وجدت الحضارة الإنسانية -منذ فجرها الأول- شغفاً غامضاً في تخيل الكوارث وتوقعها، ثم وجدت شغفاً لا يقلُّ عنه في جمع وتعقب “العلامات/الإشارات” الدالة على اقتراب مواعيد تحقق هذه النبوءات، لكن ورغم أن حضارتنا اليوم، تشهدُ ثورة “معلوماتٍ” غير مسبوقةً، تُمكنها من جمع أكثر “العلامات” دلالةً وموثوقيةً، ومن صوغِ أكثر النبوءاتِ دقةً وتحديداً من بين ما تسنى لها صوغه يوماً في تاريخها، فإنه وللمفارقة، تشيرُ الدلالات الراهنة نفسُها إلى تبلدٍ غير مسبوقٍ، تشهده الإنسانية اليومَ في استجابتها لهذه العلامات، بل إن بعضاً من “الكوارث” التي كان يحلو لنا وصفها بالـ”آتية”، باتت واقعاً معاشاً ومشهداً يومياً.

قد لا تحتاجُ نبوءاتُ هذا العصر إلى هباتٍ خارقة للوصول إليها، ويمكن لإحداها أن تطالعك بصورة مقالٍ أو تقرير منشور على شبكة الإنترنت، وتأتيك بعناوين عريضة: «عمالة الأطفال تزداد إلى 160 مليون طفل في أول ارتفاع منذ عقدين، منظمة العمل الدولية واليونيسف تحذران من أن تسعة ملايين طفل معرضون لخطر العمل بسبب جائحة كوفيد-19»، يونيسيف 9 حزيران/يونيو 2021.

ويقودك العنوان/ النذيرُ إلى عناوين أخرى، «بعد 10 سنوات من النزاع في سوريا: يحتاج 90% من الأطفال إلى الدعم إذ يدفع العنف والأزمة الاقتصادية وجائحة “كوفيد-19” العائلات إلى حافة الهاوية»، منظمة العمل الدولية – يونيسيف 10 حزيران/يونيو 2021.

أطفال محكومون بالأعمال الشاقة ليحيوا

تغصُّ منصات التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية بمقاطع فيديو حية لأطفالٍ سورييّن داخل وخارج سوريا، يعملون في كسارات الصخور أو حراقات النفط أو مستودعات خردة الأسلحة أو سواها من مواقع الأعمال غير الملائمة للأطفال.

في تقريرٍ مصور نشرته قناة DW الألمانيّة في نيسان/ أبريل الفائت، يبدأ بما سماه معد التقرير “مشهدٌ يصعب تصديقه”، يظهر فيه طفلان (مالك وكريم) يعملان في مستودع خردة، يحتوي بقايا مختلف أنواع القذائف ومخلفات الحرب، ويظهران أثناء قيامهما بتفكيك “الصواعق” للذخائر التي لم تنفجر، ويتمنى كلٌّ منهما العودة إلى المدرسة، في حين يذكران سبباً مشتركاً لقيامهما بهذا العمل الخطير، وهو اضطرارهما إلى إعالة ذويهما.

وفي مقطع فيديو آخر انتشر بصورة واسعة خلال الأشهر الأخيرة، يظهر طفل سوري ينشد بصوتٍ جميل أثناء عمله داخل إحدى حراقات النفط، وفي مشهدٍ درامي كان الطفل ينشد “الفكرُ يا إنسانُ لو أطلقتهُ..”

أية قيمةٍ للأرقام في عالم البالغين؟

تكفيك عملية بحث واحدة في منصات التواصل، لتنبثق أمامك عشرات مقاطع الفيديو الشبيهة لأطفال سورييّن يمارسون أعمالاً/أشغالاً شاقة، ويبدو محالاً معها تجنب السؤال التالي: ما هي قيمة الأرقام في “عالم البالغين” اليوم؟ وأية أهمية لها كدلالات على الكوارث التي يمضون إليها مع سبق الإصرار والتصميم؟ وأيُّ جدوى لمكاتب الإحصاء والأرقام التي تنتجها، ما يُعلنُ منها وما يُعمَّى على السواء، حين نصبحُ نحن الأرقام؟

كانت المجموعات الإحصائية التي تصدر عن المكتب الرسمي للإحصاء في سوريا سابقاً وحتى عام 2000، تتضمن إشارةً ضمن فصل “القوى البشرية والقوى العاملة” للأطفال العاملين بين سن 10 و14 أعوام، وذلك قبل قيام “الحكومة السوريّة” بالمصادقة على اتفاقية “الحد الأدنى لسن الاستخدام” في عام 2001، حيث ما كان من الحكومة التي صادقت لتوها على الاتفاقية التي تلزمها بصوغ الحلول لمشكلة “عمالة الأطفال” في سوريا، إلا أنها قررت أن تلجأ -عوضاً عن ذلك- لمنهج شطب المشاكل أمام المجتمع الدولي، وهو المنهج المألوف والمجرب والمضمون لديها منذ عقود، وباتت تستثني شريحة الأطفال في بياناتها التي تنتجها أو تشاركها.

بعد أقل من عقدين من الزمن، عام 2011، عمَّت سوريا مظاهراتٍ واحتجاجاتٍ، كانت إحدى شراراتها الرئيسية حينها، قيامُ المخابرات السوريّة باعتقال أطفالٍ من طلاب المدارس في محافظة درعا وتعذيبهم وإهانة أهاليهم، ليتحول الحدثُ بعد عدة أشهر إلى نزاعٍ مسلح دامٍ امتدَّ حتى اللحظة، وأنتجَ فيضاً من البيانات حول أكثر الحقائق والوقائع ألماً وقسوة.

“بياناتٌ” لا تزال تبدو عصيةً على كل محاولات الإحصاء وإنتاج الأرقام التي تجتهد فيها الهيئات والمنظمات، وفي حين لم تعد لدى العالم أية حاجةٍ لأرقام الحكومة السوريّة لبرهنة الحقائق المعروفة، باتت تبدو هذه الحقائق أقل تأثيراً من أي وقتٍ مضى.

“حسين”(اسم مستعار)، يبلغ من العمر 12 عاماً، من ريف دمشق، يقول لـ(الحل نت): «أعيش مع أمي وإخوتي الخمسة، أنا أكبرهم سناً وعليّ أن أعمل كل يوم في جمع عبوّات المياه البلاستيكية الفارغة من حاويات القمامة لأعطيها لجارنا مقابل بعض النقود. إن لم أعمل سيموت إخوتي جوعاً».

أكثر من 90% من أطفال سوريا يحتاجون الدعم

وفقاً للمادة 3 من الاتفاقية 182 بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال لعام 1999، فإن “أسوأ أشكال عمل الأطفال” تشمل: بيع الأطفال والاتجار بهم، والعمل القسري، والتجنيد القسري، واستخدام الأطفال أو تشغيلهم/ن أو عرضهم/ن لغرض جنسي، أو استخدامهم/ن لإنجاز أعمال غير مشروعة كالاتجار بالمخدرات أو تشغيلهم/ن في أعمال تعرضهم/ن للخطر أو تؤدي لأضرار صحية.

وقد أدى كل من أعمال العنف والانهيار الاقتصادي مع ما يصحبهما من تأثيرات اجتماعية طوال سنوات الحرب في سوريا، إلى شيوع مزاولة الأطفال لهذه الأشكال “الأسوأ” من الأعمال، وهي الحالات التي تبقى أكثر نأياً عن عدسات الكاميرات واستبيانات الإحصاء رغم شيوعها، وقد اكتملت الحلقة بانتشار جائحة كورونا منذ مطلع 2020 وحتى اليوم، لتبلغ النسبة التي قدرتها اليونيسيف لأطفال سوريا المحتاجين للدعم أكثر من 90% منهم، وفقاً للتقرير المذكور آنفاً، أي أننا إن تأنينا قليلاً هنا، سندرك أن هذه الأرقام باتت تتجاوز كونها “نسبة مئوية” فحسب، وأصبحت إشارةً لـ”جيل كامل” في واقع الحال.

«أبيع أنا وأختي(6 سنوات) علب المحارم وكمامات الوجه على إشارات المرور، ولا أعتقد أننا سنذهب يوماً إلى المدرسة لأن أبي عاجز عن العمل ودخل أمي لا يكفينا لنعيش»، هذا ما قالته “سارة”(اسم مستعار) ذات الـ 14 عاماُ لـ(الحل نت).

فما هي قيمة الأرقام إذاً؟ وما أهميتها في “عالم البالغين” اليوم، قياساً للكارثة الواقعة والمنتظرة، أو”حافة الهاوية” كما عُنونت في البيان الصادر عن منظمتي اليونيسيف والعمل الدولية بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.