ليس من الغرابة بمكان أن يمرَّ على المُتابع للشأن السوري العام خبر قيام تل أبيب بهجماتٍ صاروخية أو ضرباتٍ جوية على موقعٍ عسكري في سوريا؛ سواء كان موقعاً عسكرياً سورياً رسمياً أو نقاط عسكرية للإيرانيين وحُلفائهم من الجماعات العسكرية العابرة للحدود.

هذا النمط من الهجمات كان جزءاً من الصورة الأمنية في عموم سوريا خلال الأعوام الماضية، شيءٌ من العامل الإضافي الهامشي ضمن حرارة المعارك في عموم البلاد وقتها. بقيت الضربات عبارة عن حديثٍ إعلامي خلال الفترة الماضية؛ كونها كانت مُركّزة ومحدودة.

لكن مع خفوت معظم المعارك في باقي المناطق وهدوء الجبهات نسبياً، ووجود ترامب ونتنياهو الزعيمان اليمينيان القريبان لبعضهما البعض في القيادة في بلديهما، كانت تلك الضربات تأخذ حيّزاً أوسع نسبياً من غيرها، خصوصاً خلال العام الفائت.

كل ما سبق من تزايد في الضربات، لم يصل إلى مستوى ما شهدته المنطقة خلال الأيام القليلة الماضية من ضرباتٍ عسكرية مُؤلمة لإيران ولحلفائها وللسوريين الذين تحوّلوا بدورهم إلى ضحايا هامشيين للتنافسات الإقليمية بطبيعة الحال.

شيءٌ من التمايز في العمليات والضربات وفداحة الخسائر شهدته أرياف ديرالزور هذه الأيام. هذا النوع الحار من الضربات التي ترافقها قوافل من الضحايا والقتلى، مُترابطٌ مع عدّة ملفات، منها ما هو محلي ومنها ما هو إقليمي وآخر دولي.

بالتالي، الضربات الأخيرة التي استولت على عناوين الأخبار المُرتبطة بسوريا، كانت تحمل في طياتها الكثير من المؤشرات. يبدأ المؤشر الأول بالوضع الداخلي في سوريا، حيث تتحدث التحليلات عن كون الروس الذين يغضّون الطرف عن العمليات الإسرائيلية في سوريا يحاولون دفع إيران للانفكاك عن قرار دمشق، وترك تحديد مصير البلاد السياسي لموسكو.

في وقتٍ بدأت موسكو تعتقد أن أحد أسباب تأخّر عملية التسوية مع واشنطن حول سوريا هو الوجود الإيراني داخل البلاد، وتدخلات إسرائيل في هذا الشأن. إضافةً إلى كون إيران نفسها عامل يساعد دمشق على عدم الانجرار التام لروسيا والإنصات التام لها.

المؤشر الثاني، وهو من المُرتبط بالوضع الإقليمي، حيث لاحظ الكثير من المراقبين بأن إيران وتموضعاتها، وخاصة في سوريا، بدأت تتعاظم، هذا التعاظم تم ربطه بشعور طهران بالراحة النسبية لتخلّصها القريب من ضغوطات ترامب المُنهكة للبلاد.

ترامب الذي كان الإيرانيون لا يدركون ما يُخبأه لهم من مفاجأت كان صديقاً حميماً لأعداء إيران، هذا المؤشر على انفكاك طهران من مخاوفها الكامنة، بدأت تظهر من خلال الحديث الإيراني عن أهمية التمسّك بمواقعها، وضرورة ترسيخ التموضعات العسكرية لها ولحلفائها في شرقي سوريا.

هذا النوع من الضرورات الإيرانية تَوّجَه أمين عام مجمع تشخيص مصلحة النظام، الجنرال محسن رضائي، بحديثه الصريح عن “الحزام الذهبي الإيراني”  الذي يمتد من كابول إلى البحر المتوسط.

هذه الرؤية من العمل السياسي، تُحتّم على إيران التموضع في الخط الحدودي مع العراق، ربطٌ لا غنى عنه لرسم معالم المنطقة ذات النفوذ الإيراني، وإن كانت ذات الرؤية لا تعمل بفعالية على الأرض، ويدفع روادها أثماناً لا تضاهي قيمتها الحقيقية. كما يحصل هذه الأيام مع اشتداد القصف الإسرائيلي لمواقع الجماعات الموالية لإيران في شرقي محافظة دير الزور. شيءٌ من محاولة طهران المَريرة لإظهار التمسك بالقدرة على البقاء، والتهرب من مواجهة واقعها المنهك والضعيف، دون جدوى.

المؤشّر الثالث، والمُرتبط بالوضع الدولي العام، إذ تشعر إيران في المحفل الدولي إلى أن مرحلة ما بعد ترامب ستناسبها أكثر، لذا من الضروري عدم خسارة نقاط التفاوض الحالية.

فيما يبدو أن الألم المطلوب لحماية تلك النقاط “لا بأس به” بحسب المنظور الإيراني للتطورات الدولية، فالإيرانيون الذين يعتقدون أن بايدن سيكون على غير نسق سلفه الذي كان مُسالماً بصورةٍ واضحة مع مُنافستها في المنطقة تركيا، وأكثر تشدداً في تعامله مع خصومها الخليجيين، يحاولون تعزيز مواقعهم في شرق الأوسط تمهيداً للدخول للمفاوضات القادمة “المُفترضة” مع واشنطن حول وضع إيران، والعقوبات، والبرنامج النووي، بقوةٍ أكبر.

طريقة التفكير تلك، تدفع حكام اليمين في إسرائيل بدورهم بالتشدد في الرد العسكري على طموحات المخيال الإيراني خلال ما تبقّى من أيام الرئيس الجمهوري ترامب.

الحراك الإيراني غير المُجدي في شرقي سوريا، مكشوفٌ للجميع، باستثناء الإعلام الرسمي لحلفاء إيران ولدواخل الجماعات الموالية لها. تعمل واشنطن داخل العراق على مُحاصرة الحدود ومنع الحراك التابع للحشد الشعبي المحسوب على طهران من التمدد كثيراً على الحدود مع سوريا.

وتسيطر واشنطن على شرقي محافظة دير الزور مع قسد حيث التواجد الإيراني ممنوع، كما تتواجد مع بعض المقاتلين السوريين في منطقة التنف، أما  بقية المنطقة الممتدة بين نهر الفرات بالقرب من البوكمال للتنف، فهو خطّ الوصل المطلوب للحزام الذهبي الإيراني المفترض.

تعمل إسرائيل بصمتٍ روسي، وقبولٍ أميركي، ورضا خليجي، على تدمير ذاك الخط. فالطبيعة الصحراوية لتلك المنطقة، تجعل الأهداف مكشوفة وسهلة. كل هذا، وتبقى إيران مُحافظة على بقائها في تلك المناطق، وتحاول التلبّس بلباس القوات السورية التابعة لحكومة دمشق وتزيد من محاولة تجنيد الشباب السوري في صفوفها؛ للتهرب من الانكشاف الواضح.

هذا التماهي مع قوات دمشق، يدفع أثمانه الحقيقية المواطنون السوريون المنخرطون في تلك القوات، سواء جبراً وهم كثر أو طوعاً. يدفع هؤلاء دمائهم لصالح مُخططٍ لا يعلمون ما هو، ولا يدركون مسوغات وثمرات تلك المخططات.
الحراك الإيراني على الأرض والضربات الجوية الإسرائيلة تجعل المنطقة المُحاذية للحدود مع العراق من المناطق الساخنة عسكرياً، وتزيد من كمية الدماء السورية هناك. ولكنها، تُسهّل عملية فهم ما يُفكر به كل طرف من الأطراف المُنخرطة في الحرب السورية على المدى المتوسط.

هذا الفهم والتناقض بين تلك الأطراف، يتم ترجمته إلى حراكاتٍ عسكرية حارة في الداخل السوري الذي خسر كل شيء تقريباً في صراعات الآخرين وتنافساتهم، ولم يحصل على أي مكافأة في هذا المجال. ولو حتى أزْرار ذهبية بسيطة من حزام  الذهب المطلي بالدم الطويل حول أعناق شعبها.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.