خَطَأً فَعلَتْ زوجة رئيس الوزراء الأرميني الحسناء “آنا هاكوبيان” حين أعلنت عن وجودها في “ستيباناكيرت” (عاصمة ناغورني كاراباخ)، لتنتشر بعدها صُوَر قديمة لها باللباس العسكري، بهدف شدّ عزائم الأرمينيين، والتشجيع على المقاومة الشعبية حتى آخر رمق، وليشعر جنود بلادها أنّ أياديهم مربوطة إلى الحجارة والأشجار في أرض المعركة، فيواصلوا القتال مهما بلغت ضراوة الحرب.

كان الأجدى للسيدة هاكوبيان أن تظهر بالخِمار أو البرقع على أقل تقدير، وهي التي لا تعرف جيداً مَن ستُواجه في المعارك مع أذربيجان وحلفائها، ذلك أنها بإخفاء ملامحها قد توفر على نساء “كاراباخ” بعض الجرائم الجنسية التي يتهيّأ فحول مرتزقة تركيا من السوريين لارتكابها؛ أولئك الذين لا تحتاج مخيّلتهم لأن تتحرك وتتلوّن أساساً بجَمال نسائي.

حبذا أيضاً لو تمَّ تداول معلومات، وإن كانت مُضللة ومغلوطة، حول انتشار وباء من أنواع انفلونزا الطيور أصابَ قطاع الدواجن في “كاراباخ” ولم يَسلم منه أي دجاجة، مع التأكيد على أنه مَرَض قاتل يُودي بحياة الناس عند حدوث تلامس أو سرقة.

تبدو الحلول قليلة لكبح تدفق المرتزقة للمشاركة بالنزاع الأرميني الأذربيجاني، ومنها محاولة صَدِّ شهيتهم باعتبارها مصدر تفوقهم العسكري الأبرز، في مقابل خبراتهم القتالية المحدودة، وقضيتهم الأخلاقية والوطنية غير الموجودة.

نحن أمام كارثة مُركّبة عنوانها “العار”. وليس أيّ عار؛ بل إنه مغطى بذرائع لا تنتهي، وباستعداد مسبق لإدخال المُنتقِدِين في سباقٍ “ماذاعنّي” (من “الماذاعنية أو ما يُعرف بـ Whataboutism) يُشكك في نقد الطرف المقابل من خلال توجيه الحديث نحو المقارنة مع حالة أسوأ!. “ماذا عن المرتزقة الذين ينقلهم النظام السوري؟ ماذا عن ارتكاباته بحقنا، وتعفيش قواته لممتلكاتنا؟ ماذا عن القذيفة التي أصابت منزل فلان في عام ****2؟ لن ننسى!”.

إن ذاكرة الألم التي تقاوم النسيان بالتوحّش المبرمج، ليست إلا ورقة تلعبها أطراف بلغتْ مرحلة الإفلاس الإقناعي لجمهورها، فلم يبقَ أمامها سوى تحويله إلى “ضحيّة أبديّة” تأبى الشفاء كي لا تخسر عدالة قضيّة كسبتها من خصومة نظام الأسد؛ ذلك المجرم الذي وَرّطَ البشرية بجريمة مزدوجة حين قتَلَ أبرياء، ثم رفضَ كل أشكال التغيير، صانعاً نصف حرب أهلية أفرزت كائنات لا تعرف استعمال الآلة الحاسبة إلا عندما تحصي الغنائم المتضمّنة للنساء والدجاج والحطَب.

هذا العار المتنقّل من سوريا إلى ليبيا إلى أرمينيا، والذي يحمل بصمات سوريّة واضحة، لا يمكن إزالته بالمطهّرات أو الوقاية منه بالكمامات، لِعدّة أسباب، أوّلها سهولة إلصاق تهمة ارتبطت ببعض المُنتمين إلى هوية وطنية، بجميع حاملي جنسيتها، خصوصاً في ظلّ اصطفاف أبناء بلدان المنطقة ضمن مَحاور متصارعة، وطبعاً مع الأخذ بالاعتبار إمكانية بناء سُمعة في هذا العصر خلال ساعات من تداول واسع لهاشتاغ ذي صبغة انفعالية، وتعميمات هوياتيّة غاضبة. ومثاله الحالي مصطلح “سوركيين” الذي استُخدِم للإشارة إلى أدوات تركيا من السوريين وراح يتحوّل تدريجياً من فكرة خاصة بالمُسلّحين المُستأجرين بالمال أو الإيديولوجيا، إلى كلمة عامة تستطيع تلطيخ من ليس له علاقة.

ولعلّ أسوأ ما في الأمر، هو ما يجري بعيداً عن الجبهات بفضل سوريين ناشطين أو قليلي النشاط والحيلة، مُقيمين في تركيا وأوروبا وسواها، يُشكّلون مرتزقة افتراضيين (براتب أو بدون) صدّقوا أنهم ثوّار عالميون تنتظرهم الاحتجاجات في كلّ مكان كي يدعموها من خلف شاشة موبايل مُشترى بمال الإعانات الاجتماعية، لِيُسقِطوا الأنظمة في مصر أو الخليج العربي أو الصين أو أميركا اللاتينية بالشتائم والسخرية، دون أن يدركوا أنهم يستجلبون اللعنة لكل ما هو سوري، لا بل يخرّبون حياة لاجئين سوريين يدفعون ثمن حماقات وفراغ وحذلقة ونفاق إخوتهم الافتراضيين العابثين بأزرار السوشال ميديا وكأنهم أطفال غير وَاعين بعواقب كل ضغطة وحركة، لتكون النتيجة رفضاً لوجود لاجىء في دولة ما بسبب سمعة التصقت بوطنه الأم، أو تضييقاً على آخر بلقمة عيشه، جَزاءَ ما لم يَرتكبْ.

ومما يساهم بانتشار هذا “اللقب الشتيمة” (سوركيين) استخدامه من قبل سوريين يحاولون التبرؤ من أفعال أبناء جلدتهم، عبر تعيير كل سوري لجأ إلى تركيا، ووصمه بالعمالة، حتى ولو عاش بكرامة، ورفض أن يكون أداةً مُنتحلاً اسماً مستعاراً ينتهي مثلاً بـ “أوغلو”!.

لا حاجة هنا لِقَول الكثير عن الفرق بينَ مَن خَرجَ من سوريا -أياً كان عدوّه- باحثاً عن الأمان، وبدأ حياة جديدة تعكس تصالحه مع نفسه قبل كل شيء، وبينَ من اعتاد التكسّب من موقف (بعثي، ثوري، مقاوم، ضد إسرائيل، ضد الأسد..)، وبقيَ أينما ارتحل يتقاضى أجور انفعالاته ضد جهة ما، لا أجرَ عمله أو تخصصه في أي مجال.

في الماضي دفعَ فلسطينيّون محايدون موظفون ومدرّسون وعمّال مقيمون في الكويت ضريبةَ مواقف سياسية نُسِبتْ لهم كُلّهم بناءً على انتماء جمعي، ليُطردوا بتهمة تأييد صدام حسين، عقب نهاية الغزو العراقي عام 1991. وبطريقة قد تتشابه في نواحي معيّنة، حمَلَ بعض اللبنانيين المغتربين أيضاً وِزر مواقف “حزب الله” ومغامراته العالمية.

نُدرك أنّ تصفية الحسابات وظلم البريء وخلط السياسة بالاقتصاد والفن والرياضة هيَ مِن بدهيات الدول المتأخرة على سلّم حقوق الإنسان، ولو وصلت إلى الفضاء. لكن بالمقابل لا بدّ من الإقرار بأنّ “الأخ” يُصبح “غَريباً” حالَما يصير جزءاً من مشاريع الآخرين، لتقودهُ غرائزه البهيمية إلى الجبهات، فيُطفئها بغزوات لا تستثني امرأةً أو دجاجة أو شجرة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.