عَلَتْ الأصوات الإيرانية مُهدِّدةً بالانتقام لمقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قبل عامٍ من الآن، ووصل التصعيد الكلامي بخلفه، إسماعيل قاآني، إلى الحديث عن إمكانية الانتقام داخل الولايات المتحدة.

هذه التهديدات التي رافقت مظاهر احتفال ومهرجانات ضخمة خُصصت لهذه المناسبة في إيران وسوريا ولبنان والعراق وغزة، كان القصد منها توصيل رسائل إلى واشنطن، وتعزيز أوراق القوة قبل التفاوض المرتقب مع الرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، حول شروط العودة إلى الاتفاق النووي، وبالقدر نفسه التهدئة وتوخّي الحذر من أيَّ ردود أفعال غير محسوبة من مليشيات إيران المنتشرة في عدة دول عربية.

الرسائل التي أرادت طهران إرسالها إلى واشنطن، من جهةٍ أولى تتعلق بإمكانية التفاوض على بعض المليشيات، حيث تم سحب مقاتلي مليشيا “فاطميون” الشيعية الأفغانية من سوريا، والبالغ عددهم 5000 مقاتل، وإعادتهم إلى بلدهم، ومن جهةٍ ثانية، أن الصواريخ البالستية التي تحدّث عنها الحرس الثوري الإيراني في سوريا ولبنان والعراق وغزة، هي خارج التفاوض، ما يعني عدم تخلي إيران عن نفوذها في هذه الدول، وأنها تمسك بالقرار فيها.

اغتيال سليماني قبل عام، كان ضربة أميركية قوية لإيران، فالقائد الميداني كان العقل المدبّر بما يتعلق بسياسات إيران التوسعية تحديداً؛ فهو من وجد في عجز النظام السوري عن دحر معارضيه بعد عام من الثورة، فرصة للتدخل، عبر إقناعه بمواصلة الحل العسكري، وأن إيران ستدعمه حتى النهاية. وسليماني هو من دعا بوتين في موسكو للتدخل العسكري في سوريا، وحماية النظام عسكرياً.

اتّبع سليماني استراتيجية إنشاء المجموعات الرديفة المحلية ممثّلة بمليشيا الدفاع الوطني المحلية، واستجلب مرتزقة شيعة في لواء فاطميون وزينبيون ولواء الإمام علي وحركة النجباء وقوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني ومليشيا الحشد الشعبي العراقي وغيرها، ووزّعها على مفاصل مهمة في الجغرافيا السورية، جنوب العاصمة في مدينة السيدة زينب، وفي قلبها حيث يُعتقد وجود مقام السيدة رقية بنت الحسين، وفي مطار دمشق الدولي أنشأ “البيت الزجاجي” لتسهيل حصول القادة العسكريين الإيرانيين على الدعم البشري والمالي، وقد تعرض للقصف الإسرائيلي مراراً.

كما طوّق حلب بمليشيات مرتبطة بالحرس الثوري، في الجنوب وفي معامل الدفاع في السفيرة، والمليشيات الطائفية في نبل والزهراء، وفي حلب الشرقية اعتمد على مليشيات محلية عشائرية كلواء الباقر، وسيطرت إيران أواخر 2017، على المنطقة بين الميادين والبوكمال، وباتت معقلاً لها، وجزءاً من البادية السورية بعد دحر تنظيم داعش، ما أمّن لها طريقاً برياً من إيران إلى لبنان عبر العراق وسوريا.

وبالتالي، خسارة سليماني لا تعوّض بالنسبة للمشروع الإيراني، حيث لا يتمتّع خلفه قاآني بنفوذ بين المليشيات، التي بدأت تتمرّد بسبب عجزه عن توفير الدعم المادي، نتيجة أزمة إيران الاقتصادية.

هذا لا يعني بداية اندحار المشروع الإيراني في المنطقة، فسياسة الصبر الاستراتيجي التي يمتلكها حائك السجاد الإيراني، لا يمكن أن تتخلى عمّا بنته خلال سنين طويلة وأنفقت في سبيله أموالاً باهظة.

تراهن طهران على عدة أمور، اعتمدتها طيلة العام الفائت، لترميم الخلل الذي حصل بمقتل سليماني، والحفاظ على ما حققته وتعزيز التحالفات، واكتساب أوراق قوة للتفاوض مع واشنطن حول العودة للاتفاق النووي الإيراني.

أهمّها، تحالفها مع روسيا، فالعلاقة بين الطرفين في سوريا تحوّلت من علاقة تكتيكية تكاملية في المعارك العسكرية، تتعلق بتقديم إيران العنصر البشري بدعم من الغطاء الجوي الروسي، إلى علاقة استراتيجية، مع رغبة روسيا في الصعود في عالمٍ بات متعدد الأقطاب.

يلتقي الطرفان حول الموقف من التواجد الأميركي شرق الفرات؛ ففي حين عجزت روسيا عن استقطاب المكون الكردي، عبر اتباع أسلوب الضغط والتخويف من الاجتياح التركي، وعجزت كذلك عن استقطاب العشائر العربية شرق الفرات، نجحت إيران في إنشاء المجلس الأعلى للعشائر، وتجنيد ألوية الباقر العاملة في حلب، وفيلق العشائر في دير الزور، ووجدت أن مصلحتها تتقاطع مع هؤلاء، الذين ذهبوا إلى طهران للمشاركة في إحياء ذكرى سليماني، واجتمعوا بضباط من الحرس الثوري، وأعلنوا استعدادهم لتشكيل جيش رديف لتحرير شرق الفرات، وهي ورقة يمكن لروسيا الاستفادة منها؛ إذا ما سنحت لها الفرصة للسيطرة على شرق سوريا.

تراهن إيران في علاقتها مع روسيا، على تحالف ثلاثي أستانة، وتسعى لضم الصين والاتحاد الأوروبي إليه، لتعزيز موقفها المتخوّف من رغبة روسيا بمشاركة دولية، وعربية خصوصاً، في العملية السياسية وإعادة الإعمار، عبر رؤيتها للحل السياسي بإجراء الانتخابات الرئاسية واستمرار عمل اللجنة الدستورية.

ورغم التلاقي بين الطرفين فيما يتعلق باستمرار نظام بشار الأسد، تجد طهران أن دورها يزدهر باستمرار الأزمة السورية، لذلك هي تدفع النظام إلى عدم تقديم التنازلات التي ترغبها روسيا بخصوص اللجنة الدستورية، وترغب بتأجيل الانتخابات الرئاسية، لتمديد فترة ولاية بشار الأسد.

بالنسبة لها، تحقيق الاستقرار يعني احتمال تفجّر الوضع الاجتماعي نتيجة سوء الأحوال المعيشية، وهي لا تضمن ألا يكون الحل باتفاق روسي أميركي إسرائيلي، ودعم عربي، يأتي على حسابها، خاصةً أن روسيا تغضّ الطرف عن الضربات الإسرائيلية المتكرّرة التي تتعرّض لها إيران في سوريا.

تستعدُّ طهران لاتفاقٍ نووي جديد مع واشنطن، وسيكون عليها تقديم تنازلات للوصول إليه، وهي لا ترغب أن يكون على حساب صواريخها البالستية، وقد رفعت تخصيب اليورانيوم 20 بالمئة واقتربت من إنتاج قنبلة نووية لغرض كسب أوراق تفاوضية.

يعتاش المشروع الإيراني على أزمات المنطقة، ولا تملك الدول الرافضة له رؤية موحدة لإيقافه؛ بل في سوريا خصوصاً، يرتبط استمرار النفوذ الإيراني باستمرار المستنقع السوري، فالتغيير الديمغرافي الذي تمكنت من إجرائه محدود، ومرفوض حتى من شيعة عرب سوريين، كأهالي الفوعة مثلاً، وجزء من شيعة دمشق، ولا توجد بيئة اجتماعية طائفية كافية لاحتضان هذا المشروع، وهو مربوط أيضاً بقدرتها على تقديم التمويل لميليشياتها في ظلِّ الحصار الاقتصادي الذي تعانيه.

هي قَبِلَت مؤخّراً بالوساطة الروسية مع خصومها، وتخلّت عن عقود استثمار لها مع النظام لصالح الروس، فوجودها يتعارض مع الرغبة الروسية في الهيمنة على سوريا، ومن غير المستبعد أن تخسر بعضاً من نفوذها في سوريا، وما تخشاه هو أن تضطرّ إلى التضحية بحزب الله في لبنان، وهي تعمل على التهدئة هناك، وقد كلفته بمهمة ترسيم الحدود الجنوبية مع إسرائيل لهذا الغرض.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.