غضبه على رفيق غرفته “فوكس”.

بعد فترة، شعر “فوكس” باضطرابٍ ذهني غامض، وكان ممدداً تحت طاولة سيده مصطفى كمال، كالعادة، وكان كمال يكتب بالقلم ويده الأخرى مرئية للعزيز “فوكس”، فقام الأخير بمهاجمته وعضه من يده.

تألّم مصطفى كمال كثيراً، وشعر بالإهانة، وللحظة شعر أيضاً بصحة تشبيهات النقشبندية للكلاب. اضطرب هو الآخر، وأمر بستاني المزرعة بالتخلص من “فوكس” نهائياً، فنفّذ البستاني الأمر على  الفور وقتل “فوكس”.

ولأنه كان يعلم حب مصطفى كمال للكلب، قام بتحنيط جثّته، معتقداً أن الزعيم سيكون سعيداً بهذه المفاجأة، لكن حدث العكس، حيث غضب بشدة وأمر بالتخلص من الجثة المحنّطة أيضاً. الزعيم حين يأخذ موقفاً فإنه يأخذه حتى آخر عيار!.

لكن كلباً آخر كانت له سيرة مغايرة في الفترة نفسها. فقد أعلن درويش أفندي، وهو رجل صوفي ذو حظ من الشهرة، أعلن نفسه أنه المهدي، في شتاء 1930، وكان معه كلب قال إنه نفس الكلب الذي كان مع “أصحاب الكهف”، وإن الكلب الأناضولي الضخم علامة على صحة ظهور المهدي المنتظر.

كان الكلب محوراً رئيساً في هذا التمرد الذي قلب حياة مصطفى كمال رأساً على عقب، فهنا، في بلدة “مينمن” رفع شعار “موت الجمهورية” وجن جنون أتاتورك، وحين صدرت الأوامر بمواجهة هذه الحركة المهدوية، كانت التعليمات واضحة بضرورة “قتل جميع الكلاب” بمن فيهم كلب أصحاب الكهف، صاحب أكبر قضية في تاريخ كلاب العالم منذ النوم الشهير الذي استغرق أكثر من 300 عام.

عموماً لم تختلق الكلاب الكردية الشهيرة بحجمها وشراستها مع الكلاب الأناضولية، رغم التداخل الاجتماعي الكبير بين بشر المجموعتين. بقي نهر الفرات خطاً فاصلاً بين كلاب المنطقتين.

والكلاب الكردية شهيرة في حديث منسوب لأبي عبدالله الحسين بن علي: “الكلاب الكردية، إذا عُلّمَت، فهي بمنزلة السلوقية”، بمعنى أنه يجوز أكل الفريسة التي تجرها الكلاب الكردية بفمها، فهي ليست نجسة.

توازنت حياة الكلاب مع حياة القطط في عهد الجمهورية، رغم أن بعض الإجحاف غير المباشر قد لحق بها، بسبب الصورة النمطية العنصرية الراسخة. فحين تمت محاكمة رئيس الوزراء المخلوع، عدنان مندريس، بالإعدام شنقاً، عام 1960، وجهت إليه تهمة “شراء طعام للكلاب من المال العام”. صحيح أن الاتهام كان موجهاً لهدر المال العام، لكن الزج باسم الكلاب في المحاكمة لم يكن لائقاً.

عموماً، نجحت الكلاب بكل الأحوال في دخول المدن، وباتت عنصراً من العائلة البشرية، وذات مكانة مهمة حيث تختص مصانع بإعداد طعام جاهزة معلبة للكلاب، ولم تعد عظمة “سبايك” التي روجتها أفلام “توم آند جيري” مكاناً في حياة الكلاب المتحضّرة.

كما شهدت الكلاب تآكلاً في الفروقات الطبقية. ففي الخمسينيات على سبيل المثال، كانت أقلية صغيرة من الكلاب تنعم بحياة مرفّهة في منازل فخمة يمتلكها أثرياء المدن، لكن سرعان ما تعلمت الطبقة الوسطى تقليد الأرستقراطية المتلاشية، وهذه الطبقة الوسطى رفعت من مكانة الكلاب إلى حيث لم تكن تحلم يوماً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.