رغم اتِّصال التَّصعيد الفلسطيني الإسرائيلي بشكلٍ مباشر باعتباراتٍ داخلية لها علاقة بتذمّر “حماس” من قرار “فتح” بتأجيل الانتخابات الفلسطينية، وتخطيط الإسرائيليين المسبق لإطاحة سلطة “بنيامين نتنياهو”، والتقاء المصالح حول التَّصعيد، بهدف تعزيز المشروعية السياسية من بوابة الماكينة العسكرية، هذا المعطى الداخلي، رغم أهميته؛ لن يحول دون أن يلقي التصعيد العسكري الخطير بين حماس وإسرائيل بظلاله على مختلف الملفات الساخنة في المنطقة.

فالقضية الفلسطينية لم تكن يوماً شأناً داخلياً، على العكس تماماً، فقد كانت في مقدمة الشؤون العربية والإسلامية والدولية، ولقيت اهتماماً كبيراً خلال عقودٍ من عمر النكبة واعتُبِرت “القضية المركزية”، هكذا وصفها العرب والمسلمون.

وفي أفضل مراحل استقرارهم، خاض العرب آخر حروبهم الرسمية ضد إسرائيل منذ ٤٨ عاماً، قبل أن يقرروا الاعتماد بشكلٍ منفرد على وكلاء محليين في لبنان وفلسطين، يزجّون بهم في معارك محدودة وموجّهة مع إسرائيل، تنتهي مع انتهاء الحاجة لها على الصعيد الداخلي والخارجي.

ومع غياب التوافق العربي، وصعود إيران كقوة إسلامية بعد سقوط الشاه عام ١٩٧٩، دخلت طهران على خط الجرح الفلسطيني المفتوح وشكّلت عام ١٩٨٨ فيلق القدس المسؤول عن العمليات القتالية خارج الحدود الإقليمية لإيران، وانخرطت بشدة في منافسة الدول العربية لفرض الهيمنة الإعلامية على مسرح القضية الفلسطينية، بعدها انضمت تركيا إلى قائمة الدول الإسلامية المهتمة بملف فلسطين في عام ١٩٩٧، ما أدى آنذاك إلى إطاحة رئيس وزرائها “نجم الدين أربكان” الذي استقال بعد أيامٍ من اتخاذه قراراً بإرسال قوات تركية إلى الخليل بفلسطين، بصفة مراقب.

ورغم تراجع الاهتمام الرسمي العربي بالقضية الفلسطينية؛ إلا أنها احتفظت بموقعها المركزي على الصعيد الشعبي، قبل أن تتحوّل ثورات الربيع العربي إلى حروبٍ أهلية داخلية مزّقت هياكل العديد من الدول وشرّدت شعوبها، وجعلت منها ميداناً للتزاحم الإقليمي والدولي وباتت معظم شعوبها مقسّمةً بين الاستيلاءين الإيراني والتركي، لتتراجع القضية الفلسطينية مجدداً، محافظةً على مركزها الرمزي داخلياً وضمن مفردات الخطاب البراغماتي التنافسي فيما بين الحكومات والحركات السياسية المتنافسة معها.

وقد جاء التصعيد العسكري الأخير في فلسطين، في مرحلةٍ ارتفعت معها الآمال على مسارات متصلة تهدف لخفض التوتر المرتبط بقضايا صراعية تعيشها الساحة الشرق أوسطية، بدءاً من مسار المصالحة العربية الإسرائيلية الذي تبناه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ومسار التهدئة التركي الذي أطلقته أنقرة مع كل من مصر والمملكة العربية السعودية، إلى جانب التحرك الدولي نحو طهران والانخراط الإيراني في عملية تفاوض تخص برنامجها النووي.

وبالتأكيد، أحرج هذا التصعيد معظم الأطراف في المنطقة، فالدول العربية التي ارتبطت مؤخّراً باتفاقات سلام مع تل أبيب، لاتزال تسعى لإقناع الشارع العربي بأهمية الخطوة في مواجهة خطر التمدد التركي والإيراني، كذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي وجدت نفسها مؤخّراً ملزمةً بالتوجه نحو القاهرة والرياض، وهي التي طالما تعمّدت تهييج العواطف الإسلامية وتوجيه الانتقادات الحادة للدور العربي الذي تعتبره متقاعساً تجاه فلسطين.

فهي تواجه موقفاً حرجاً، فإما أن تستمر في تقديم المزيد من التنازلات لمصر والسعودية وخسارة جزءٍ من شعبيتها في أوساط الإسلام السياسي، وإما التشبث بالخطاب التعبوي الشعبي، وبالتالي إضاعة فرصة المصالحة مع البروتوكول الرسمي العربي الذي تحتاجه أنقرة لتأمين مكاسبها الإقليمية، عدا عن انشغالها التام بتوفير الدعم الدولي الذي افتقدته في حربها ضد الصعود الكردي خلف حدود سوريا والعراق.

وفي الضفة الأخرى، تبدو إيران متهيّئة لتكون المستفيد الوحيد من التصعيد الإسرائيلي الفلسطيني، خصوصاً مع دخول قائد الحرس الثوري الإيراني على خط الأزمة واتصاله برئيس المكتب السياسي لحماس، فمن غير الممكن أن تهمل طهران هذا التطور المهم، دون الاستثمار فيه، وهي الراغبة سلفاً في جعل العالم يعتقد بأنها تقف خلف “صواريخ القسام” التي تمكنت من بلوغ الأحياء المدنية، وأن نفوذ إيران لا يقتصر فقط على حزب الله في جنوب لبنان؛ بل بات أقرب مما يتخيّله العالم إلى حدود إسرائيل.

والرسالة الأهم، هي أن القصف الإسرائيلي المتواصل الذي استهدف مواقع تابعة لإيران في سوريا، لن يمر دون انتقام، وتهدف إيران إلى الحصول على ما يضمن استمرار تأثيرها في سوريا والعراق ولبنان، لكنها لن تقدم على مغامرات تجعلها تخسر موقعها التفاوضي في الملف النووي الذي أصبح “الحبل الشوكي” بالنسبة للسياسة الإيرانية.

قصارى القول، يبدو أن معظم الأطراف المعنية بالقضية الفلسطينية والمتصارعة أساساً في سوريا والعراق وليبيا وغيرها من بلدان الربيع العربي، لن تنتج خطاباً متناقضاً تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وستصوغ مواقف متطابقة تجاه حقوق “المدنيين الفلسطينيين”، طالما أن هذه المواقف لن تخرج عن مساق البراغماتية الخطابية، ولن ترافقها خطوات إجرائية على الأرض، وسيبقى الخاسر مطلقاً هو الشعب الفلسطيني الذي تتنازعه داخلياً أيضاً حركاتٌ سياسية محلية مرتهنة- وعن تراضٍ- لهذه البلدان المختلفة والتي تقتضي مصلحتها أن تُعِدَ لها مسلحين يمثلونها في فلسطين كما في كلِّ مسرحٍ إقليميٍ آخر.

وفي ظلِّ عمق الصراع البيني في المنطقة، يصبح من الصعب الفصل بين القضية الفلسطينية وقضايا بلدان الربيع العربي من حيث التنازع عليها إقليمياً ودولياً، ولا يمكن التغاضي عن الخلافات الحادة بين ثلاثة أطراف إقليمية (إيران- تركيا- دول الخليج) والذي أدى صراعها على بلدان الربيع العربي إلى دمار البنية الاجتماعية والاقتصادية، وإشعال الحروب الأهلية وتغيير التركيبة السكانية ومئات الآلاف من الضحايا.

وبالتالي، من غير المرجّح أن تفكر الأطراف الثلاثة بطريقةٍ أفضل تجاه الفلسطينيين! ويمكن القول، بأن تعثّر تجربة بلدان الربيع العربي حتى الآن على خلفية هذه التدخلات الإقليمية الصريحة، باتت تشي بشكلٍ واضح بأسباب فشل التوصّل لحلٍّ نهائي لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، فالدول التي ساهمت في احتلال وتدمير بلدان الربيع العربي، لن تبني فلسطين، ولن تحرّرها من أيِّ احتلالات.

ويبدو أن الجرح الفلسطيني الذي لازال مفتوحاً منذ سبعة عقود، وبدل أن يلتحم، فقد تمدّد ليشمل معظم الدول العربية في المنطقة، وهنا يبقى التساؤل مفتوحاً حول ما إن كانت حُمى هذا الجرح ستمتدُ أبعد من ذلك، لتصل إلى إيران أيضاً، أو ربما تركيا، قبل تحقيق سلامٍ عام وشامل في عموم المنطقة والشرق الأوسط، والبدء بتسويةٍ جذرية لصراعات الاستنزاف التاريخية التي لا منتصر فيها حتى الآن.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.