“هواوي” والتوسّع الصيني في العالم: لماذا تبيع الشركة هواتفها بأقل من سعر التكلفة؟

“هواوي” والتوسّع الصيني في العالم: لماذا تبيع الشركة هواتفها بأقل من سعر التكلفة؟

تسبب خطأ تقني على موقع شركة “هواوي” الرسمي، في نهاية العام 2020، بالسماح بتسرّب مستندات تقنية، تفيد بأن الشركة تقدّمت إلى الحكومة الصينية بطلب للحصول على براءة اختراع تقنية تخصّ التعرّف على الوجوه “Face recognition”، لتساعد السلطات الصينية بالتعرّف على الأشخاص المنتمين لأقلية #الأويغور المسلمة في الصين وخارجها، ومراقبتهم بشكل دائم.

المصدر IPVM

المستندات المكشوفة، والتي قامت شركة “IPVM” الأميركية، العاملة على تقييم تقنيات المراقبة، بتحليلها ونشرها، تحمل وسم “سري للغاية”، وتُظهر بأن التقنية المبنية تم تطويرها بالتعاون بين شركتي “هواوي” و “ميكفي” Megvii، إحدى عمالقة البرمجيات في #الصين. وبعد ضغوط شديدة من قبل حكومات أوروبية اعترفت “هواوي” و”ميكفي” بأن الوثائق المنشورة صحيحة، ولكنهما أنكرتا استخدام التقنية.

المصدر IPVM

فكرة التقنية قائمة على أن يتم تشغيل تقنية ” Megvi”، الخاصة بالتعرّف على الوجوه، على المنصات السحابية الخاصة بشركة “هواوي”. بمعنى اخر، لنفرض أن أحد مستخدمي هواتف “هواوي” المحمولة من أصل أيغوري، مقيمٌ في إحدى الدول الأوروبية، وقام بتسجيل فيديو، ورفعه على حسابه الشخصي الخاص بالتخزين السحابي، الذي توفره شركة “هواوي”، فسيتم بشكل أتوماتيكي فحص جميع الفيديوهات المرفوعة من قبل هذا المستخدم وغيره، عبر تقنية “Megvii” للتعرّف على الوجوه، وبفضل هذا سيتم معرفة مكان تواجد المستخدم المٌستهدف، ورقم هاتفه، ومعلوماته الشخصية، وجهات اتصاله، في الصين وخارجها.

هذا النوع من الانتهاكات الصارخة لخصوصية المستخدمين ليس بجديد على شركة “هواوي”، وعلى إثره تم فرض عقوبات اقتصادية على شركتي “هواوي” و”مكفي”، من قبل وزارة الخزانة الأمريكية.

 

السيطرة على سوق مستخدمي الهاتف المحمول

في العام 2019 زرت #تونس العاصمة لحضور مؤتمر “RightsCon” الخاص بحقوق الأنسان في العصر الرقمي، وتفاجأت من عدد المحال التجارية، التي ترفع شعار شركة “هواوي”؛ ومن كمية الأجهزة المحمولة المنتشرة بين المستخدمين، المصنّعة من قبل هذه الشركة وغيرها من الشركات الصينية.

أتفهّم بأن الشركة تستطيع بسهولة منافسة البدائل الكورية والأميركية من ناحية السعر، ولكن لا تفسير لقدرتها الكبيرة على تخفيض أسعار أجهزتها إلا برغبتها بالسيطرة على السوق في المنطقة. ليس جديداً على الشركات أن تقوم ببيع أجهزتها بسعر أرخص من سعر التكلفة، في سبيل المحافظة على المستخدمين، وتوليد أرباح بطرق أخرى، فشركة “مايكروسوفت”، على سبيل المثال، تخسر ما يقارب الـ30% من سعر تصنيع جهاز الـ”Xbox”، للسيطرة على سوق الألعاب. فهل تقوم “هواوي” ببيع الأجهزة بسعر رخيص لتحقق أرباحاً بطرق أخرى؟

 

التوسّع باتجاه البنى التحتية

في العام الماضي طُلب مني عبر منظمة بريطانية أن اعمل مرشداً، في مجال أمن المعلومات، لأحد الطلبة العراقيين المتفوقين في مجالهم التقني، وخلال فترة ستة أشهر، تعرفت عبر هذا الطالب، واسمه “علي”، على السوق العراقية التقنية.

في إحدى الجلسات سألني “علي” عن بعض الشهادات التقنية، التي يرغب بالتقدّم للحصول عليها، وعندما كان يذكر لي أسماء تلك الشهادات، مثل”HCIA”، “HCIP”، لم أكن قادراً على معرفة أي منها دون البحث على الإنترنت، وتفاجأت بأن السوق العراقية تحوّلت من الاعتماد على أنظمة “Cisco” الأميركية، فما يخصّ البنى التحتية التقنية، إلى منتجات شركة “هواوي” الصينية، في غضون أقل من عشرة أعوام.

أخبرني “علي” بأن منتجات الشركة أرخص، ما يجعل جهات ومستهلكين كُثر يقبلون على شرائها، وبأن “هواوي” استطاعت الدخول إلى مفاصل الدولة العراقية، وأماكن صناعة القرار، عبر الرشاوى والفساد، وهي في طور استبدال البنى التحتية التقنية بالكامل، وهو ما حصل سابقاً في إفريقيا، حيث تمتلك الشركة علاقات جيدة مع الحكومات والقيادات السياسية، مما سمح لها بالتوسّع في القارة، وبالذات في مجال شبكات الجيل الخامس “5G”.

 

المشكلة في القوانين

بحسب تقرير حرية الأنترنت السنوي، الذي تنشره منظمة “بيت الحرية”، وكنت أحد المساهمين فيه لأعوام، فإن الصين تحتل المرتبة الأولى من ناحية شدة مراقبة المحتوى وتقييده عبر الأنترنت.

الصين يحكمها نظام شيوعي صارم، فالدولة المركزية لها اليد العليا في كل المجالات، ومن ضمنها المجالات التجارية، وبالتالي فالسوق الصيني ليس سوقاً حراً. وبحسب قانون الأمن الوطني الصيني للعام 2017، فإن الشركات الخاصة، مثل “هواوي” وغيرها، ملزمة بتسليم جميع المعلومات التي تمتلكها للحكومة الصينية، في حال تم طلب ذلك منها.

شركة “هواوي” صرّحت بأن القانون لا يشمل مستخدمي الشركة ومنصاتها خارج حدود السلطة القضائية للحكومة الصينية. ولكن إذا كُنت مستخدماً لإحدى منتجات الشركة في العراق مثلاً، ودولتي لا تمتلك قوانين تقيّد وتحدد أماكن تخزين البيانات الخاصة بالمستخدمين العراقيين، فقد تكون بياناتي محفوظة في مخدّمات موجودة في الصين، ضمن نطاق السلطات القضائية الصينية، مما يعني أن بياناتي يتم الدخول اليها من قبل الحكومة الصينية.

 

هل البدائل الأخرى تحمي خصوصيتي؟

عملت وما أزال في عديد من الشركات الأميركية الكبرى، التي تعالج كمية هائلة من البيانات الحساسة الخاصة بالمستخدمين، وبوصفي مختصاً في مجال أمن المعلومات، والهجمات السيبرانية المتقدمة، شاركت بعدة تحقيقات، ساهمت فيها أطراف خارجية متعددة. باختصار، القوانين الموجودة في الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وغيرها من الدول الديمقراطية، ما تزال إشكالية، وقد تكون قديمة وتحتاج للتطوير، إلا أنها على الأقل تضمن دوراً للسلطات القضائية، للبت في طلبات الجهات الحكومية بالوصول إلى معلومات تخصّ أشخاصاً معينين، وفي الولايات المتحدة الأميركية تكون الأوامر القضائية مكشوفة للعامة.

لست في موضع دفاع عن جهة معينة، ولكن بصفتي مشاركاً عن قوى المجتمع المدني، حضرت جلسات نقاش متعددة، في العام 2016، رعتها منظمة “New America foundation”، جرت بين جهات حكومية، ومنظمات مدنية، والقطاع الخاص، حول دور القانون في قضية فك تشفير أجهزة “آيفون”، ما بين شركة “أبل” ومكتب التحقيقات الفيدرالية الأميركي “FBI”، بعد حادثة الهجوم الإرهابي في مدينة “سان بردينو” في ولاية كاليفورنيا عام 2015.

أثناء النقاش حاول مكتب التحقيقات الفيدرالية الدفاع عن مطالبه، التي تتلخص بالحصول على بوابات خلفية، لفك تشفير أجهزة “آيفون”، في حال وجود تهديد أمني، أو هجمات إرهابية محتملة، إلا أن الجلسات المتعددة أفضت إلى رفض هذه المطالب، وقضت باستحالة حصول “FBI” على بوابات خلفية، لتعارض الفكرة بالأساس مع الحقوق الدستورية، الموضوعة لحماية خصوصية المواطنين والمستخدمين، إضافة للمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الأنسان في مجالات الخصوصية، ولكون البوابات الخلفية تعدياً على حرية السوق.

 

البيانات الشخصية هي الثروة الجديدة

في العام 2017 نشرت مجلة “أيكونومست” مقالاً بعنوان «النفط لم يعد المورد الأكثر قيمة، بل البيانات»، ومن هذا المنطلق تمتلك الصين أهدافاً امنية واقتصادية، أحدها قمع واضطهاد اقلية الأويغور المسلمة، والتوسع ضمن الأسواق النامية في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.

اصطدمت الخطة التوسعية لشركة “هواوي” في الولايات المتحدة بالقوانين، التي تفرض حماية بيانات وخصوصية المستخدمين، وبسبب عدم شفافية الشركة من الناحية الأمنية، تم وضعها على قوائم العقوبات، وخسرت السوق الأمريكية. اليوم، وبعد العام 2019، تم تقييد شركة “هواوي” في دول #الاتحاد_الأوروبي، مرة أخرى بسبب الانتهاكات والتهديدات الأمنية، وعلى أثر ذلك تم تقييد مشروع الجيل الخامس “5G”، المُزمع تنفيذه من قبل الشركة في بعض الدول الأوروبية.

 

ختاماً

قد توفّر الشركات الصينية اليوم بدائل رخيصة مقارنة بمثيلاتها الكورية والأوروبية والأمريكية، إلا أن التحديات الأمنية والاقتصادية الاستراتيجية، التي قد تسببها تلك البدائل، ستشكل عبئاً على الدول، التي مضت باستخدام البنى التحتية المُوفرة من قبل “هواوي” وغيرها من الشركات الصينية، لذا من الضروري تطوير قوانين تقييد انتهاكات الخصوصية، التي قد تمارسها تلك الشركات، وإجبارها على تأسيس فروع محلية، تخضع للقوانين المحلية لا الصينية، ومن ضمنها إجبار تلك الشركات على بناء مخازن للبيانات داخل الدول المستهدفة، لأن البيانات الشخصية، الخاصة بمواطني دولة معينة، يجب أن تبقى ضمن النطاق الجغرافي الخاص بتلك الدولة، ليتم حماية المستخدمين بشكل قانوني، وعندها سنرى إن كانت الشركات الصينية قادرة على الاستمرار بالمنافسة من ناحية السعر، خصوصاً وأنها ستخسر فرصة توليد أرباح بطرق أخرى، وبالتالي لن تجازف بمزيد من الخسائر، عبر بيع أجهزتها بأسعار لا تحقق أصلاً ثمن التكلفة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.