المسلسلات والبرامج الاستعراضية التي تناولت قصة «شهرزاد وشهريار»، بدأت الحكاية من حيث الملك المدلل “شهريار” الذي يقتل النساء بعد كل ليلة، لكنها لم تخبرنا عن سبب عقدة “شهريار” وعن الدافع وراء رغبته في قتل النساء، لم يخبرنا أي عمل فني عن خيانة زوجتي الملكين “شهريار” وأخيه “شاه زمان” لهما، وبأن الملكين هجرا الزوجتين الخائنتين وقررا السفر، فصادفا “سيدة الحرائر” التي اختطفها الجني العملاق في ليلة عرسها، ووضعها في علبة، ووضع العلبة داخل صندوق له سبعة أقفال ورماها في قاع البحر، إلا أن “سيدة الحرائر” رغم ذلك تمكنت من ممارسة الجنس مع كل من صادفتهم على اليابسة خلال نوم الجني، وأجبرت “شهريار” وأخيه على فعل ذلك، بعدما هدّدتهما بأن الجني سوف يقتلهما إن أخبرته بوجودهما، هكذا تبدأ قصة ألف ليلة وليلة المشحونة بمقولة ذكورية مفادها أن «كل النساء خائنات، ولذلك يجب على شهريار قتلهن!».

تقول الطبيبة والباحثة والأديبّة الراحلة “نوال السعدواي” في كتابها “عن المرأة والدين والأخلاق”: «لقد قرأت الكثير عن “شهرزاد”، وكيف رَّوضت “شهريار”، لكني لم أقرأ عن “شهريار” ولماذا تمتَّع بهذه السلطة المطلقة لسفك الدماء، أو لماذا حظي بهذه الحرية ليقتل كما يشاء، أو لماذا حظي بهذه الفوضى ليفعل مايشاء، فالفرق كبير بين الحرية والفوضى، لأن الحرية مسؤولية ترفع الملك أو الحاكم إلى مستوى الإنسانية، فيحترم حقوق الآخرين، لكن الفوضى التي حظَي بها “شهريار” هي الفوضى ذاتها التي يحظى بها الملوك والحكام في ظل العبودية وحتى يومنا هذا».

وتصف “السعداوي”، “شهرزاد” بالزوجة المسلية والجارية والعشيقة، التي دلّلت زوجها لتزيد من مرضه السلطوي، وأنجبت له الذكور لتشبع ذكورته حتى الثمالة، موضحةً أن الثقافة العربيّة تغنّت بـ”شهرزاد” رغم أنها استخدمت الجنس للسيطرة على زوجها عوضاً عن مواجهته وتغيره، فالمجتمع الذكوري مجّد “شهرزاد” الجارية المطيعة التي تسلك طريق الجنس و المكر والدهاء للحفاظ على حياتها بدلاً من الوقوف في وجه “شهريار” الذكوري مريض السلطة المطلقة.

من “شهرزاد” تنتقل “السعدواي” إلى الأديبّة والكاتبة “مي زيادة”، لتقول: «”مي زيادة” لم تكن مريضة نفسيٍّاً، لم تكن مريضة بعقلها، بل العكس، كانت تتمتع بموهبة عقلية نادرة، إلا أنها لم تكن مثل “شهرزاد”، لم تلعب “مي زيادة” الدور الأنثوي الأمومي لرجل واحد، بل فتحت صالونها الأدبي لعدد من الرجال يزيد على العشرين، ولا أدري لماذا لم تفتح “مي زيادة” صالونها للنساء أيضاً؟ ألم يكن في عصرها نساء أديبات أو على الأقل هاويات للأدب؟».

وتحكي المفكرة “السعدواي” عن صالون “مي زيادة” التي توفيت في القاهرة عام ١٩٤١: «لقد ظل صالونها مسرحاً لعالم الرجال، رجال عجائز متزوجين وغير متزوجين، يتبارون في معركة غامضة أيهم يكون الفائز الأَّول أو الفائز الوحيد، وكانت “مي” المرأة الوحيدة وسط الرجال، لا تنافسها امرأة أخرى، يفوح عطرها الأنثوي وشبابها الغض وسط بحر من الكهول الذكوري، تركوا زوجاتهم في البيوت، واتجهوا للسهر والفرفشة والترويح عن النفس من كآبة الشيخوخة وملل الحياة الزوجية».

تشير “السعداوي” إلى أن “مي زيادة” أحبت في البداية دور “شهرزاد” فرغم كونها أديبة مبدعة وامرأة حرة وشجاعة، عاشت بلا زوج وبلا أطفال، إلا أنها لعبت دوراً في صالونها الأدبي يشبه دور “شهرزاد”، إلا أن “شهريار” لم يكن واحداً بل عشرين “شهريار”، «بحر من العيون والآذان الذكورية المتطلعة المتعطشة للحب، رجال تجاوزوا الستين عاماً وعاشوا جدب العواطف داخل مؤسسة الزواج، خرجوا من بيوتهم يبحثون عن الحب تحت وهم الأدب أو الشعر، يستمعون إلى “مي زيادة” وهي تتحدث بصوتها الأنثوي الناعم، فيطربون كما كانوا يطربون لسماع “أم كلثوم”، يخلعون الطرابيش ويصفقون:الله الله.. وقد يقع أحدهم في حبها أو قد يقع جميعهم، إلا أنه حب هش لا يصمد أمام ضوء النهار، ويسقط أمام أية محنة أو امتحان».

تتابع “السعداوي”: «لهذا السبب تبخر هؤلاء الرجال في الهواء حين أُودعت “مي زيادة” في المستشفى النفسي في لبنان إثر مؤامرة الأقارب للاستيلاء على أموالها، تلاشت “مي” من خيال هؤلاء الرجال، لم يزرها أحدهم بالمستشفى، وعندما نجحت في الخروج من الأزمة وعادت إلى مصر، وبدأت تلقي المحاضرات ويتألق نجمها من جديد، ظَّلت وحيدة، ورفضت أن تلتقي بهؤلاء الذين تخلوا عنها وقت المحنة، وماتت وحيدة».

هكذا تفوقت في رأي “السعداوي”، “مي زيادة” على “شهرزاد” في الشجاعة والإقدام، واستطاعت أن ترفض الدور العبودي للأنوثة وللأمومة، وأن تترك وراءها ثروة أدبيّة أكثر أهمية من أن تلد ثلاثة من الذكور.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.