مَسارُ (آستانة) العَقيم وخشية الثّلاثي المؤسِّس من حلولِ واشنطن

مَسارُ (آستانة) العَقيم وخشية الثّلاثي المؤسِّس من حلولِ واشنطن

حالُ مؤتمر (أستانة) السوري الذي انعقد في مدينة سوتشي هذه المرة، يُشبه حال الدول التي تقوده في تعاملها مع الملف السوري، فالمؤتمر الذي وصل للرقم 15؛ هو جزءٌ من عملية لا طائل منها، ومُرتبطة بمصير العلاقة بين هذه الدول فيما بينها وبين باقي الأطراف المعنية بالملف السوري الذي دخل بدوره العقد الثاني من عمره.

المؤتمر الذي يحاول إظهار صموده في وجه الوقائع العسكرية على الأرض والقضايا الدولية المُتداخِلة، هو بحدِّ ذاته صورة لمدى هشاشة عملية الالتزام بمخرجاته وعُقم تفعيله لخطوطه العريضة على الأرض من قبل مؤسسيه الثلاثة (روسيا، تركيا وإيران).

القوى التي كانت ولازالت تنظر إلى واشنطن في فهم المواضيع الإقليمية، مرّرت المؤتمر بهدوء بعد الغموض العام الذي يغطي موقف واشنطن حول سوريا. هذه القوى الرئيسية الثلاث؛ تحاول إيصال الرسائل عن رغباتها ومساراتها التي تناسب مصالحها قبل أن تبدأ الحكومة الجديدة في واشنطن النظر إلى واحدة من الملفات التي تنتظر الالتفات إليها، وهو الملف السوري، شيءٌ من محاولة وضع واشنطن في وجه حواجز ثلاثية الاتجاهات.

العواصم الثلاث المُنظمة للمؤتمر، والتي كانت سعيدة بحضور عواصم بغداد وبيروت وعمان بصفة مراقبين معهم في الجولة الجديدة من حلقات النقاش، تدرك بذات الوقت أن المؤتمر أساسه حواراتٌ لا تنتهي، ولن يفضي سوى إلى تكرار ذات المخرجات البعيدة عن تطبيقها على الأرض.

العواصم الثلاث القائدة لمسار أستانة والتي تراقب التطورات  السياسية في واشنطن، تخشى مما هو قادم، الفرص التاريخية التي استحصلتها في عهد الحكومة السابقة في واشنطن؛ لم تعد في متناول اليد فيما يبدو.

هذا النمط من المراقبة، واضح من خلال حركة الجيوش والجماعات المرتبطة بهم على الأرض السورية، زيادةٌ في الحشد العسكري الروسي في شمال شرقي سوريا، وتحرّشٌ تركي مستمر لنقاط تماسها مع (قسد) في منطقة عين عيسى، وترويجٌ إعلامي لمنابر قريبة منها لاعتدالية بعض الجهات المُتطرّفة، كهيئة تحرير الشام  لدى الرأي العام الدولي، وزيادةٌ في عمليات التمركز والتجنيد والتحريض ضد واشنطن وقسد من قبل طهران في ريف دير الزور وبين العشائر العربية في محافظتي الحسكة والرقة.

التوافق الثلاثي على تثبيط نفوذ واشنطن، يواجه معرفة ذاتية لدى الثلاثة بالعجز في حال تغيير واشنطن بوصلة نفوذها في سوريا مع عودة فريق سياسي مُهتم نسبياً  بإعادة الدور الأميركي في تلك المنطقة من العالم، وكارهٍ للدور الروسي المشاغب فيه، وغاضبٍ من تصرفات الحليف “المفترض” التركي فيه، ومتبدلٍ وغير معلوم الملامح في مجال العلاقة مع طهران وحراكاتها في المنطقة ككل.

الفريق الجديد، الذي لم يُظهِر أوراقه بعد، مُلتزمٌ بالمسار الدولي الذي تجده روسيا مُعطَّل للحل، وتنظر إليه تركيا على أنه تهميشٌ لوزنها السياسي على حساب الدول الكبرى فيه، وتشعر إيران أنه يُبعدها عن مُقايضاتها الخاصة بوضعها الداخلي وعلاقاتها مع العالم الغربي. كل هذا، وحبل العقوبات يزيد من الخناق السياسي والاقتصادي على البلاد ككل.

المسار الثلاثي هذا، لم يعد سوى التفافٍ غير مُجدٍ عن رؤية المواقع الحقيقية على الأرض، الشروخ العامة في المعارضة التي “تتبناها تركيا” الناتجة من بُعاد المسار السعودي الإماراتي المصري عنه، والحقائق المُتعلقة بالوضع الصعب للإيرانيين في سوريا نتيجة التدخل الإسرائيلي في الوضع هناك، ومشاكل الروس المُتعلقة بصعوبة كسب قسد، ووجود واشنطن وحجبها للموارد عن دمشق، جميعها تزيد من هشاشة قدرة المسار المذكور على تقديم حلٍّ جذري للحرب السورية.

لم تعد هناك أيّة قدرة لقادة هذا المسار على الترويج له على أنه في طريقه لتقديم الحلول الحقيقية للحرب السورية، فقد تحوّلت اللقاءات إلى فرصةٍ للظهور الإعلامي، ووسيلة لسرقة المشهد السياسي من الدول الأخرى المنافسة على الملف. بالإضافة إلى كونها آلية لمُحاصرة أجندة الجميع الخارج عن مصالح الأطراف الثلاثة.

الهدايا التبادلية بين الأقطاب الثلاثة، لم تعد بتلك الوفرة السابقة، وفرة من نوع ظهور تركيا في الباب وعفرين، في مقابل حصول حليف طهران وموسكو “النظام السوري” على مدينة حلب وريف دمشق، هذه المساحات الكبيرة للتبادل؛ لم تعد متوفرة.

الجماعات الخارجة من نفوذ تلك القوى الثلاث، كـ (قسد)، يبدو لها من الصبر ما يكفيها أن تحاول التهرب من الرضوخ التام لمطالب حلفاء دمشق، مع شعورها باحتمالية حصولها على بعض الحماية من فريق بايدن. هذا الفريق الذي لم يتكلم سوى بالعموميات المُتعلقة بسوريا حتى اللحظة، ولم يفصح عن خططه الشاملة.

المسار المذكور، سيتداعى في حال شعرت تركيا أن مجاورتها لإيران وروسيا سيجلب عليها العقوبات الأميركية من الحكومة غير السعيدة بالتصرفات التركية في المنطقة، كما أن المسار سيتراجع دوره في حال شعرت موسكو أن الغرب سيفتح لها أبواب جديدة للتفاوض حول سوريا يسهّل عليها عبء كسبهم في عملية إعادة الإعمار المنشودة.

كما أن المسار نفسه؛ سيدخل في مقايضات التفاوض القادم مع إيران حول مصير الاتفاقية النووية التي انسحب منها ترامب.

لذا، فالثلاثة المعنيين بقضية أستانة، يدركون أن هذه اللقاءات ما هي إلا أداة من أدوات المقايضة في الجولات القادمة المتعلقة بالملفات في الشرق الأوسط، والتي فيما يبدو أن دور اللاعبين المحليين فيها ليس إلا دور متوسط.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.