أَحْدَثَ اندلاع الثورة السورية لدى الشعب السوري، كسراً في سطوة النظام الفكرية السائدة، والذي اختصر الدولة وهويتها بشخصياته. لم تَقُلْ تظاهرات السوريين وما تلاها من صراعٍ مسلّح، بغير إسقاط النظام، دون امتلاك تصوّرٍ لما بعده.

وهذا ما فتح التساؤل حول غياب الهوية السورية الجامعة، وهذا الغياب أدى إلى تصاعد هويّات فرعية، طائفية وإثنية وقومية وأحياناً مناطقية، برّرت الولاءات لمشاريع خارجية، وكانت أدوات لها، ما تسببت بحالةٍ من التشرذم وهجرة شرائح واسعة من السوريين، مع فقدان الأمل بمستقبل آمن.

لم تكن طروحات النخب السورية، من سياسيين ليبراليين ويساريين أو رجال دين، حول الهوية، بحجم الأزمة؛ يحاول طيف من المثقفين الإحاطة بالمشكلة، وتقديم حلّ الدولة الوطنية وعلى أساس المواطنة وحقوق الأفراد؛ هذا الحل، واقعي وضروري، لكنه منقوصٌ من حيث أنه يقوم على نظرة سياسية أفرزها الواقع السوري المأزوم.

وبالتالي هو حلٌّ يتعلق بالمرحلة الراهنة، أي ترتيب الوضع الداخلي السوري، ويُهمل نقاشَ مكانة سوريا الإقليمية وفي العالم العربي الذي يتألف شعبه من مختلف القوميات والأديان والإثنيات والطوائف.

وفي هذا السياق تأتي طروحات أخرى بمفهوم “الأمة السورية” وهي أكثر وضوحاً بما يتعلق بحالة الانكفاء السوري في دولة صغيرة، يقطع عقدها الاجتماعي مع أي تفاعل سياسي وثقافي وتضامني مع دول المنطقة.

الإسلاميون بدورهم، في مؤسساتهم الدينية والسياسية، يرفضون طروحات الدولة الوطنية، ويصفونها بـ «التشويش والتدليس على معالم الهوية السورية»، والتي هي برأيهم، إسلامية وعربية استناداً إلى منطق الأغلبية الدينية والقومية.

وهذا ما جاء في آخر بيان أصدره المجلس الإسلامي السوري، وأن اللغة العربية هي اللغة الرسمية، والقيم الثقافية والحضارية السورية إسلامية، متجاهلين العمق الحضاري السوري ما قبل الإسلام، ويرون أن حقوق الأقليات السورية محفوظة، أي باعتبارهم أهل ذمة أو أعاجم بين العرب.

“التدليس” هو القول بأن سوريا جزء من أمة إسلامية متخيَّلة، وهو يترجَم على أرض الواقع بتبعية لتركيا، والمجلسُ الموقر وسائرُ الإسلاميين أيّدوا احتلال تركيا أجزاءً من سوريا، وتبعية فصائل إسلامية لها، بطريقة الارتزاق، وهم بالتالي لا يعترفون بالوطنية السورية، ولا يقدمون تصوراً متكاملاً لمشروعهم الخاص.

فهم يقولون إنهم يقبلون بالديمقراطية والحريات، لكنهم يرفضون تقديم أي نقد أو مراجعة لكل ما يتعلق بالموروث الإسلامي التشريعي منه أو السياسي، من تجربة الخلافة في الدولة الإسلامية، والتي لا تتناسب مع قيم العصر، وحتى تجارب الإسلام السياسي في العالم العربي.

قول الإسلاميين بالهوية العربية وأن اللغة العربية هي الرسمية دون الاعتراف باللغات الأخرى، كالكردية والسريانية والآشورية، فهو وحده كفيل بنسف كل محاولات توحيد السوريين تحت سقف عقد اجتماعي موحّد.

بنظرهم، السوريون هم طوائف وأعراق منغلقة على نفسها، ثابتة منذ الأزل ويريدونها كذلك حتى الأبد، بترسيخ تلك الكيانات ضمن العقد الاجتماعي؛ وبالتالي فإن منطقهم في تحديد الهوية، على أساس الدين أو العرق أو اللغة، هو منطق مشتِّت للسوريين، ورفضهم الدخول في أي نقد اجتماعي سياسي وحقوقي وديني، يعني أنّهم لا يملكون غير عقلية الاستبداد ذاتها التي حكم بها البعث لأكثر من نصف قرن.

إذا كان نظام البعث قد صادر إمكانية تطور هوية سورية خاصة، فإن تلك الهوية لم تكن متشكلة قبله. فالدولة السورية التي نبحث عن هويّة تجمع مواطنيها، لم يمضِ على نشوئها سوى مئة عام، اتسمت بعدم الاستقرار.

إذ لم يُكتب لدستور الملك فيصل عام 1920 النجاح، حيث أقره مؤتمر عام منتخب، بلا مركزية إدارية اقتضاها اتساع مساحة سوريا الكبرى حينها، والتي ضمّت لبنان وفلسطين والأردن، وشكّل حينها المؤتمر العام أول سلطة برلمانية تشريعية، لكن كل ذلك انتهى مع دخول الاحتلال الفرنسي بعد ثلاثة أشهر، وتقسيم سوريا الكبرى باتفاقية سايكس بيكو.

انعشت حركات التحرر ضد الاستعمار الفرنسي مشتركات لدى السوريين، لكن ذلك لم يكن كافياً لتشكّل شعور وطني سوري، بسبب صعوبة تقبل التقسيم المفروض، وإعلان دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وهي جزء من سوريا الكبرى.

تصاعد حينها الشعور القومي العربي، رداً على سياسة التتريك العثمانية أولاً، وثانياً رداً على التقسيم وإعلان إقامة دولة إسرائيل. هذا الشعور لم يكن مؤدلجاً، بل كان دافعاً لانخراط عدد كبير من الشباب السوري في حركات المقاومة الفلسطينية.

البرجوازية السورية الصاعدة في الخمسينيات، كانت رثّة، ومتخلفة، وطفيلية كونها من مخلفات الاستعمار، ولم تتمكن من تشكيل هوية سورية، وعجزت عن الحكم أو تحقيق الاستقرار، لذلك تكررت الانقلابات العسكرية حينها.

انقلاب البعث استطاع الاحتفاظ بالسلطة، بسبب التحالف مع تلك البرجوازية أولاً، دون الاصطدام مع رغبتها في إبقاء المجتمع متخلفاً لضمان السيطرة عليه عبر تحالفها العضوي مع المؤسسة الدينية.

وثانياً، باعتماده على أبناء الريف في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، عبر ما قدمه من إصلاحات اشتراكية الطابع لأبناء الريف المهمّش عموماً، وخاصة في مجال التعليم والتوظيف. فيما صادر نظام الأسد، بعد السبعين، أية فرصة للتطور والتغيير، عبر استبدادٍ رسّخه بعد حرب الثمانينيات الدموية.

الصراع السوري خلال العقد الأخير، وتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ مع تواجد احتلالات متعددة، وتعمُّق حالة الشقاق العربي الكردي، كل ذلك يقود إلى مراجعة الطروحات اليسارية العروبية الطابع، عند البحث في صياغة عقد اجتماعي يجمعهم في دولة واحدة.

باتت فكرة المواطنة أساسية لبناء الدولة، من أجل النهوض بالواقع المتشرذم؛ وهذا يحتاج أيضاً أن تكون اللامركزية الإدارية جغرافية الطابع، وليست على أسس إثنية أو عرقية، مع الاعتراف بحقوق الأقليات القومية الثقافية كاملة، واستقلال القضاء، وحرية التعبير، والتركيز على كيفية بناء اقتصاد قوي يؤمّن احتياجات الناس، وأن تأخذ الدولة دورها في دعم المنتوج الصناعي والزراعي، وإلزام القطاع الخاص بأن يكون منتجاً، بدلاً من الاستثمار في القطاعات الريعية.

الأمان المعيشي شرطٌ أساسي لبناء ثقافة المواطنة والاستقرار، وعلى أساسهما سيتفاعل السوريون على اختلاف مناطقهم وقومياتهم ودياناتهم، ويبنون هويتهم وثقافتهم ودورهم الحضاري.

ولا يمكن فصل سوريا عن محيطها العربي، فهناك تأثير متبادل بين الشعوب العربية، بدءاً بعدوى الثورات، إلى طرح مشكلاتها في الأسلمة والعسكرة والطائفية، وهو ما حصل في الموجات اللاحقة للثورات (السودان، الجزائر، لبنان، العراق)، وهناك تفاعل حول النقاشات الحقوقية وتحرر المرأة والقوانين التي تدور في بلدان سبقت إلى الديمقراطية والحريات، كما في تونس.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.