علاقة الفتاة بوالدتها علاقة معقدة قد تنطوي على تقليد أعمى حد التقديس في بعض الأحيان وعلى كره وعداوة في أحيان أخرى، وفيما كانت النساء في الماضي يحاولن بأقصى جهدهنَّ لتكون حياتهنَّ مشابهة لحياة أمهاتهنَّ التي كانت تعتبر مثالاً، تحاول فتيات اليوم التخلص من ذلك الشبه الخفي بينهنَّ وبين أمهاتهن، في محاولة لنيل استقلاليتهنَّ وإحساسهنَّ بالتفرّد والخصوصية، فهل ينجحن في ذلك؟

وما هو السبب الخفي الذي يجعل حياة الفتيات بشكل أو بآخر تحاكي حياة أمهاتهنَّ وتقترب منها بشكل كبير؟

«حتى سن الخامسة والعشرين كنت أحاول جاهدة أن يكون لي أسلوبي الخاص ومبادئي وحياتي التي تشبهني فقط، بعدها تزوجتُ وأنجبت صبياً وبنتاً، نحاول دائما أنا وزوجي تربيتهما تربية حديثة أساسها النقاش والتوعية، إلا أنني غالباً ما أواجه مشكلة لا أجد لها حلاً، وهي لجوئي لتعنيف أطفالي بشكلٍ هستيري فأجد نفسي لأتفه سبب أعنفهما و أُخرج كل غضبي عليهما حتى لو لم يرتكبا خطأً، وهذا ما كانت تفعله معي أمي”»

“سمية حسين” (اسم مستعار)، تبلغ من العمر 31 عاماً، الآن وهي خريجة كلية الاقتصاد قسم المحاسبة، بعد دخولها الجامعة وازدياد درجة وعيها أدركتْ تماماً حجم الأخطاء التي ارتكبها والداها في تربيتها هي وأخوتها، وبدأت تعمل على أن تخلّص نفسها من الآثار وأن تربي أبناءها بطريقة مغايرة، إلا أنها غالباً ما تجد نفسها تسلك سلوكيات والدتها، تتابع لـ(الحل نت): «لا يمكنني التحكم بنفسي في تلك اللحظات أو محاكمة ما أفعله بعقلانية، لا شعورياً أبدأ بالقيام بأفعال كنت أكرهها في صغري من أمي، وأخلص في أحيان كثيرة إلى أن تلك الطريقة في التربية هي الأنجح وأتذكر كل المواقف التي عاقبتني فيها والدتي وما عدت أكرر ذات الأخطاء بعدها وأطبقها على أولادي».

“بيير داكو”، عالم النفس بلجيكي، يصف علاقة الفتاة بأمها بالقول “«الأم سطح واسع من الماء- والبنت اسفنجة ولا بد من أن تبتل هذه الاسفنجة بذلك الماء».

في الظاهر تبدو علاقة الفتيات بأمهاتهنَّ علاقة عادية تتفاوت القواسم المشتركة فيما بينهما، ولكن وحسب علم النفس ينطوي اللاشعور العميق لدى الفتاة على تشابه يصل إلى حد التطابق في بعض الأحيان مع والدتها، هذا التشابه المخفي يعبر عن نفسه في الواقع بأشكال مختلفة قد يكون رفضاً أو كرهاً أو حباً عنيفاً للأم المثال، وتشكل الأم صورة الأنوثة التي تقلدها الفتاة وتحاكيها في حياتها إن كان على المستوى الشخصي أو الاجتماعي، بعض الفتيات يذهبن إلى محاكاة ظاهرية واضحة لسلوكيات الأم وطريقتها في الحياة، وأخريات يرفضن ذلك ولكن لا يستطعن ابتكار البديل أو مواجهة المشاكل نتيجة ذلك.

علاقة الأم بالأب وتأثيرها على الفتيات

“لمى مختار” (اسم مستعار)، بعد بلوغها سن الـ20 ودخولها الجامعة قررتْ ترك والديها والعيش بمفردها، كانت “لمى” تعيش بين والدين يغيب التفاهم من حياتهما، اتسمت شخصية والدتها بالتسلط فيما كان والدها أكثر لطفاً و هدوءاً، تتحدث “لمى” عن تأثير أمها في حياتها وتقول لـ(الحل نت): «ظننت أنني بابتعادي عن عائلتي أستطيع أن أشكل أسلوباً خاصاً بي، إلا أنني لم أستطع السيطرة على كامل حياتي، وخاصة علاقتي بالرجال، فكل ما حاولت أن أدخل بعلاقة مع رجل أجد نفسي بدأت بالتحول لشخص يريد التحكم بكل شيء حتى أدق التفاصيل وهذا ما جعلني أفشل في علاقتين حتى الآن، مؤخراً بدأت ألاحظ هذه المشكلة لدي بعد أن تساءلت طويلاً عن أسباب فشل علاقاتي، لا أعرف ما الذي يمكنني فعله فما من طريقة لتغيير هذه السمة لدي وأصبح يرافقني خوف من الفشل في المستقبل».

تؤثر علاقة الأم بالأب بشكل كبير على الأبناء، وبخاصة الفتيات حيث تتشكل لدى الفتاة تصوراتها عن الرجال من خلال والدتها وما تقوله أو تسلكه مع والدها، لا تدرك معظم النساء أن علاقتها بزوجها هي الشكل الذي يترسخ عميقاً في وعي أبنائهم للعلاقة بين الجنسين، ففي الوقت الذي ينعدم الاحترام المتبادل بين الزوجين أو تقدير بعضهما لبعض، أو سيطرة أحدهما على الآخر يلتقط الأبناء كل ذلك ليصبح مقياساً لنجاح العلاقة أو فشلها.

“حنان التلة” (اسم مستعار)، عاشت تجربة معاكسة لتجربة “لمى”، فهي ابنة لوالدة مثالية في أخلاقها وطاعتها حسب مقاييس المجتمع الذي تنتمي إليه، فيما يمتلك والدها شخصية مسيطرة تتحكم بالعائلة وبحياة الجميع، تزوجت “حنان” في عمر التاسعة عشر بضغط من والدها، فتقول لـ(الحل نت): «أعامل زوجي بنفس طريقة معاملة أمي لأبي، لا أرفض له طلباً وحتى لا أترك له المجال لأن يطلب مني، وبالرغم من أنه لطيف ويطلب مني أن أجد وقتاً لنفسي وأهتم بها، إلا أن هناك خوف خفي يتحكم بي ويحركني مثل الآلة لأقوم بجميع مهامي دون تباطؤ أو راحة».

تعتبر الأم هي المحرك الخفي لأفعال الفتيات وخاصة في مجتمع مثل المجتمع السوري يتسم بالانغلاق على نفسه وخاصة حياة المرأة فيه، قلة التجارب والمشاهدات لسلوكيات مغايرة والعيش في كنف الأم لفترة طويلة يجعل من الفتاة نسخة معدلة عنها في معظم الأحيان، وذلك دون إرادة الفتاة فالسلوك يعلَّم كما كل شيء في الحياة وسلوكياتنا بشكل من الأشكال هي سلوكيات آبائنا، لا تستطيع الفتاة بعد أن تعيش عشرين عاماً أو أكثر أن تبتكر أسلوباً خاصاً بها إلا إذا كانت تمتلك درجة عالية من الوعي والمعرفة وذلك لا ينطبق على الغالبية من الفتيات السوريّات، فيما يشكل المجتمع عقبة أمام أي فعل مغاير أو سلوك مختلف، بإلقاء اللوم و المسؤولية على الأم مع كل فعل تقوم به الفتاة وهنا تلجأ الفتاة للمغالاة في التصرف وفق المبادئ والأخلاقيات والصفات التي ورثتها عن والدتها.

كيف تؤثر هذه المحاكاة على وضع المرأة في مجتمعنا؟

تحتاج المساواة بين الرجل والمرأة إلى رفض تام لسلوكيات التبعية التي اعتادتها النساء، وخروج فتيات كل جيل من الأجيال خطوة أخرى من كنف السلطة الأبوية، النجاح في ذلك وقف على الأمهات كما على بناتهن، فلِتعيش النساء ضمن حيزهنَّ الخاص وحريتهنَّ عليهنَّ أن يتحررن مسبقاً من هذه المحاكاة لحياة أمهاتهن، وذلك يكون بطريقتين الأولى من خلال تتبع الأم لطريقة في تربية ابنتها تختلف عن تلك التي خضعت لها، وأن تحاول جاهدة أن تنقل لها صورة الأنوثة والمرأة بأفضل الطرق، وتدرك مدى تأثيرها العميق على ابنتها وترسخ سلوكياتها في اللا شعور لدى هذه الطفلة التي ستصبح بدورها أمّاً، والدور الآخر يقع على الفتاة حيث بوعيها وإدراكها لبنيتها النفسية والصفات التي تمتلكها تستطيع المفاضلة بين ما هو جيد وما هو سيء لتنتقي ما تحاكيه من والدتها ويبقى للتعليم والتربية النفسية الدور الأكبر في لفت الانتباه لذلك والعمل على تنشئة فتيات أكثر سلامة نفسية وجسدية، قادرات على عيش حياتهنَّ وتجربتهنَّ الخاصة بهن.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.