عن العَسكرة و”قدسيّة” السِّلاح في الثَّورة السُّوريّة ومشهديّة الهزيمة

عن العَسكرة و”قدسيّة” السِّلاح في الثَّورة السُّوريّة ومشهديّة الهزيمة

«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» عبارة ناصرية أُطلِقت بعد هزيمة العرب في ١٩٦٧ غرضها الأساسي، إسكات كل شيء ثقافي، فكري، سياسي أو أي جانب أو نشاط مدني من حياة المجتمع يسعى إلى مراجعةٍ ما أو نقدٍ ما، للواقع والمآل الذي وصل بالعرب لهزيمة حزيران.

فأصبح كل صوت أو فعل عقلاني لا شعاراتي، محط نفور وإقصاء، فالجرح عميق والنكسة موجعة وظاهرة على كل الصُعد، وستبقى كذلك كجرحٍ نرجسي أخر وكندبةٍ ملتهبة ومؤلمة لعقود طويلة تخطت النصف قرن وحللنا في هذا الشهر في سنتها الرابعة والخمسون.

أصواتٌ أخرى كانت محلّ ترحيب وتشجيع في هذا الواقع والمآل، وأدبيات كل التيارات الفكرية والسياسية وحتى الفنية، لا تستطيع أن تخلو من هذا الصوت أو “الدوز Dose” الملطّف لهذا الجرح والمخفف لالتهاب تلك الندبة.

فبقي “السلاح صاحي” في كل تفصيل وفي كل فكرة، وأصبحت كل الأدبيات أسيرة هذه العقلية الحربجية والعسكريتارية وبنسب مختلفة؛ “خلي السلاح صاحي” لعبد الحليم حافظ سنة ١٩٦٨ كانت من أوائل الإنتاجات الفنية التي استجابت لصوت المعركة، فعلى الرغم من رداءتها الفنية ومحدودية المعنى والكلام وحتى اللحن فيها، بقيت صاحية في ذاكرة الشعوب التي ذاقت طعم هزيمة حزيران والتي ستذوق فيما بعد هزائم متلاحقة وأكثر إيلاماً على الأرجح.

هذه المشهدية التي قاربت تقديس السلاح وتبجيل المعركة، لها ركيزة أساسية وجذر صلب أيضاً في التراث والتاريخ السلطاني والإمبراطوري لمنطقتنا وفي تكوين الإنسان “العربي”، هذا التاريخ الذي ما زال حاضراً بيننا بقوة إلى اليوم حتى صرنا مؤمنين أن التاريخ ليس أحداثٌ من الماضي نُقلت لنا، بل هو مستحضر ومستحدثُ بيننا، ولا يُراد له المضي.

فهو مستحضر ونستحدثه بطريقةٍ تراجيدية، لأنه لا طاقة لنا لتصديق ما خالفه أو ما خالف ما صُوِّر لنا عنه، والأصوات التي لا تغرد ضمن أسراب السلاح والمعركة، هي بالحقيقة دعوة “مزعجة” للتصديق والنظر والتفحص في الواقع والتاريخ، ومشهدية ما بعد الهزيمة، لا تريد لأي صوت يذكرها بـ “جرحها النرجسي الأنثروبولوجي” الذي فككه لنا الراحل الكبير جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات: عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية) الجزء الأول.

لكن الصوت المقابل أو “الدوز Dose” الملطّف للجرح، لم يأت أكله ولم يشفِ ولم يساعد، بل زادت جراحنا وأصبحت أكثر ألماً وكَثُرت نداباتنا وتقيّحت التهاباتها.

مصر عبد الناصر، عراق البعث، سوريا البعث، فصائل المقاومة الفلسطينية، لبنان والمقاومة الإسلامية فيه، وأحزاب وتيارات أخرى كثيرة في هذا الفضاء “الصاحي” أعلت الصوت والسلاح فوق كل أولوية، وهذا الأمر كان واضحاً ومصاحباً لكلّ الخطابات السياسية والعلاقات الدولية والأزمات المجتمعية التي واجهها هذا الفضاء على طول نصف قرنٍ المنصرم.

ولعلنا اليوم أمام استمرار عبثي للمشهدية اللاعقلانية لما بعد الهزيمة أو الهزائم الداخلية والخارجية، حتى بات من فينا يَصف الهزيمة بانتصار، كمريض انفصام يريد منا أن نصدّق بأنه سليم النفس وصحيح العقل.

فواقع الحال والصراع في غزة مؤخراً والتي فيها صوت المعركة والسلاح أعلى من أصوات المقاومة المدنية السلمية، وسطوة سلاح حزب الله في لبنان المنتشي “بانتصارات المقاومة”، تقطع أي يد تمتد أو حتى رأس تأتيه فكرة للخلاص من هذه السطوة وإعمال العقل، وصمود وتصدي النظام السوري الذي جمع أكبر عدد من الشمّاعات، إسرائيليةً كانت أم “إرهابية”، وأغرب أنواع الانتصارات دمّر أوطان وشرّد وقتل الملايين، لأن هناك في البداية من طالب بالتغيير والحرية.

أما المعارضة السورية المسلحة، فلقدسية سلاح الثورة فصلُ آخر، للغوص فيه مخاطر كثيرة، منها التعرض لمحاكم ثورية وسحب شهادات الوطنية.

حُمِلَ السلاح في الثورة السورية، رغم معارضة طيف واسع في المعارضة، للدفاع عن المتظاهرين ورد عدوان النظام وأجهزته الأمنية عن الناس العزل ولدعم الحراك المدني، وفي البدء كان التسلح محصوراً لحدٍ كبير بين عناصر وضباط الجيش المنشقين الذين أرادوا تشكيل جيشٍ حرٍ من خبراتهم العسكرية، ليكون نواة لجيش محترف ووطني.

ما لبثت هذه المحاولة أن تعرضت لتحيّد وإقصاء عام وشامل، فبحسب ناشطين عملوا على الأرض مع تلك النواة ومع ذلك التشكيل في الغوطة مثلاً، فإن التصفيات والاغتيالات طالت كل من لم يذعن إلى دعوات الأسلمة ولم يلتحق بفصائل الإسلام الجهادي الذي انفجر بقوة بالمشهد السوري.

ويقول ضابط برتبة عميد يُقيم في تركيا أن أكثر من ٦٥٠٠ ضابط أغلبهم في تركيا تم تحيدهم وإبعادهم عن الصراع العسكري بسوريا، ليحتل الساحة متطوعون إسلاميون ليس لديهم خبرة بالعلوم العسكرية ولا تاريخ عسكري. ليصير مصير الوطن وأبناؤه وتضحياتهم ومآل الثورة، بيد من رفع صوت المعركة عالياً، ومن خلى السلاح الإسلامي الجهادي اللاخبراتي صاحي.

وهنا نسأل، من يخون ويُشبّح ويقصي الأصوات الأخرى الداعية للمراجعات النقدية والتقييمية؟ واصفاً إياها بالخنجر في ظهر الثورة وبالمشوهة للثورة ومشيطنة للثوار: ألم يُحمل السلاح للدفاع عمن هم بلا سلاح والذين لا يملكون سلاح إلا الكلمة؟ وهل للعسكري صوت سياسي أعلى من غيره اضافةً لصوت سلاحه وعسكرياته، وفي حال الأسلمة، لديه صوت وكلمة ثالثة تفوّق بها على غيره وقدّس بها سلاحه، ألا وهي كلمة الله التي يريد أن يعليها كما تم إعلاء صوت السلاح والمعركة.

ومن ثم، ألا تكفي كل تلك النتائج المأساوية والمآلات التراجيدية التي مُنينا بها حتى نسمع ونتيح المجال لمن ليس لديهم إلا الكلمة والفكر والقلم، والذين أُقصوا وغُيّبوا طوال فترة الصراع والحرب، وأصبح كل العسكريين والمسلحين يملكون أفضلية وأولوية لا تستقيم أبداً مع فكر الحرية والديمقراطية.

أم أننا ملتزمون بمشهدية “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” و” خلي السلاح صاحي” للاستمرار بمشاهدة جرحنا النرجسي وزيادة التهاب ندباتنا الأليمة.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.